قراءة في كتاب

مشكلة الهوية .. قراءة في كتاب نحن والآخر والهوية للباحث صالح الطائي

saleh alrazukيثير كتاب (نحن والآخر والهوية) للباحث الإسلامي صالح الطائي موضوعات حيوية وهامة. ومن العنوان يبدو أنه يسير على خطا مصنفات صدرت قبله في الخمسين عاما الأخيرة مثل (نحن والآخر) لتودوروف و(من نحن) لهنتغتون ومن (أكون باعتقادكم) لروجيه غارودي. مثل هذه المؤلفات تبحث في الحدود أكثر مما تبحث عما يتحرك وراءها. بمعنى أنها تضع تحت المجهر الخطوط الفاصلة بين المفاهيم المتعلقة ببناء الشخصية الجماعية. وأرى أن هذا الهم مستمر ولن يصل لزوال. ومعادلة أدونيس هي الجواب الناجع عليه والتي تنظر لكل شيء فردي على أنه حامل لقضايا ورسالة الجماعة. من منا لم يسمع بقصيدته العصماء (مفرد بصيغة الجمع)؟. إن الفرد البشري يختصر في حياته ومماته تراجيديا النوع وتاريخه العريق. وقد وضح فرويد ذلك في كتابه المختصر والبسيط (عسر الحضارة) والذي قال فيه إن تاريخ الحضارة هو تاريخ أفرادها. وهي تمر مثل الإنسان بطور طفولة ثم نضج وأخيرا شيخوخة وتفكك. وقد أثنى هيغل على هذا الرأي في دراسته لعلم الجمال وتكلم عن ولادة وشيخوخة كل ذهن ومذهب جمالي في تاريخ الإنسان.

***

يشتمل الكتاب على موضوعتين:

1- العناصر المشتركة للهوية.

2- والفرق بين الجهاد في الإسلام وسفك الدماء.

و لكنه يبدأ من فكرة مفادها أن الاختلاف هو سنة من سنن الكون. ولتتحرك عجلة الحياة إلى الأمام لا بد من نقاط التقاء. وهو ما يتم بالكلمة الصادقة والفكرة الطيبة. ولكن للأسف كان الخلاف مدعاة لنا طوال قرون للبحث عن هوية جزئية خاصة أخذت شكل معتقدات ومذاهب. وقد دب النزاع بين الفرقاء وسال الدم مدرارا. تارة بحجة الدفاع عن العقيدة وأحيانا بحجة الدفاع عن المنتفعين من هذه العقيدة وأتباعها.

لقد كان التنافس على أشده في ثلاث فترات حاسمة من تاريخ المسلمين: طوال فترة فجر الإسلام وبعد وفاة النبي (ص) مباشرة. ثم في القرن الهجري الثاني حينما تنوعت المذاهب والفرق. وأخيرا خلال مرحلة الفساد السياسي وتراجع دور العقيدة في تشكيل وجه المجتمع والدولة.

و كما يقول الباحث لقد تحول الخلاف إلى لحظة تاريخية لا تنتهي. والسبب برأيه النظر للتاريخ بطريقة سكونية. كأن الأحداث والأفكار جمدت في نقطة من الزمن، ولم يطرأ عليها تحول. فقد استمر تفسيرنا لتلك المحن المتتالية على ما هو عليه من تبرير وأسطرة. وبدأنا نتداول المشكوك بصحته وكأنه وحي منزل أو بديهة.

ومن هذا المنعطف غير العلمي والظلامي تحول التاريخ إلى كتلة غامضة ومشوهة من الأفكار والمعطيات.

