قضايا

مراد غريبي: مفارقات أكاديمية وسؤال المصداقية في الجامعات العربية

مدخل: من المفارقات اللافتة والمؤثرة عند الحديث عن الأمانة العلمية في المجال العلمي العربي والإسلامي المعاصر،  ما تطالعنا به التقارير العالمية من أخبار عن مؤسسات التعليم العالي العربية حول ظاهرة العبث الأكاديمي وتقنيات التزييف والغش والسرقة التي يتفنن فيها بعض من لبسوا لباس العلم والفكر والثقافة لباس الفرو مقلوبا ممن يسمون أنفسهم باحثين وأكاديميين وكتاب، وما خلفته هذه الظاهرة من كوارث في مستويات البنية الأكاديمية العربية، وعند تشريح هذه الجرائم الأخلاقية بحق المؤسسات والثقافة العلمية ونظم التعليم العالي عربيا من جهة، وفي حق أجيال الأمة من تحريف رسالة العلم وأمانة الضمير العلمي من جهة اخرى، نلحظ أن  الرداءة سلعة رائجة في أسواق التفاهة والتخلف السوداء ومجمعات الامتيازات العلمية المصطنعة تحت الطلب، ولا نستغرب ذلك في مجتمع أسئلة النقد والتحقق والمكاشفة والصدق والأمانة تمثل مثالية وحماقة وكفر وفسوق !!

ومصطلح "عبث" لا يعني "غير ممكن منطقياً" وإنَّما هو ما يتنافى مع المنطق، أو بالأحرى لا يحترم قواعده ولا يخضع لها، مع القيام بأعمال تجعل الآخر يقتنع بمعلومات ليست صحيحة، أو بجزء من الحقيقة الكاملة، أو ما يعرف بنصف الحقيقة إلى حين الفضيحة.. وترسخ المفارقات في الوعي العام وبعد تطورها تصبح  ثقافة إجتماعية في حقل من الحقول وذات أساس وجودي فعال بحيث تصبح ظاهرة قائمة بذاتها ومواضيعها، هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، وهي نتاج تاريخ من الانحراف والنكسة والتحريف والاستدمار  الممنهج للرمزية العلمية والفكر الحي في مجتمعاتنا حتى يتمكن التخلف وثقافته من السيطرة والوقوف على محطات التضليل والتجهيل من أجل السيطرة والدمج في مشاريع العقول المقعرة التي تلتقط أمواج محددة من الفكر والحركة..

ماهية العبث الأكاديمي؟!

غالبا العبث هو أساس ومنشأ المفارقات التي يعمل على تغطيتها لغاية تحقق التضليل، أي إخفاء الواقع عبر الزيف، وهذا ما يحصل في العديد من المؤسسات الأكاديمية العربية  التي صوريا هي مخابر للعلوم  لكنها ضمنيا تفتقد لهويتها الأصيلة التي تعكس الدقة المنهجية والموضوعية، والمسؤولية الأخلاقية  أي هناك مصداقية تشترط في إنتاج العلم الصادق والمعرفة الصادقة، حتى يكون المنتظم فيها  أهلا  للحاق ببساتين أكاديموس العربية الحضارية كما عرفتها الزيتونة والقيروان والأندلس وبغداد ودمشق والقاهرة  قبل عدة قرون عندما كانت مقاصد عشاق العلم والمعرفة والحكمة..و تكتشف المفارقات أكاديميا حين نرى أن صفة العلمية لا تشغل إلا حيزا ضيقا ومحدودا في يوميات السواد الأعظم من رواد الجامعات، حيث المردود العلمي ضئيل جدا أمام الترجمات الحرفية لأعمال وأفكار وأطروحات أجانب دون إذنهم، ناهيك عن الاستثمار الشخصي تحت يافطة البحث العلمي بينما الحال البحث النفعي الخاص على حساب مستقبل الطلبة والباحثين وتضييق الخناق على الأدمغة العبقرية إما بالتسفيه أو سرقة جهودهم البحثية واستغلالهم في بناء هالات كارتونية من ألقاب وهمية لا يصدقها سوى الجاهلين بمستويات أصحابها العلمية التي لا تكاد تعادل مستوى الإعدادي أو اقل، للأسف هذه الظاهرة اكتسحت ربوع الحقول العلمية والأكاديمية في العالم العربي، فصارت ألقاب الدكتوراه والبروفسور والمنظر والفيلسوف والخبير وما هنالك تطلق بعشوائية توازي عشوائيات إدارة مؤسسات العلم والمعرفة والثقافة..

لا مناص أن هذه الظاهرة، هي موضع  اختلاف عند القائمين على الشأن الأكاديمي في مجتمعنا، لكنه اختلاف ليس من قبيل تعدد وجهات النظر وضبط الحقيقة وإنما إختلاف بلا مبرر أخلاقي أو موضوعي، حيث الاختلاف حول قراءة مفارقات الراهن الأكاديمي العربي عبر المكاشفات ووفق معطيات ذات عمق ومصداقية من شأنه إثراء النقاش حولها-الظاهرة-تشخيصا  ونقدا وعلاجا، تشخيصا على مستوى الأفراد والمؤسسات، ونقدا على مستوى النظم والإعلام،و علاجا على مستوى الأداء والمردود والانتاج العلمي، لأن تفكيك ميكانزيمات هذه المفارقات المسيطرة على العقول والإدارات والنظم والمشاريع يمكن أن  يعدل سلم القيم الأكاديمية المقلوب،حتى تنتظم أمور  التعليم والبحث العلمي وتنال الاوسمة الأكاديمية بجدارة أكثر من نيلها بوساطة أو زورا وبهتانا.

تيارات العبث الأكاديمي واستنساخ الشهادات:

وصلت الحال ببعض المؤسسات الأكاديمية الرسمية وغيرها في المجال العربي إلى فتح أبوابها لمدمني الغش والتزوير والسرقة مما خلق تيارات من العبث الأكاديمي منها:

. تيار الفانتازيا الثقافية

.تيار إدارة الوساطات

. تيار التسويق والإشهار لمزادات الشهادات والألقاب والمشاريع..

حتى اصبحت جامعاتنا العربية تعج بدونكيشوتات العلم والمعرفة، بينما تقييمها العالمي لا يكاد يظهر الا بعد ثلاثمائة وخمسين جامعة، والذي يعكس التناقض الجوهري بالنظر لفائض الكوادر العليا داخل الجامعات والمعاهد ومراكز الابحاث ونسب وقيمة الإنتاج العلمي والمعرفي، هذا التناقض هو في الواقع واجهة خلفية للإستنساخ العشوائي للشهادات والرتب والامتيازات دون ادنى موضوعية وتحت طائلة فشل ذريع  في إدارة اقتصاد المعرفة!!

صور العبث الأكاديمي عربيا1:

المؤكد أن ظاهرة العبث الأكاديمي هي من الظواهر السوسيوثقافية القاتلة حالها كحال الأفكار القاتلة التي تحصل في حياة الإنسان من جهة علاقته بالفكر المتطرف أو المنغلق، حيث لا تنبثق هذه الظاهرة بشكل عفوي أو عابر، وإنما تحصل بشكل إرادي مخطط له مسبقا، كما أن وقوعها لا يعني أنها ترسخت وسيطرت وأصبح مستحيل  تجاوزها والتغلب على صورها، وإنما يمكن  الحد منها وتوقيف آثارها حالها كحال كل الظواهر السوسيوثقافية الأخرى.

هذه الظاهرة تحصل في مختلف محطات الأكاديمي المزيف في المسار الأكاديمي2، فقد تحصل عند البعض في بدايات المشوار الجامعي، وقد تحصل عند آخرين في مرحلة الدراسات العليا، او ما بعد التدرج وعند آخرين قد تحصل في مرحلة الإشراف والتوجيه العلمية أوعند تسلم المناصب الادارية، وفي كل مرحلة من هذه المراحل تبرز هذه الظاهرة بتمثلات معينة وإنعكاسات محددة وإنحرافات مختلفة لكنها ذات هدف واحد التضليل وتزييف الواقع.

