قضايا

حاتم جعفر: كلمات ليست مبعثرة

الثقافة، ما معناها، ما تعبيراتها وأي الحقول تشمل وهل إستقر الرأي عند تعريف محدد وثابت لها. هذه الأسئلة وغيرها سنحاول التوقف عندها قدر المستطاع ولتكون محور مقالنا هذا وكيف تم تناوله من قبل المختصين وذوي الشأن.

ففي الحديث عن هذا المفهوم الذي بين أيدينا، يمكننا القول بأن العديد من الأوساط المهتمة وذات الصلة، كانت قد خاضت فيه حتى إستُنفِذَ أمره وبلغ مداه وليستقر على ما وصلنا من صيغة وبما يحمل من دلالة. وعلى وفق ما ورد ومن أكثر المصادر رصانة وأظنها أصابت التقدير وغطَّت الى حد كبير هذا المفهوم وما يتصل به، فهو بمجمله وبحسب العديد من المواقع المعتمدة، قد حمل المعنى الآتي وَشَمِلَ: المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع ما. وإستنادا الى التوضيح الآنف، فسنشتق منه أحد أهم تجلياته وتعبيراته بل والذي سيشكل ركنا أساسيا منه وواحداً من أبرز مكوناته، وبما يتسق وطبيعة مقالنا والأهداف المرجوة منه، والحديث هنا عن مفهوم الأدب تحديدا ومن هو الأديب، ما طبيعة نشاطه وما هو منتجه وكيف يتم التعامل معه.

وإستنادا الى ما ذُكِرَ وعلى ما أجمع عليه الأولون وذوي العلاقة والإختصاص من قَبلِنا، فإن مفهوم الأدب وما سيقوم به ويقدمه، فسيتمثل في جملة من القضايا، منها وفي مقدمتها: إفراغ الأفكار والخواطر والتعبير عنها. كذلك هو مجموعة من النصوص الشعرية أو النثرية التي تُكتب بلغة من اللغات. وبذا سيشمل الأدب أشكالًا وألواناً متعددة ومتنوعة، ستأخذ منحى وميول الأديب نفسه وطبيعة أدواته التي سيستخدمها والتي ستختلف بكل تأكيد من شخص الى آخر، وهذا عائد الى عدة إعتبارات، من بينها الخلفية الأدبية والثقافية عموماً لكل منهم، كذلك مدى الخزين المعرفي الذي بين أياديهم، وأيضاً يرتبط بدرجة قدرتهم على توظيف ملكاتهم وبأسلوب يفي بالغرض ويصل غاياته. (الى هنا ينتهى الإقتباس والذي تعاملنا معه بتصرف).

وبذا سيعني الأدب وتلخيصًا لما فات: بأنه ممارسة الفعل الإبداعي وفي حقول عدة، والذي سيفضي في محصلته النهائية الى خلق أحد أشكال المتعة أو أكثر. كذلك سيدخل في باب تحسين الذائقة عند المتلقي وتجميلها، فضلاً عن دفع الأخير وإذا ما أحسن الصلة والتعامل مع النص المنتج وتفاعل معه بحماسة ورغبة ومارس كذلك رؤيته وبعين القارئ الناقد وبمستوى ما، ستجده بلا ريب وقد تحول الى أن يكون جزءاً وركناً أساسياً منه بل وحتى مكملاً له. هنا وفي لحظة كهذه سيجد الكاتب نفسه وقد إضطر الى أن يضع نصب عينيه قدرات المتلقي وأن يحسب له حسابا ومع أي عمل أدبي قادم، بل سَتُعَدٌ واحدة من قواعد النص وشروطه، وبذا سيتحول المتلقي الى ما درج على تسميته بالقارئ الضمني، حيث سيرافق الكاتب خلال سيرورة كتابته. كذلك فالمنتج الأدبي وبصرف النظر عن درجة إتقانه وإجادته، فسيُحدث لدى القارئ ما يمكن أن نطلق عليه بالإنعكاسات أو ردات الفعل، والتي ستختلف وتتفاوت بكل تأكيد بمستوياتها ونتائجها ودرجة إستقبالها بين هذا وذاك.