ولا أشك لحظة واحدة في صحة هذا الكلام. فكتابة التاريخ الإسلامي وبكل صنوفه وتياراته، الليبرالي (كما لدى طه حسين) والذي يعتمد على شكل المدونة (كما في مصنفات وسير الشيخ محمد الخضري بيك) والتحليلي (كما هو حال يوسف العش وأمثاله من المتدينين المستنيرين) وأخيرا المادي (شأن حسين مروة ومدرسته) تناولوا الفتنة الكبرى (وهي أزمة عثمان ثم علي وبنيه) بالانطلاق من وقائع متشابهة ومكرورة. إنهم لم يدققوا في صحة تلك الوقائع وتفاصيلها ولا في التعارض الواضح في جزئيات الأسباب والممهدات. واكتفوا بتنويع القراءة. لقد تعاملوا مع تاريخ سحيق (إن شئت الدقة) وكأنه رواية معاصرة. ونحن نعلم أن التغطية على النوازع ودس السم في الدسم كان يعمل في الخلفية، ليس بغرض تشويه الحقائق، ولكن للتلاعب بمجريات الأحداث.

فقد كانت الحرب مستعرة بين فريق المؤمنين بالدولة الحديثة وثورتها على النظام العشائري البائد واقتصادياته ومحسوبياته، وبين فريق المنتفعين من الفتوحات.

و هذا ما يبينه الباحث في فصل مختصر عنوانه (الثوابت والتطور)، حيث يربط إشهار الفكرة والبيان عنها بدرجة أصالتها وقابليتها لحمل الحزمة الجديدة من المعطيات الحضارية. فيقول: وقـــد تعلمنـــا مـــن سلســـلة التجریـــب التـــاریخي التـــي عاشـــتها الأمـــم أن الثوابـــت كلمـــا كانـــت قابلـــة للإشـهار والإعـلان بــلا عـائق مـن خـوف أو خجـل كلمـا دل ذلـك علـى صــحتها وإنسـانیتها ومواءمتهـا لسنن التطور. أما تلك الثوابت المغلفة بالطلاسم السحریة والأسرار .. تحمل قدرا كبيرا من العجز وعدم التوافق.

ولذلك إنه يدعو للتخلي عن صفة التقديس التي نضفيها على الماضي لنتمكن من إعادة النظر به وبجدواه ولفرز الغث من الثمين.

وهذا يقوده لجوهر أطروحته، وهو التساؤل التالي: من نحن، وما هو المشترك والمفترق في الهوية؟؟..

و للإجابة على نفسه يقول: إن المختلف هو الذي ينجم عنه المشترك في أية هوية. لأن مبدأ التعريف بالذات يرتبط بالرد على اتجاه التطورات وطريقة إحساسنا وتقبلنا لها. وإن التهديدات والمخاطر المحتملة هي التي تلم شمل المتفرقات وتوحدها لمواجهة المشاكل. ولكن من المؤسف أننا لا نعرف الفرق لحينه بين الهوية الكلية وهوية الأجزاء. كأن نقول أمة إسلامية واحدة، وشعوب مسلمة لها خصوصيات وخطط وبرامج عمل متباينة والتي تتحدد غالبا بحالة المعرفة والسلطة والثروة.

وبهذا الشكل يفتح الباب لسؤال آخر عن مصادر الهوية: وهي عنده، نقلا عن هنتنغتون، السمات الشخصية والثقافية والإقليمية والاجتماعية والاقتصادية. ولا ينسى في هذا المجال أن يشرح الغموض الذي لحق بمعنى الهوية ولا سيما من جراء العسف والكبت والجور الذي وضع معنى المواطنة والخيانة على المحك. متى يكون المواطن خائنا ومتى يكون ثوريا ضد النظام القائم فقط. أضف لذلك سقوط فلسفة اتفاقيات سايكس بيكو ودخول المنطقة في معترك جديد وخطط استعمارية مغايرة قادت في نهايتها لأمركة الشرق الأوسط، وإسقاط المضامين الأصلية للنهضة والتنوير.

