قضايا

رشيد الخيّون: قراءة الكتب.. بها تنهض الأمم

لستُ أعلم، كيف أدخلَ المتنبيّ (اغتيل: 354هج) الكتاب في مدح كافور (ت: 357هج)، وذَهبت كنايةً: «أعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ/ وخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ». أقول: هل كانت رسالة معرفيّة بالفعل، أم حكمت القافية، فصار الاتفاق. خَرجتْ قراءةُ الكُتبَ أعاظم الثّقافة والأدب، فهذا أبو هِفَّان المِهْزَمي(ت: 257هج) يقول عن رائد البيان: «لم أرَ قط، ولا سمعتُ مَن أحبَ الكتبَ والعلومَ، أكثر مِن الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتابٌ قطُ، إلا استوفى قراءته، كائناً ما كان، حتَّى إنْه كان يكتري دكاكين الوراقين، ويبيت فيها للنظر... يحضر لمجالسة المتوكل(الخليفة)، فإذا أراد القيام (المتوكل) لحاجة، أخرج كتاباً مِن كمهِ أو خفهِ وقرأه... فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظرُ في كتابٍ، أو يقلبُ كتباً»(الحمويّ، معجم الأدباء). فشاع عن وفاته: «بوقوع مجلدات عليه، وكان من عادته أنْ يصفها قائمةً كالحائط، محيطةً به»(أبو الفداء، المختصر). رواها صاحب المختصر فقط.

كان دافع المقال مهرجانَ «تحدي القراءة العربيّ»، المُقام بدبي سنوياً، يُختار المتبارون، صبايا وصبياناً، مِن مختلف البلدان العربيّة، يشارك كلّ واحد بقراءة خمسين كتاباً، وعددهم مليون، فيقرؤون خمسين مليون كتاب. بعد تسجيل التَّلاميذ، مِن قِبل مدارسهم، يتدرجون بالقراءة على خمس مراحل، لكلّ مرحلة جوازٌ خاص، وفي كلّ منها تُنجز قراءة عشرة كُتب، وتلخيصها في عشر صفحات، وهكذا دواليك، حتّى ينتهي إلى الخامسة، مرحلة الجواز الذَّهبيّ. رصدت المبادرة جوائز مجزية للفائزين، مِن قِبل مؤسسة «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالميّة».

أُطلقت المبادرة لأهمية قراءة الكُتب في الثّقافة والمعرفة، ونقول الكُتب لدخول الإنترنت المنافس بتفوق، في المحتوى المختصر، أو السّماع السَّريع، أو المشاهدة الخاطفة. لا يُنظر لقيمة المقروء، أو المسموع، أو المرئي، فصُناع المحتوى لا تقيدهم تقاليد الكتابة، مجال لا يميز بين الغث والسّمين. حتَّى شاعت «كتابات يحررها كُتابها»، مع أنَّ التّحرير حِرفةٌ بذاتها، فصار المحتوى الهابط يملك ناصية التّوجيه. لذا قصدت المبادرة التّلاميذ إلى الصّف الثَّاني عشر، وهو سن التَّأسيس المعرفي والسلوكيّ، وبهذا تُعيد المبادرة دور الكِتاب في الوعي.

لم أخذ ما تعلمنا بالمدرسة، عن فك أسرى بدر مقابل تعليم الصِّبيان القراءة، على محمل الجد، حتّى عثرتُ على الرّواية، فكتبتُ معتذراً. وإذا قال مشككٌ في التّاريخ: إنها مِن تلفيق ابن سعد كاتب الواقدي(ت: 230هج)! أقول وليكن، مع استبعاد ذلك، فالتَّفكير بها زمن راويها يكفيها أصالةً.

قال: «كان فِداءُ أسارَى بَدرٍ أَربَعَةَ آلافٍ إِلَى مَا دُونَ ذلكَ، فمَنْ لم يكُن عندَه شَيءٌ أُمِرَ أَن يُعلِّمَ غِلمانَ الأنصارِ الكتابةَ... كانَ أهلُ مَكَّةَ يَكتُبون وأهلُ المدينَةِ لا يَكتُبون. فمَن لم يَكن لهُ فدَاءٌ دُفع إليهِ عشَرَةَ غِلمانٍ مِن غِلمان المدينَةِ فَعلَّمَهُمْ. فإِذا حذقُوا، فهو فِدَاؤُهُ»(الطّبقات الكبرى).

كنا نأمل أنّ تنال مبادرة الشّباب العراقيين «أنا عراقيّ أنا أقرأ»، منذ إطلاقها(2012)، الاهتمامَ، بعد إدراك القراءةِ بلسماً لدمل جِراح الحروب والحصار، وما خلفه الإرهاب، وما تبثه المنابر مِن جهالةٍ، لكنَّ أصحابَ المبادرة ظلوا يفرشون الحدائق والأرصفة، بما جمعوه مِن (المحسنين) مِن كتب، بينما الجهات الرّسمية لا تراهم ولا تسمعهم. هذا ما كان يشغل الذِّهن عند تكريم الفائزين، مِن بين قراء الخمسين مليون كتاب بدبي، على أنّ إشاعة المعرفة أهم مشاريعَ البُنى التّحتية، أعظم شأناً مِن الجسور والطُّرق والمصانع.

نعم، بالقراءة تنهض الأُمم، شرط الاهتمام بنوعيتها، وإلا فالأمية المبطنة فاشية اليوم، بين سطور مَن عوتب الزَّمان فيهم: «وأتى بكُتَّابٍ لو انطلقت يدي/فيهم رددتهم إلى الكُتَّابِ»(الثّعالبي، أحسن ما سمعتُ)، أيّ يردون إلى حلقات تعليم القراءة والكتابة، وهذه أمية ابتلى بها زماننا.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم