قضايا

علي الطائي: نَعشُ الأفكار

الأفكار كالأشجار، ربما تذبُلُ أو تموت إذا حرمت من أسبابِ البقاءِ والديمومة. وسجنُ الأحياءِ قبرٌ لموتٍ مُعجَّل. ومصيرُ العقولِ مرهونٌ بحركتها الفكرية والعلمية. وربيعُها دوامُ النظرِ في صفحاتِ الكتبِ، وقراءةِ العلوم، وتدارسِ مسائلِ الخلقِ والكون.

قال لي يوماً: ما تفعلُ بكلِّ هذه الكتب، ولماذا تنفقُ كلَّ هذه الأموالِ من أجلِ شرائِها، العصرُ عصرُ التقنيةِ والسرعة، ولكَ أن تبحثَ ما تريدُ في محركاتِ البحث ومواقع الكتب، فتجدَ ضالتكَ!!

قلتُ له: نعم يا صديقي، هذا واقعٌ لا أتنصَّلُ من الاعترافِ به، والإذعانِ له، لكن هل برأيكَ، وبرغمِ كل هذه التقنياتِ، ارتقى فكرُ البشرية أم ارتدَّ ناكصاً إلى الوراء ؟َ! أتحدثُ بشكلٍ حصريّ عن الفكرِ العربي، والإسلامي بالذات.

قال: لا أظنهُ ارتقى إلى ما يجبُ أن يرتقيَ إليهِ البشرُ في أماكنَ أخرى من العالم.

قلتُ: العربيّ يا صديقي، وربما لأسبابٍ جينيةٍ أو تاريخية، أو نفسية، مجبولٌ على حب الدَّعةِ، واللهوِ والاتكالية. مطبوعٌ على حب الفوضى، وتخريبِ ما عمرهُ الآخرون. ومن سماتِ عقلهِ أنهُ يميلُ إلى التصلبِ في آرائهِ، ورفضِ كل تجديد إلا بشِقِّ الأنفس.

نشأت الحضاراتُ، وهي مجملُ النشاطِ البشريّ، في بقاعٍ عديدة من الأرض. قامت الحضارة الصينية في مكانها المعروف وبين الصينيين ومنذ آلاف السنين، وعرف عنها حب التصنيعِ وابتكار الأدواتِ والآلات. وقامت الحضارة السومرية والأكدية، محبةً للفنون والكتابة. وقامت الحضارة الإغريقية على حب التفلسفِ وكثرةِ الكلامِ، وروح الغزو، وتقديس الأرواح. وقامت الحضارةُ المصرية على تخليد الأحياءِ والاهتمامِ بما بعدَ الموتِ والتفنن بطرقِ حفظ الجثثِ والأموالِ، وتقديسِ الفراعنة. وقامت الحضارة الفارسيةُ على ابتداعِ الفنونِ والمهارات في صنعِ الجمالِ والزخرفةِ والنسج، بل والعلوم العقلية المختلفة والغلوّ في ما يختصّ بحيثياتِ الروحِ والتصوّف. كل هذا النتاج البشريّ تمَّ بإيحاءٍ خفيّ من سلطانِ الوراثةِ والجينات، وما اعتادَ عليه القومُ في كلِّ حضارة. ولو قرأنا التاريخَ القريبَ للعربِ والمسلمين على وجهِ الخصوص، ماذا تتوقع أن نجد؟ ما الذي قدّمهُ هؤلاءِ إلى إخوانهم البشر. جُبلَ العربيُّ المسلمُ على حبِّ أفكاره، وتقديسِ رموزهِ، والاستخفافِ بكل ما دونَ ذلك. يذمُّ الغربيّ وهو يكتبُ بالقلمِ الـ (باركَر) الذي صنعه الغرب، ويتشاتمُ القومُ وهم في مستنقعِ الخيبةِ سواء. يصدحُ بلسانهِ الطويل، على منابر المساجدِ بقتلِ الغربيّ المعتدي، والمخالفِ له في العقيدة، ولم يكن المقتولُ إلا عربياً مسلماً من أبناءِ جِلدَته، لأنه قال كلمة مدحٍ للغرب أو ظنّوا به هكذا. ينبذونَ المحتلَّ ونسوا أنهم قاموا في غفلةٍ من التاريخِ بغزوِ الآمنينَ واقتيادِ العذارى بين يديّ أمير المؤمنين!!! يتنافسُ الانجليزُ والعثمانيونَ على احتلالِ العراقِ وقبل أكثر من مئةِ عامٍ، فينتهزُ البشرُ الفرصة من أجلِ نهبِ بعضِهم بعضاً. لم يفكروا يوماً بتخليصِ أنفُسهِم من نير التسلط الفكري الجامد، قبل التخلص من سطوة المستعمرِ والغازي. يقضي الفقيهُ عمرهُ في صياغةِ الفتاوى التي تدعو إلى التخلصِ من أخيهِ المسلمِ، ولم يمس هذا الغازي بسوءٍ خوفاً من حرابِه وبطشه، أو قل: حفاظاً على مكتسباته. كانَ يؤمنُ بمقولةٍ خالدةٍ سمعتها من أفواهِ كثيرٍ من العقلاء وهي (كلُّ من يتزوجُ أمّي، فهو عمّي!!). ولي أن أسألَ سؤالاً لا أنتظرُ إجابته: هل نفعَ الدينُ البشرَ، أم كانَ أداةً وسلاحاً لإيقاعِ الضرر بالبلادِ والعِباد؟!

