قضايا

اياد الزهيري: هكذا فهمت الرسول في القرآن (6)

الرسول (ص) ومبدأ الشفاعة:

أستَشفعَ: طلب الناصرَ، والشفاعة هي ألتماس العفو أو التخفيف من العقوبة عن الغير، وعندما نقول تشفع فلان بصديقه، يعني توسل به ووسطه لقضاء حاجته . يتبين من هذه المعاني، أن الشفاعة وسيلة يستعين بها الآنسان لقضاء حاجة أو دفع ضرر، أو جلب منفعة لايستطيع هو بنفسه قضاءها، الا بواسطة من غيره.

الانسان كائن يمكن أن ينتابه القصور في تحقيق ما يربو له، ويعجز أحياناً في دفع ضرر يعترضه في حياته، فيستنجد بوالديه أو أصدقائه، وأحياناً عندما يضيق به الوسع يسعى الى مناجات الغريب في قضاء حاجة ضرورية وملحة له . الشفاعة بكل مظاهرها التي ذكرناه أعلاه وارده جداً في حياتنا الدنيا، والتي تأخذ صفة المساعدة والمعاونة في الأمور ذات الطابع الأنساني، وهذا بالطبع ذو طابع أيجابي، ولكن هناك تشفع ذو طابع سلبي، والذي يُعرف بالمحسوبية والمنسوبية، والمتعارف عليه اليوم ب (الواسطة)، ولكن موضوعنا في هذه الحلقة يتناول جانب آخر لا علاقة له بالحياة الدنيا، بل جانب ما بعد الموت، وهو جانب يأخذ أهتمام الذين يؤمنون بحياة مابعد الموت، ومن هؤلاء قطعاً المسلمون، وهو جانب يلعب دوراً مهماً وحساساً في حياة الانسان، وله أنعكاسة على حياته في هذه الدنيا بأعتبار أن الدنيا مزرعة الآخرة كما يُقال، وأن طبيعة عملك بها يقرر مقدار منزلتك في الآخرة، وبما ان الأنسان خَطاء، فقد يتعثر في مسيرته الدنيوية بأخطاء متعمدة، وأخرى غير متعمدة، وبما أنه حريص على النجاح والفلاح في الآخرة، تراه يبحث عن الوسيلة التي ترفع عنه ما أقترفت يداه من خطايا وذنوب تزيد من وقوفه أمام خالقه يوم القيامة، وأن ثَقُلت كفة ميزان سيئاته يكون مصيره جهنم، والعكس ينتهي به الى جنة النعيم . بما أن الأسلام دين سماوي، فهو ممن يوعد أتباعة بالجنة مقابل مايقدمونه من خير في الحياة الدنيا، ويحذرهم من نار جهنم أن أساءوا عملاً، وهنا يكون المؤمن بهذا الدين حريص أن يكون من أصحاب النعيم، وتراه يسعى بكل الوسائل التي تحقق له مراده لهذه الغاية السعيدة، وأول هذه الوسائل لاشك هو العمل الصالح (..ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مُؤمن فُأُولئِك يدخلون الجنة يُرزقون فيها بغير حِساب)(غافر:40)، وكما قلنا فأن ولد آدم خطائون فهم لا يتوانون في البحث عن الوسيلة التي تقلل عنهم أخطائهم، التي تمنعهم من تحقيق مرادهم في جنة الخلد التي أُعدت للمؤمنين.

شفاعة الرسول:

من الأمور التي يستعين بها المسلمون للفلاح برضا الله هو شفاعة رسولهم لهم يوم الورود (القيامة)، وهذه الشفاعة لاشك لها قيود وشروط، وعندما تتوفر شروطها يشملهم عَطاءُها، والأيمان بحصول الشفاعة يعطيهم دفق جديد وقوي لأستأناف حياة جديدة قائمة على أساس تغير عميق في حياة الأنسان، يدخله في طور جديد مختلف عن الطور الأول الذي ألتمس الشفاعة من الرسول الأكرم أو من غيره من الصالحين ليكون فرداً صالحاً يبدأ حياته بمشوار جديد يرضى به الله.

في الأسلام قاعدة واضحة تقول ( كل نفس بما كسبت رهينة)(المدثر:38) أي أن عمل الأنسان هو الأساس في تقرير مصيره، ولكن رحمة الله، وكعامل مشجع له في عمل الخير، جعل له وسائل أخرى مساعدة تساهم في عملية التغير الأيجابي، والرسول (ص) كشخصية لها كرامتها عند الله، يمكنه، أو له الصلاحية المقيدة في ما يُسمى بالشفاعة، يقول الحديث النبوي (أنا أول شافع في الجنة).