إن مثل هذا التسقيط الفكري قد نجم عنه خروج بعض الحدود من المعاني العامة والمشتركة كالولاء والتحالف والأصالة وهلم جرا، ودخول حدود غير واضحة طابعها الأساسي الغموض والشك والنرجسية. إنها حدود سريعة التشكل وبطيئة الانتشار، وتساعد على إقامة خطوط العزل على حساب التماهي والتشارك.

***

ولئن كان ما سلف يدخل في باب الكلام الذي يستحق كيل المديح والثناء، لا بد من التنويه ببعض النقاط التي تساعد على توضيح المصطلحات والمفهومات وتقلل ما أرى أنه جزء من منظومة التخلف الغامضة التي تزيد من لوعتنا وتفاقم من طبيعة القلق والتشكك التي نمر بها. وأهمها:

1- ضرورة التمييز بين الجوهر والماهية. فالباحث يذكر، بالحرف الواحد، أن غايته تتلخص في الدعوة لتعريف (أناي) ومعرفة الآخر. وهذا يفترض أنه ينظر للأنا كجوهر واحد ومتماسك ومعزول عن غيره من أفراد المجتمع. والواقع هذه فكرة مثالية تضع الحياة في الواقع بمستوى النشاط الذهني. والحقيقة إنه منذ ثورة المعلومات التي جاءت بعد الثورة الصناعية لم يعد الإنسان يمتلك نفسه. إنه أنا غيري أحيانا كما يقول لاكان. حتى أن التحليل الفرويدي المبسط للنفس البشرية يضع كل إنسان على مسافة من نفسه. لأن الشخصية غالبا تكون مفتتة (شخصية مركبة من عدة مصادر ومؤثرات). وتتألف في كل الأحوال: من الأنا ego والهو id. وهما التعبير المباشر عن تآلف وتنافر عالم الشعور واللاشعور.

ولا أقصد أن البنية النفسية والاجتماعية لأي شخص يجب أن تكون وفق تصورات فرويد. ولكن كل الأدلة عن فترة ما بعد الحداثة تؤكد أن لعقل الإنسان أدوات يتحرك بواسطتها. وبالتالي كما قال هابرماز هذه الحركة هي الحكمة من وجود أدواتنا العاقلة التي لها مضمون تواصلي. فالإنسان حامل ومحمول مثل المفردات في اللغة. لكل مفردة معنى يتبدل حسب السياق. فالجوهر الإنساني غير مطلق مثل الذات الإلهية، وهو مجاز وحقائق.

وإذا كان الباحث يشير بكلامه للجماعات وليس الأفراد فهي أيضا ذات صورة ومعنى. ولمزيد من التوضيح. لنأخذ إقليم كردستان العراق. ألا يتالف من أحزاب مؤيدة ومعارضة؟. وهذا برأيي دليل آخر على وجود المكبوت وعودته للصعود أحيانا.

و هكذا أرى أنه علينا أن ندعو مثل الباحث لتعريف الأنا ومعرفة الغير. وأضيف لذلك معرفة الأنا ومكوناتها والعلاقات المتحركة بين الطرفين kinetic relations .

2- دور جماعات الخطاب في تحديد المعنى العام والخاص. ففي التمهيد ثم في الفصل الأول (تعالوا نتكلم فالحقيقة جميلة) يذكر الباحث أن الخلاف في الإسلام يعني التزاور أو المخالفة. وهذا ينطوي في كل الأحوال على التعددية. لذلك لا يكون الحل دائما بالسيف ولكن بالكلمة الطيبة والحوار. وكل ذلك صحيح. لكن ضمن حدود السياق. فالتعبير عما تخفيه الصدور يطهر النفس من المضاعفات المحتملة. ويسمى هذا في اللغة العلمية manipulation. وأصلا الدراما الإغريقية تعمل على تطهير جمهور المتفرجين من خلال إثارة نوازع الرهبة والشفقة. ولكن لو هناك نزاع سياسي لا يمكن حله بعقد جلسة حوار بين مسؤول عسكري من فريق ودبلوماسي من فريق آخر. ولا بد من أن يكون الحوار مشروطا بتخصيصه ومتكافئا. السياسيون مع السياسيين والعسكر مع العسكر.