في كل الأحوال فما يسعى اليه الكاتب وليس أي كاتب وإنما المقصود هنا بالملتزم أو حامل الرؤيا، والذي يستهدفه من وراء صياغته لنصّه، هو محاولته بلوغ الآخر وصولا الى خلق حالة من التسامي والراحة النفسية لديه، فضلا عن أهداف أخرى قد تكون غير منظورة أو غير مُدركة، وهذا سيعتمد بالضرورة وبشكل أساسي على ملكات الكاتب نفسه وما يبتغيه وما رسم وخطط له. وتعليقاً على النقطة الأخيرة، فردات الفعل سوف لن تكون وبما لا يدع مجالاً للشك بمستوى واحد بين كاتب وآخر، فالأمر سيتوقف على قدرات كل منهم. كذلك ستكون للقوانين المعمول بها ودرجة الحريات المتاحة في بلده، تأثيرها أيضا على الكاتب وما ينتجه من نصٍّ..

ومما يُجدَرُ ذكره وتعليقا على ما ورد في الفقرة الأخيرة، فهناك من منتجي الأدب ممن سيجدون أنفسهم وقد إضطروا الى ممارسة نوع من التورية في كتاباتهم، هادفين (الإلتفاف) على ما ترصده عيون الرقيب وما يمكن أن يتسبب ذلك في إلحاق الأذى بهم وربما بعوائلهم وصولا الى الأقرباء منهم وحتى الدرجة الرابعة، وهذا ما حدث فعلاً وينطبق وبنسبة كبيرة على مثقفي وكتاب ما نسميه بالعالم الثالث بشكل خاص، المبتلين بأنظمة حكم ديكتاتورية، فضلاً عن بعض دول العالم الأخرى، على الرغم من قطع الأخيرة أشواطاً متقدمة على طريق التطور والتحضر وسنّها لقوانين تحفظ كرامة الأنسان وحقوقه الأساسية، والشواهد على ذلك كثيرة.

وعلى الجانب الآخر وإذا ما أردنا التوسع أكثر والأخذ ببعض النماذج والأمثلة الناجحة في بناء تجاربها، فلا بأس من الإلتفات الى ما حققته بعض دول أوربا وأخرى غيرها من نهضة شاملة، كانت قد طالت مختلف الأصعدة، من بينها ما هو حديث ساعتنا أي عالم الأدب والثقافة عموماً. فمنذ عقود ليست بالقليلة وهي في سيرورة وتطور مستمرين، ساعية الى توظيف رصيدها المعرفي والذي بلغ من الثرى والغنى مستوى لا يستهان به، بل لا يمكننا التقليل من شأنه ومن مدى تأثيره وما يشغله من مكانة في ثقافة شعوبها. كذلك في قطعه لأشواط بعيدة، على طريق تهيئة الأجواء والمناخات المريحة لللأجيال الجديدة القادمة وخاصة لفئة المثقفين منهم، لتفسح لها المجال رحبا، كي تمارس دورها المؤمل والمرتجى والذي ستحمله بفخر وزهو.

ولكي لا تبدو الصورة وردية ونذهب بعيداً في الوهم، وفي الحديث عن قطع هذه الدول لأشواط بعيدة على طريق نيل حقوقها الأساسية وبما يتصل منه بالشأن الثقافي تحديداً، فمثقفو أوربا وتجارب أخرى غيرها ممن تقع خارج القارة البيضاء، لم يكونوا ليصلوا أهدافهم والمتمثلة في ممارسة حرية التعبير وبتلك الخفة والإنسيابية والثقة، لو لم يسبق ذلك خوضهم لصراعات كانت قد إمتدت لعقود ليست بالقليلة، والتي بلغت في بعض مراحلها من الشدة والذروة ما إستوجب تقديمها خيرة مثقفيها ومفكريها نذورا وقرابين على هذا الطريق، بل حتى بلغت الحماقة بأصحاب السلطة أن رَموا معارضيها والمتنورين منهم ورعيلها الأول بتهمتي الإلحاد والخروج عن الملّة، وذلك على وفق ما أنبأتنا به الأخبار التي كنّا قد قرأناها وباتت منهلاً نستعين به في صراعاتنا مع الآخر أو إن شئت تسميته بالضد النوعي المتربص، الشديد الضلالة والذي لا زال معتكفاً في كهوف يثرب حتى اللحظة، ما إفك يلقي علينا خُطبه وبما يطيب له من الجهالة ومن عقم في الفكر والرؤى، كي نبقى نلهث خلفه.

وإذا ما أردنا التوقف وإلقاء نظرة سريعة والتحدث بالتالي عن شكل العلاقة التي تربط ذلك المثقف الملتزم بواقعه اليومي وما يتصل به من تطورات ومتغيرات، فستجدها قد بُنيت وجاءت كثمرة وإستحقاق طبيعي لنضالات تلك الفئة كما سبق القول، ولسعيها الدؤوب كذلك من أجل تحقيق إستقلاليتها وعلى قاعدة من الحرص والمسؤولية العالية. لذا بات من نافل القول أو على الأقل ما نتأمل منه: أن يكون زاهدا صادقا في  مواقفه، ثابتاً مستقرا في قناعاته.