من جانب آخر، تحصل هذه الظاهرة تارة برغبة من الشخص وبإدراك منه، وتارة تحصل من دون رغبة منه وبإدراك، تحصل برغبة حين يقرر الشخص بإدراك منه حرق المراحل والتعدي على حقوق الغير وبيع كرامته، وذلك لعوامل وأسباب تتعلق بالشخص نفسه، قد تكون قاهرة لأنها تعود لمرحلة تربوية عميقة، وفي مقدمتها العامل النفسي كشعور الإنسان بالنقص وعدم الجدارة، ومنها العامل الاجتماعي كالغيرة والسعي وراء الشهرة والوجاهة، ومنها عوامل وأسباب اقتصادية تتعلق بالثراء الفاحش الذي يوهم صاحبه أنه يمكنه شراء كل شيء وصناعة الأسطورة واستكمال أركان النفوذ لديه..

كما تبرز هذه الحالة من دون رغبة من الإنسان ولكن بإدراك، وتتعلق بالعامل القيمي الفاسد مجتمعيا وجامعيا، فالتأثير الذي يحصل من هذه الجهة، يظهر حين يكون المجتمع يعيش الرداءة والمحسوبيات، وحين يسير الفرد ضمن هذا المجتمع وفق التيار الاجتماعي الكاسح ولا يشغل نفسه بالأساس القيمي الأخلاقي، ولا يربي نفسه على الجد والإجتهاد  بعفة وسداد، وهكذا حين لا يمنح الأشخاص الذين يجتهدون في تحقيق النجاحات العادلة اي اعتبار، هذا الانحراف القيمي إذا ساد في المجتمع فإنه ينتهي بالكثيرين إلى الإصابة بكل صور العبث.

ومن الصور الدالة على ذلك، المجاملة في منح النقاط وتقييم رسائل التخرج وتقييم الاطروحات ومنح الرتب على أساس القرابات والصداقات والزمالة في الجامعة والتوصيات من قامات النفوذ سياسيا واجتماعيا، فبدل أن نرفع من مستويات الصرامة للنهوض بالجد والنزاهة الأكاديمية، ننعش ثقافة الوساطات والمجاملات على حساب مستقبلنا العلمي والمعرفي، وهناك صورة أخطر تتمثل في التوجيه نحو السرقات العلمية والغش وتزوير النتائج والابتزاز المالي والجنسي التي يكون خلفها مشرفين وأحيانا يغضوا الطرف عنها وتنال تلك البحوث مباركة لجان التقييم إما استحياءا من المشرف المخضرم أو الزميل الصديق الذي سيبارك البحوث التي يشرفون عليها، مما جعل  العديد من جامعاتنا مصابة بفقر النزاهة والكفاءة والأمانة والشرف ..

وهكذا تتعدد الصور والحالات الدالة على ما يتركه العبث الأكاديمي من تأثير في قتل كل فسلات النهوض والإبداع والنجاح العلمية والمعرفية..

سبل مكافحة ظاهرة العبث الأكاديمي؟

اتخذت العديد من الدول الغربية مجموعةً من الإجراءات اللازمة للحد من ظاهرة العبث الأكاديمي، بينما عالمنا العربي لايزال يراوح مكانه في الإطار، إما بفقدان الإطار القانوني للحد من الظاهرة او عدم الصرامة والجدية في تفعيل قوانين الردع وحماية الحقوق الفكرية والعلمية وفيما يأتي أهم السبل:

* دراسة الحالات: يُؤدّي إجراء الدراسات النفسية والاجتماعية اللازمة على كلّ شخص من رواد العبث الأكاديمي إلى فهم الظاهرة  والأسباب الكامنة التي أدّت إلى إنحرافهم وخيانتهم للأمانة والمسؤولية.

* تجريم كل صور العبث الأكاديمي: من خلال اعتبار كل أشكال العبث أكاديميا جريمة يُعاقب عليها القانون بأقصى العقوبات لأنها من رتب الخيانة مع السهر على تفعيلها وتطبيقها.