هنا نأتي الى قضية شفاعة الرسول، وهل هي حره أم مُقيدة؟، هناك آيات في القرآن الكريم تتراوح فيها الشفاعة بين التقيد التام بيد الله، كما في الآية (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم)(ال عمران:128)، وحتى الله يخبر الرسول بأن ينبئ المسلمين بأنه هو نفسه لا يملك لها نفعاً ولا ضراً (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ألا ما شاء الله)(الأعراف:188)، وهناك نص يقول أن النبي صارح بنته فاطمة الزهراء (ع) وكل آقاربه من عبد مناف، بقوله لهم جميعاً (أشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد مناف أشتروا أنفسكم من الله، لا أُغني عنكم من الله شيئاً، ياعباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ياصفية عَمَة رسول الله لا أَغني عنكِ من الله شيئاً، يافاطمة بنت محمد سليني من مالي ماشئتي لا أُغني عنك من الله شيئاً(صحيح الجامع) كما أخرجه مسلم والبخاري، وبين أطلاق للشفاعة مقيد كما جاء في بعض من الآيات القرآنية (يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أَذِنَ له الرحمن ورَضي له قولاً)(طه:109) و(لايشفعون الا لمن أرتضى) (الأنبياء:28) . يتضح من خلال ذلك أن الشفاعة يتردد ذكرها بين النفي المطلق والأثبات المقيد. وفيما يلي آيات من الذكر الحكيم تؤكد ذلك:

(وأتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولاهم يُبصرون)(البقرة:48)

(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون)(البقرة:254)

(فما تنفعهم شفاعة الشافعين)(المدثر:48)

(وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)(الأنعام:51)

(ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)(السجدة:4)

(ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع) (:الأنعام:70) (الأنعام(،4)

(..ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) (:الأنعام:51)

(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)(يونس:18)

(سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (المنافقون:6)

( أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)(التوبة:80)

(فما لنا من شافعين)(الشعراء:100)

(الله الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم أستوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون)(السجدة:4)

(قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون)(الزمر:44)

(وأنذرهم يوم الأزفة اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع)(غافر:18)

( لا يملك الذين يَعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون)(الزخرف:86)

كما أن هنك آيات تظهر الشفاعة بها مقيدة، ومنها الآيات التالية:

(وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً الا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى)(النجم:26)

(يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون الا لمن أرتضى..)(الأنبياء:28)

(ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أَذن له حتى اذا فزع عن قلوبهم قالوا...)(سبأ:23)

(يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من أذِن له الرحمن ورضَي له قَولاً)(طه:109)

(من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعةً سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مُّقيتاً)(النساء:85)

(... من ذا الذي يشفع عنده اِلا بأذنه ...) (البقرة:255)

(ان ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش يدير الأمر ما من شفيع الا من بعد اذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون)(يونس:3)

(لايملكون الشفاعة الا من اذِنَ له الرحمن ورضي له قولا)(طه:109)

(لايملكون الشفاعة الا من أتخذ عند الرحمان عهدا)(مريم:87)

يتضح لنا وبشكل جلي بأن مسألة الشفاعة تكون حصراً بأرادة الله، ولكن وبفضل الله لعباده من الملائكة والأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحين من عباده شملهم بهذه الخصلة أكراماً ووجاهةً لهم لما قدموه من جهاد وعمل صالح، وما تحلوا به من أيمان الى درجة الأندكاك بالذات الألهية، ولكن هذه الصلاحية تبقى مقيدة برضى الله (لايشفعون الا لمن أرتضى)، فالمحصلة النهائية في مسألة الشفاعة تنتهي الى الله (قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون (الزمر:44).

من المهم الأشارة الى بعض الآيات التي تنفي الشفاعة بشكل تام ومطلق، وهي تعني بمن يتشفع بالأوثان، وهذا ما كان يدعيه العرب في زمن الجاهلية (أم اتخذوا من دون الله شُفعاء قل أَولو كانوا لايملكون شيئاً ولايعقلون)(الزمر:43).

أن الفهم الغير صحيح لمبدأ الشفاعة يفتح الباب واسعاً لمن يسعى لأقتراف الموبقات من الأفعال، وترك الفرائض بدعوى الشفاعة، فالشفاعة بهذا المفهوم تكون مخدرة، وسبب مباشر لسد باب أصلاح المجتمع والفرد لأنها تخلق حالة من الأتكالية، والتمادي في السلوك السيء. بالحقيقة ليس هناك شفاعة بالمجان في الأسلام لأن من شروط الشفاعة فيه محكومة بالعزم على التغير والتحول من المسار الخاطيء الى المسار الصالح، والتصميم على عدم العودة لما تاب عنه من سلوكيات سيئة، فالشفاعة لا تتحقق بالأعمال المزيفة، والوسائل المعوجة، والطرق المشبوهة والملتوية، لسبب بسيط وهو أن الله سبحانه وتعالى هو المُقيم والناظر لهذه الأعمال، وفي الأسلام الغاية لا تبرر الوسيلة، ومن يُغري الناس بأتباع طرق عقيمة للشفاعة فهو مساهم بأنحراف المجتمع، ويدفع الى تدميره، ويضع العصى في دولاب أصلاحه، بل الشفاعة هدفها الأساسي عدم اليأس وأعطاء فرصة للفرد للمراجعة، وتقيم ما يصدر منه من أفعال، وأغراءه بالرجوع الى جادة الصواب، ودخول دائرة التقوى (وأنذر به الذين يخافون أن يُحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)(الأنعام:70).

***

أياد الزهيري

في المثقف اليوم