وهل لنا أن نتهمَ الدينَ بما حواه من تناقضاتٍ في طياتِ سُننه، بأنه هو السببُ في كل هذه الفوضى؟ أم أن الأداة التي اعتمدت في تطبيقه هي من الأدواتِ الجارحة لكبرياء الفكر الراقي للعقول البشرية. ما أعلمهُ عن الأنبياءِ، وهم الرجالُ الصالحون الذين بُعثوا من أجلِ سعادةِ البشر، أنهم يدعونَ إلى تحرير الرقابِ والأفكار من نير العبودية والتسلط والانغلاق بكل أشكاله. كونوا أحراراً في دنياكم؟ لا يستعبدكم الطمعُ؟ لكم دينكم وليَ دين، لا تُقصروا أولادكم على تربيتكم فهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم.... الخ.

حاول البشرُ السيطرةَ على جيرانه وبكل السبل المتاحة له، وحاول التخلص منهم حتى يرضيَ فضولَ وغرورَ عقله وجسده. وجاءَ من حفظ سطرين من سنن الأديانِ فحاول من جانبه أن يسيطر ويتسلط على أفكارِ البشر، لأنه يدرك مسبقاً أن السيطرة الفكرية تعني سيطرة تامة على كيان الإنسان تتبعها السيطرة المادية. ولا تستغربْ من أن هؤلاء لجأوا إلى ذاتِ الأدواتِ التي لجأ إليها المستعمرُ، من أجل إحكامِ السيطرة هذه. كلها حيلٌ ووجوهٌ تختلفُ أشكالُها، وتتفقُ في مضمونها ونتائجها الكارثية. ما وظيفةُ المثقفِ في ميدانِ هذه الإشكاليات المقلقة، والعواصف التي لا يهدأ لها أوارٌ، ولا تخفّ في وطأتها؟

على المثقفِ في مثل هذه الظروفِ والأوضاعِ أن يختارَ الطريقة الذكية والفكرية الخالصة كسلاحٍ مضادٍّ، من أجل كسرِ النعش الفكري وتخليص العقولِ من ظلمتهِ وضيقِ مساحته. هذا النعشُ هو الذي صممه ونقشه وصنعه الفكرُ الوصولي المستعمرُ مهما كانت صفته. لابد من كسرهِ، وإحراقه، حتى تعرجَ العقولُ بروحها الخلاقة إلى معارجِ الرقيّ، ومرافقة أشباهها من العقول المبدعة. لابد من الخروج على المألوفِ العتيق، ونبذِ التصلب والتطرفِ، وتوحيد الشخصية التي كثيراً ما وصفت بالازدواجية والوصولية والتبعية العمياء. وبعد الذي كتبتُه أعلاه، هل يمكنُ هذا، وهل لكل العقول أن تصل إلى ما ترسمه وتخطط له من تحول أم ستبقى هذه الكلمات محضَ أمنياتٍ فارغة، تجلس في نعش الأفكار؟!!

***

بقلم د. علي الطائي

 2024

في المثقف اليوم