وطالما نتحدث عن إستقلالية المثقف الأوربي عموما ومن يخوض في عالم الأدب بشكل خاص، ولما لهذه الميزة من أهمية في صياغة نصّه وما يقوم به من دور،  فلا بأس من التوقف عندها لنقول: نجاحه في بلوغ هذه الغاية أي الإستقلالية ، لم تفتح له الباب واسعا للمشاركة وبفعالية في رفد الثقافة الإنسانية فحسب وانما تحول الى جزءٍ فاعل وحيوي في رسم معالم وشكل الوسط الذي ينشط ويعيش فيه أيضاً. وإذا ما أردنا الذهاب الى ما هو أبعد من ذلك وفي الحديث عن الدول الرصينة التي تحترم تأريخها، فكان من بين تقاليدها وما درجت عليه ومن أسباب تفوقها، هي العودة الى فنانيها وأدباءها ومفكريها، والإستعانة بهم، من أجل المساهمة الجادة والفاعلة في رسم معالم سياساتها بشكل من الأشكال، إن كان ما يتصل بالحاضر منه أو بالمستقبل، بل وحتى ما متعلق منه بقراءة وتحليل إرثها وبالشكل الذي يساعدها على إمكانية وشكل توظيفه للقادم من الأيام. أمّا عن مساحة وحدود مشاركة هذه الفئة أي المثقفة، فهي لا تقتصر على مؤسسات دولها فحسب وانما تجاوزت لتصل مدياتها الى ما هو خارج الحدود، حتى تجدها وقد لعبت دورا ملحوظا ونشطا في العديد من الهيئات والمنظمات الانسانية العالمية ذات الصلة.

وعلى صعيد المواجهة والتصدي للوضع القائم الذي كانت تعاني منه تلك البلاد البعيدة، وإذا ما أردنا الإستشهاد ببعض الأسماء التي لعبت دورا لا يمكن التجاوز عليه أو تخطيه في هذا المجال، فهناك الكثير من الأمثلة الحية والقريبة. فمن بينها على سبيل المثال لا الحصر، الكاتب المسرحي الجيكي فاتسلاف هافل، الحائز على جائزة (اراسوس) حيث تَقَلَّدَ رئاسة الدولة بعد الاطاحة بالنظام القائم آنذاك والذي كان يطلق عليه بصاحب القبضة الحديدية. فبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في رؤيته السياسية وانتماءه وخلفيته الأديولوجية، فقد سجَّل له التأريخ وبحروف ساطعة عناده وتصديه للسلطة الحاكمة، وعلى اثرها فقد صدر بحقه قرارا، غير قابل للإستئناف أو الطعن، يقضى بموجبه حكماً بالسجن ولبضعة سنين، بسبب إنتمائه السياسي المعارض للوضع القائم. نموذج كالذي أتينا على ذكره قد لا يروق للبعض، وهذا عائد على ما أظن الى إنحيازتنا المسبقة لأديولوجيات بعينها. وإذا كان لنا من إضافة وتعليق في هذه الصدد، فحدود منح الديمقراطية وسقفها كما نرى، لا تتوقف ولا ينبغي لها أن تقتصر على نوع  فكري أو حزب سياسي بعينه،  دون غيره.

وفي الحديث أيضاً عن هذه الفئة والتي سميناها بالمثقفة وهي تستحق لقب كهذا وبكل تقدير وإجلال، فقد شَكَّلت في بعض دول اوربا قوة ضغط وتأثير لا يقلان شأنا عن الأحزاب السياسية الحاكمة وكذلك عن دور معارضيها الرسميين في صياغة توجهات ومواقف الرأي العام، إن لم تكن لها الريادة في حركة الشارع، خاصة فيما يتعلق بالمطالبة بالحقوق المشروعة والعادلة لها، بل إمتدت نشاطاتها لتتبني حقوق الشعوب الأخرى المتطلعة والتواقة للحرية والدعوة الى تقرير مصيرها بنفسها وإقامة دولها المستقلة على أراضيها، لتكون في ذلك قد حققت تفوقاً في أداءها وفي بعض الحالات والمنعطفات التأريخية حتى على الدور الذي من المفترض ان تقوم به وتتصدى له المنظمات والاحزاب المعارضة الرسمية، وبكل إنتماءاتها وتشكيلاتها السياسية والفكرية.