و أرى أن معجزة الهند المهاتما غاندي (وقد ورد اسمه في فصل الصورة الأخيرة) كان ضحية لجماعات الخطاب. فهو لم يحصل على جائزة نوبل للسلام بدعوى أنه حرض على التوتر الطائفي في بلاده. بينما ذهبت الجائزة لبيغن وأنور السادات. وهما أسوأ مثالين يؤمنان بالعنف لقمع المعارضة السياسية. وإن وجهة نظر جائزة نوبل في هذه الحالة فشلت في قراءة الفرق بين تأجيل النزاعات بين الدول وحلها. لقد كان خطاب الجائزة ينظر بعيون غربية وبقوانين اقتصاد السوق لمشكلة هي من خصائص الحضارات الشرقية النائمة. ولذلك وقعت في نفس الخطأ عدة مرات حينما بررت التعامل مع فظاعات الحروب على أنه تحرير للمكبوت، ولكن أدانت المواجهة السلمية للوصاية باعتبار أنها تجييش عرقي وطائفي.

3- أثر التطور العقلي ومنظومة التفكير على المعاني. وأرى أن الباحث صالح الطائي كان واضحا بهذا الشأن. وقد وضع دولة فجر الإسلام في سياقها المدني الطبيعي كأية منظومة اجتماعية تواجه المصاعب. ولم يتحدث عنها كقوة من عالم الخيال أو عالم محايث معصوم ويتطور من فوق الطبيعة البشرية المجبولة على صفات لا بد منها كالأثرة والأنانية وربما الغدر وانتهاز الفرص. لقد أشار بصراحة لمصادر المخالفة لرئيس الدولة. وحددها بخطين: المنافقون وهذا أمر معروف وشائع. والسياسيون التقليديون أو الحرس القديم بلغة هذه الأيام.

وعلى ما أعتقد أن أمر المعارضة الصامتة لم يرد في كتب السيرة ولا البحوث التاريخية. وعلى الأرجح يقف وراء ذلك سببان: الخجل من تشويه صورة الإسلام وتلويث سمعة الصحابة الأجلاء بأمور دنيوية. والثاني المنهج الاتباعي في التدوين. وهو من الخصال الجاهلية والتي ذمها القرآن الكريم. ألم يكن الجاهليون يتبعون دين آبائهم وأجدادهم؟. وهكذا هو حال التدوين الكلاسيكي.. نقل المسلمات السابقة من غير تدبر أو تفكير.

ولو اكتفى الإسلام بالنظرة الاتباعية لمرحلته لما دعا لتحريم القنانة، ولما استبدل كثرة الرموز في العبادات بالتوحيد.

إن ميزة كتابات صالح الطائي تتلخص في إعادة سرد وتركيب المدونة وقراءة ما بين السطور. ولا أريد هنا المقارنة مع منهج طه حسين. ولا سيما مقاربته المبسطة والسطحية لكوجيتو ديكارت. مع أنها كانت ثورة في قراءة الأدب الجاهلي في فترة حالكة من تاريخنا الاجتماعي المكتوب لكنها وضعت الثوابت في التاريخ أمام المتحولات. والواقع يقول بعكس ذلك. لقد كانت المستجدات تتفاعل من خلف قشرة رقيقة من المظاهر والثوابت. وإلا لما انطلقت شرارة حروب الردة بمجرد وفاة النبي. ولما اجتمع الصحابة في السقيفة للتشاور حول منصب الخلافة.