* المعاقبة: تتّخذ بعض الحكومات الغربية العقوبة كوسيلةٍ للحدّ من أشكال العبث أكاديميا، كسحب الشهادات والفصل من الجامعات لكل من ثبتت بحقه جريمة العبث الأكاديمي، أو من يُشجّع على شكل من أشكال العبث، وتُسحب منه كل الامتيازات  المُحصّلة من هذا الفعل المجرم قانونا وتغريمه ماليا.

* تطوير آليات التقييم وتقنيات الرقابة: وذلك بوضع أنظمة للرقابة وتمحيص المقالات العلمية والرسائل والأطروحات والشهادات، مع مقاييس حازمة للأداء الأكاديمي سنويا.

* التشهير الإعلامي: وذلك بعرض قضايا الغش والتزوير والسرقات العلمية بعد فصل الجهات القانونية فيها، عبر وسائل الإعلام الرسمية.

* الإرشاد القانوني للأكادميين: الإرشاد القانوني لأفراد الوسط الأكاديمي حول مخاطر ظاهرة العبث مهمّةً جداً للحدّ منها، ويُمكن تنفيذ برامج توجيه وإرشاد وتوعية عبر ندوات ومحاضرات وتوزيع منشورات قانونية حول ذلك..

عن المصداقية؟

لا تتحقق المصداقية في أي مجال من المجالات الحيوية إلا من خلال بوابة إدارة أداء الكفاءات العملية عبر ركائز أخلاقية وفنية ونظام المساءلة والتحفيز الأدائي المستمر، مع التأكيد أن المصداقية محلها من الإعراب أكاديميا الحرية مع الأمانة، وهكذا نصل إلى مسألة أساسية وهي: أن أحد الأسباب الرئيسية لبروز ظاهرة العبث هو غياب حياة جامعية سليمة ومدنية في العديد من بلدان العالم العربي.

لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثارات والانتهاكات التي تحصل داخل العديد من الجامعات العربية، مهما كانت المبررات المطروحة والتي تُسوِّغ ذلك، ونقف ضد كل أشكال الانحراف والتهميش والفساد مهما كان الذي يقف وراءها. ولا بد أن نأخذ الدروس والعبر من التجارب العالمية في إصلاح الجامعات بأمريكا اللاتينية وافريقيا وجنوب شرق آسيا وبالطبع أوروبا وأمريكا الشمالية والتي حدثت فيها انحرافات وانتهاكات للقوانين وللأعراف، حيث إن هذا الواقع الأكاديمي المزري  يدمَّر في كل لحظة المجتمع والاقتصاد والمستقبل  العربية، ولذلك هجَّرت الكثير من  العقول والأدمغة  نحو الغرب تاركة  كل شيء وراءها..

وبكلمة: إن تحصين الجامعة من مخاطر العبث، يتطلب بلورة حياة جامعية جديدة، تتجاوز إنحرافات الواقع، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد الإصلاح والتنمية على  صعيد  كل مكونات الفعل  الأكاديمي الجامعي والإبداع العلمي.

فالتحصين لا يتأتى بالشجب وزيادة قائمة اللعن، بل بغرس أسباب الجودة والحيوية  والفعالية في حياتنا الجامعية. فالجامعات الراكدة، هي أقرب إلى الاختراق والاستدمار والتزييف على مستوياتها كافة.

أما الجامعة التي تحترم نفسها،  فإنها تمتلك الدينامية الكافية التي تؤهلها إلى مقاومة كل الأميين والعابثين ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد مستقبل طلابها وكوادرها.. فوجود الحياة الأكاديمية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم التنمية  العلمية والجامعية.

***

أ. مراد غريبي

...................

1- يمكن العودة إلى كتابات البروفسور محمد الربيعي بصحيفة المثقف والحوار الذي أريناه معه ضمن مرايا فكرية

2- هناك تفكيك عميق  لأبعاد  الموضوع في كتاب الدكتور علي أسعد وطفة  " الأمية الأكاديمية"

في المثقف اليوم