قضايا

جمال الهنداويّ: الطهطاوي.. إنْ عاد

قبل ما يزيد على السبعة عشر عقداً أوفد التحديثي المجدد المصري الرائد الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى مدينة النور.. وعندما عاد بعدها إلى المحروسة مشبعاً بقيم العدل والمساواة أطلق كلماته الخالدة: هناك في فرنسا يوجد إسلام من دون مسلمين. وهنا في مصر يوجد مسلمون من دون إسلام.

والمؤلم ليس مدى انطباق هذه العبارة على واقعنا الراهن فحسب.. بل في أن عبارة تبلغ من العمر عتياً تطرح تصوراً أكثر حداثوية وملائمة لحياتنا المعاصرة من الطروحات السائدة في مجتمعنا الإسلامي في القرن الواحد والعشرين..

ولو قدر الآن لفضيلة الشيخ-رحمه الله- أن يطل علينا وعلى عالمنا، لوجد عالما يتحدث فيه الجميع عن الإسلام فالمسلمون يتحدثون عن الإسلام، والمسيحيون يتحدثون عن الإسلام، وكذلك اليهود والهندوس والبوذيون وأتباع كونفوشيوس وزرادشت ومناهضو كونفوشيوس وزرادشت.. بالإضافة إلى أهل البدع والأهواء والملاحدة والمترددين والمتشككين واللامبالين.. ولكل إسلامه الذي يتداوله.. و لرأى أشكالاً من الإسلام يصعب التفريق بينها تتصارع وتتجادل فيما بينها وكل يتبوأ مقعده من المحجة البيضاء ويحتكر لقب الفئة المنصورة.. وسيرى عندها انه لم يعد هناك لا إسلام ولا مسلمون..

بل سيلاحظ بلا كبير جهد مجتمعات قهر وظلم واستبداد وفساد وتخلف تتصارع على أحقية الاستيلاء على تراث الرسول الكريم لاستخدامه كوسيلة لسوق شعوبهم كالعبيد.. .ولوجد أن الإسلام والأمة الإسلامية اليوم يتخذان عدة صور تختلف وتتباين تبعاً للمسافة التي تفصل دعاتها عن الحاكم..

فسيرتطم فضيلته أولاً–وبالضرورة- بالإسلام الرسمي الميري.. الإسلام المخملي المعطر المطرز بالمسابح الثمينة والوجوه المدورة المحمرة والقفاطين والعمائم والجبب المكوية بعناية.. الإسلام الخاضع لإرادة وتفسير ظل الله المتمدد والمتوسع والمتحكم والمتسنم على رقاب العباد.. والمؤيد ببركات شيوخ السلطة ومريديهم ومتملقيهم.. إسلام يقتصر دور الفقه فيه على السهر على إدامة صلاحية المادة التي تقول بعدم جواز الخروج على السلطان حتى ولو كان جائراً والبحث والتخريج والاستنباط لكل ما يبرر ويشرع التأبد الدهري التام للسلطان على كرسيه والتشدد الكامل في ذلك حد الكفر.. ومحاولة تطويع المعلوم من الدين مع ما يعتقده الحاكم وما يعتنقه من تفسير.وما دون ذلك فيعد من الترف الممل المثير للضجر وخارج اهتمامات فقه النخبة ورجال الكهنوت الارستقراطي.