إن كل المؤشرات في المدونة تؤيد وجهة نظر صالح الطائي عن نزاع سياسي تغذيه أمراض دفينة. وكما نعلم إن ثلاثة من الخلفاء ماتوا غيلة وغدرا على مذبح أنانيات وأطماع الفرقاء. ولو امتدت فترة أبي بكر لسنوات إضافية لربما لاقى المصير نفسه.

4 – الالتباس في معنى الشخصية والهوية.

ففي فصل (الثوابت والتطور) يقول الباحث عن تعريف الهوية إنها إحساس فرد أو جماعة بالذات. وعلى ما أرى هذا التعريف يأخذ على الشبهة الملموس على وجه التحديد والمطلق على وجه التخصيص. ولئن كان في ذلك شيء من التلاعب باللغة فله ما يبرره وبالأخص أن الموضوع هو مساءلة لطبيعتنا النوعية في معترك الوجود. فالقضية لها علاقة بما هو استراتيجي وليس بما هو طارئ. وأعتقد أن ملامح أية شخصية تقبل التعديل والاستجابة للمتغيرات مع تعاقب الفترات والعصور، بينما الهوية جوهر ثابت. ولا يمكن التلاعب بمعطياتها. إنها دخل input (بلغة علوم الكومبيوتر) وليست الخرج output (بنفس اللغة أيضا). ماذا نقول عن مواطن أمريكي من أصول عربية، وما هي هوية الزنجي الأمريكي. هل تتساوى حقا مع الأمريكي المنحدر من أصول أنغلوساكسونية؟.. وقل نفس الشيء عن أهمية الراية في حياة أبناء البلد الواحد. إنها متغيرة مثل الحدود تماما. ورموز الرايات تتبدل في فترات متقاربة. وهو دليل على اتجاه هبوب الرياح واستبدال الموافق محل المخالف. ونحن نعلم جميعا أن الحدود في فترة ما بين الحربين قد تغيرت عدة مرات. وأقرب مثال على ذلك كليكيا وإسكندرون. لقد كانتا جزءا من سوريا واليوم هما جزء من تركيا. وسكان المنطقتين يتكلمون العربية ولكنهم يدينون بالولاء للجمهورية التركية. إنهم يخدمون العلم التركي ويحملون السلاح للذود عن الحياض التركية. وعليه إن الذات اللاوعية في حالة خلاف مع أحاسيس ومشاعر وواجبات الذات الواعية. ولذلك أميز بين ثوابت الهوية ومتغيرات ملامح ومضمون الشخصيات. فالأولى لها استراتيجية لا محيد عنها، بينما الثانية جزئيات وعلامات تتفاوت وتتشابه. وكما يقول الأب جون ماكوري المتخصص باللاهوت: الشخصية موجود بشري والهوية موجود تعرض للتصعيد فوق حدود واقعه الراهن (ص 76 - existentialism - John Macquarrie). وأرى أن الباحث صالح الطائي انتبه لهذه المشكلة وسماها بأزمة الهوية. وكان منصفا مع نفسه حين أكد أن حدود المصطلح ليست واضحة لنا ونحن ما زلنا نبحث عن هويتنا الأم التي ضاعت منا عبر العصور. وهذا تأكيد على وجود التداخل والالتباس.