وفي ذات السياق ومن أبرز الاسماء في هذا المجال والتي لعبت دورا وتأثيرا مهمين وواضحين على الشارع الثقافي الاوربي في توجهاته وخياراته السياسية بل وحتى الفكرية، هو ما قام به الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، من خلال فلسفته الوجودية وإنعكاساتها على ذهنية أجيال متعاقبة من الشباب، حيث توقَّفَ طويلاً عند مفهومي الحرية والمسؤولية وكيفية الربط بينهما وتوظيفهما نحو تحقيق الأهداف السامية. وقد عدَّه الأعداء بل وأعترفوا بدوره وقبل الأصدقاء من الراصدين والمتابعين لطروحاته، بأنه أحد العقول اليسارية المدافعة عن حقوق الانسان في العالم. وبسبب من ذلك، فقد لاقى صدى إيجابياً واسعاً ليس من قِبَل الشارع الأوربي فحسب بل من شعوب العالم الأخرى ومن بينها الشارع العربي، خاصة بعد أن تُرجمت له الكثير من الأعمال، والتي  كان من أبرزها كتابه الموسوم بــ(عاصفة من السكر)، حيث تحدَّث فيه عن الثورة الكوبية. كذلك كتابه الآخر (عارنا في الجزائر) والذي كان محوره ما اقترفته من جرائم أيادي الاحتلال الفرنسي بحق ذلك البلد. وفي هذا المنحى سيلتقي صاحب الذكر وعلى ذات الخط والطروحات مع المفكر الفرنسي اندريه مالرو، المتبني هو الآخر لحقوق الشعوب المضطهدة، حيث شارك في تأسيس أولى الصحف المناوئة للإستعمار الفرنسي في المنطقة المسماة آنذاك بالهند الصينية، فضلا عن إصداره للعديد من الكتب، والتي لا تخرج في خطوطها العامة عن ذات السياق الذي أتينا عليه.

وإذ أردنا التوقف عند المزيد من الأمثلة فلا بأس هنا من التطرق الى تجربة المفكر الكبير روجيه غارودي، المنتمي لصفوف الحزب الشيوعي الفرنسي مبكرا، ليخوض مع أبناء جيله غمار التصدي للنازية الألمانية المحتلة لبلاده في أربعينات القرن الماضي. بعدها سيجري إعتقاله من قبل تلك القوات، ويُنقل على أثرها الى إحدى مدن الجزائر، يوم كانت خاضعة آنذاك لنير الإحتلال الفرنسي. من هناك حيث المنفي الإضطراري بدأت تتشكل لدى غارودي بدايات قراءة الأحداث بعين مغايرة. على أثرها وبعد أن غاص في تجارب الشرق وعرف عن قرب حقيقة أوضاعها وما تدعو اليه، راح غارودي متناولا الإسلام والقضية الفلسطينية برؤى تختلف عمّا قيل له. فشرع بعد ذلك في الكتابة عن الصهيونية وما أحدثته في الأراض المحتلة وشعبها من مآسي، كذلك أقدم على فضح وبأسلوب علمي وبأدلة تأريخية دامغة، حقيقة ما سمّي بالهلوكوست (المحرقة اليهودية) وما رافقها من ضجيج إعلامي ممنهج، واضح في أهدافه وغاياته، مما تسبب له في أن يوضع في عين العاصفة، حيث لم تتوقف الدولة العبرية عن شن أبشع الحملات بحقه، بهدف تشويه سمعته والتصدي لطروحاته. ومن بين ما خطَّته يدي غارودي كذلك والتي تستحق التوقف عندها لما لها من أهمية والتي جاءت كذلك منسجمة ومستجيبة لتحولاته الفكرية، مجموعة من الكتب المهمة جداُ، من بينها على سبيل المثال: (أميركا طليعة الإنحطاط). (الشيوعية ونهضة الثقافة الفرنسية). (فلسطين أرض الرسالات السماوية) وغيرها الكثير الكثير.

وأخيرا ولكي لا نبخس حق مثقفينا في التصدي لآلة القمع الوحشية التي تعرضوا لها في بلادنا، وعلى يد السلطات الديكتاتورية الحاكمة وعلى مختلف العهود، والتي أجبرت العشرات بل المئات منهم على إختيار المنفى ملاذا لهم، نقول ربما ستكون لنا عودة لطرح هذا الموضوع مستقبلاً.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

في المثقف اليوم