وسيمر بالتأكيد على " النسخة الشعبية من الإسلام" التي يترفع عنها الفقهاء المكرسون حكومياً وإعلاماً فضائياً.. لانعدام المنفعة المباشرة-نسبياً- من ورائها.. ولقلة المردود المنتظر من ممارستها.. والتي يتولاها عادة فقهاء الخط الثاني أو الثالث بل وكل من يتمتع بقابلية نمو جيدة وسريعة وكثيفة لشعر الذقن.. والذين يتصدون لمهمة ترويجها ونشرها بين زوايا المساجد المنسية والتكايا العتيقة والتي تصادفها في كل جوانب سلوكياتنا وأنماط تفكيرنا.. والتي تتحكم في قراراتنا وتقييمنا للأمور وفي تفسيرنا للعوارض الحياتية والمستجدات المعاشة.. نسخة مؤسسة على هوس مرضي بالماورائيات والميتافيزيقيا عن طريق مزج المقدس من النص مع خليط من الميثولوجيا والعادات والتقاليد الموروثة مع الأدب الشعبي المحلي والمرويات القديمة وحكايا الجدات في الليالي الباردة.. لتنتج لنا ممارسة إسلامية مكونة من مدى واسع من الطقوس والعقائد التي يكون حجرها الأساس كرامات الأولياء والمعجزات الخارقة للصالحين وما تتبعه من عادات وأدعية مخصصة ومنسوبة والتركيز على استجلاب بركة الرب بواسطة أقوال معينة يكون سرها مخزوناً في فؤاد وجوانح الفقيه.. واستبعاد العقل و تهميشه واعتماد القولبة والنمطية في الممارسات وتخطئة التفكير كنوع من الاعتراض على التسليم الكامل للإله والاكتفاء من الدين بشعارات وطقوس ميكانيكية دون إعمال العقل في فهم معناها أو المغزى منها.. وهذا الإسلام يكتب له تاريخاً موازياً للعالم الواقعي ويقحم في الأحداث التاريخية خوارق ومعجزات تكون أغلبها مستقاة من البيئة التي ينمو فيها هذا النمط من العبادة وإسنادها إلى التوفيقات الإلهية مثل السير على الماء والكلام مع السباع والهوام والحيات والملائكة التي تتدخل دائماً لنصرة العبد في شدة الضيق والكثير من الروايات المبثوثة في تراجم العباد والزهاد والنساك والصالحين والتي تماهي الهوس الشعبي التقليدي بالرجل الخارق الذي تحرسه السماء وتنفذ مشيئته بأمر الله..

وسيكون فضيلة الشيخ الطهطاوي محظوظاً إذا لم يصادف إسلام السيف.. الإسلام السياسي.. المبني على ما أقره فقهاء الجهاد.. خصوصاً أنَّ ملبسه قد لا يتطابق مع ما انتظرنا أربعة عشر لكي نكتشف بأنه الزي الشرعي الوحيد الذي سيدخلنا الجنة.. الإسلام الذي يتمتع بالاحتكار الكامل للصواب.. والتملك التام للحقيقة والتقرب إلى الله برؤوس ورقاب المخالفين.. الإسلام المسؤول عن التذابح المتعاظم بين المسلمين وتكديس الجثث في الطرقات بعضها فوق بعض.. والمعتمد على أكثر التفسيرات تطرفاً ودمويةً لآيات الحرب..

سيكون فضيلة الشيخ أمام مجموعة من الاجتهادات المحملة بشحنات هائلة من الكراهية والانقسام المتشتت حد التكفير واللاجئة إلى القتل والإقصاء كخيار أول في منازعتها للآخر المساوي في الخلق والمناظر في الدين..

اجتهادات مهدت لدول تنتظر سنوياً تقرير الأمم المتحدة للدول الفاشلة لتتيه الدولة العاشرة في الترتيب المهين على الدولة التاسعة فخراً..

اجتهادات لم تنجح في إيجاد صيغ لحل أي مشكلة.. ولا في استقراء أو حتى تلمس تصور ممكن لاشتراطات حياتنا المعاصرة.. والاجتهاد الوحيد في حل إشكالية تخلفنا كمجتمعات إسلامية هو في العودة أربعة عشر قرنا إلى الوراء..

اجتهادات لم تفلح في تحديد وبيان الأسلوب الشرعي والسليم لتداول السلطة.. وأدخلتنا في نزاع مستمر ومتقادم على السلطة منذ سقيفة بني ساعدة وحتى الراهن من أيامنا.. ودون أن يرف جفن لأعلامنا الأعلام وسادتنا الأجلاء وهم يباركون سحق الشعب تحت أحذية حكام التغلب والانقلابات..

أما الإسلام كصلة روحية تربط المخلوق بخالقه. الإسلام كدين ينادي بالحرية والثورة كدافع للتقدم والتنوير والعدل. الإسلام الممثل للكثير من قيم المعروف والتقوى والصلاح. الإسلام كدين يدعو للعدالة الاجتماعية والمساواة. وكدين تآخ ورحمة وسلام. الإسلام كدين يدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة.. الإسلام الذي يهذب المسلم على تقوى الله وأنَّ دم المسلم وماله وعرضه حرام.. فهو موجود.. وقد يشغل المساحة الأكبر من الطيف الإسلامي المعاصر.. ولكنه مدفون تحت ركام من التشويش الفقهي المبرمج للحفاظ على المكتسبات المادية والاجتماعية لدعاة السوء وفقهاء الطغيان.. مما يصعب علينا تمييزه وتلمسه.. وبالتأكيد لن يلاحظه فضيلة الشيخ الطهطاوي.

***

جمال الهنداويّ

في المثقف اليوم