5- ضرورة وضع الظواهر التاريخية في سياقها. وهذا يعادل عندي تفسير آيات القرآن الكريم وأحكامه على ضوء أسباب النزول. ففي فصل (السيف والسلفية) يلفت الباحث انتباهنا لأخطار دعوة لينين لفصل الكنيسة عن الدولة. وأستغرب جدا أن يكون لينين قد دعا فعلا بحكمته وباعه الطويل لمثل ذلك. إن الخطاب الشيوعي يجيز للسلطات أن لا تمتثل لأوامر ونواهي الدين. ولكن هذا ليس وقفا عليهم. فالكنيسة الأنغليكانية قاومت سلطات بابا روما. والقوميون العرب وهم خليط غير متجانس ويضم طيفا من أقصى اليمين (أنصار العرق والدم العربي) لأقصى اليسار (القوميات الاشتراكية) يؤمنون أن الدين لله والوطن للجميع. والقانون المدني هو الذي يحكم بالقسطاس في كل أوروبا الغربية الداعمة للكنيسة. وحتى لا نذهب بعيدا ينظر الشيوعيون للإسلام على أنه نظام يروج للإقطاعية ولكن تشوبه بعض الأفكار الإشتراكية. وعن ذلك يقول م. ت. ستيبانيانتس: إن بعض مفكري الإقطاع المسلمين يقدمون تصوراتهم الاشتراكية الخاصة ويقومون بتعرية " أمراض" النظام البورجوازي بطريقة تحمل طابع النقد من مواقع يمينية. وهذا برأيه يساعد على تنمية الحس الثوري عند البورجوازية الصغيرة التي تعاني من مزاحمة الرأسمال الكبير الغاشم (ص 27 - الإسلام والصراع بين الاشتراكية والرأسمالية - دار الفارابي- 1981).

و يضيف: إن الدين الإسلامي وقف سدا منيعا بوجه المجتمع الربوي. واستطاع أن يحمي مصالح الباعة الصغار والحرفيين والمزارعين من تسلط المرابين الطفيليين (ص 16).

و يأتي في هذا السياق الترويج في الاتحاد السوفياتي لدستويفسكي وتولستوي. لقد كانا من بين النبلاء ومن الطبقة الإقطاعية ومن المتحمسين للكنيسة والرب المخلص ولكنهما ساعدا على تعرية طبقتهما وانحلالها وفسادها. وقل نفس الشيء عن تحالف الشيوعيين في الثمانينات وفي أزمة الربيع العربي مع الإسلام السياسي في سعيه لقلب أنظمة الحكم الحالية. وفي هذا الصدد يمكن العودة لدراسة خالد إسماعيل سرحان عن التيارات الإسلامية في سورية حيث يرى أن الماركسيين والشيوعيين السوريين أقروا باهمية الإسلام في تحديد وعي المواطن باعتبار أنه دين الأكثرية (مجلة أبحاث إستراتيجية / عدد 4. 2013).

6- الشيء وضده: كانتقال المشاعر القومية بعد فترة من سوء الفهم إلى اللاقومية. وإذا كانت لأوروبا مداراتها الخاصة منذ العصر الوسيط وحتى الآن فلماكينة تدور لدينا باتجاه مخالف. إن صعود الدعوات القومية، التي أتت أكلها بعدة دول رفعت شعار الوحدة والتحرير والبناء، مرت بفترات حالكة تميزت بالخسران المبين على الصعيد العسكري والتفكك على الصعيد القومي. إنه لم تنجح ولا بادرة واحدة للم الشمل، واكتفت كل المحاولات بعمليات تجميل تبريرية وغير صادقة. وإلا كيف نفسر النزاع السوري العراقي لثلاثة عقود؟. وكيف نشرح لأنفسنا تحالف العراق مع الملكيات الرجعية وتحالف سوريا مع نظام الخميني في إيران؟. لقد عانت الأفكار القومية من سوء الحظ وحملت كل خطايا السلطات التي تداولت الحكم باسمها. وحاليا تبدو الصورة بشكل طوفان جماهيري نحو الانتماء المعاكس. فالمواطن هو ابن البلد الذي ينشط فيه ويعيش على أرضه. وهذه مصلحة مادية وتعمل على هدم وتفكيك المفهوم الرومنسي القديم لبلد لا وجود له على أرض الواقع. وكما أرى إن سوء الحظ جاء من نصيب الدعوات لرابطة إسلامية موسعة ورابطة عروبية موسعة. ومثلما ارتبطت الدولة القومية المفترضة بالنكسة والنكبة والحكم الشمولي ارتبطت دولة الخلافة الإسلامية بسوء السمعة والصيت في أرجاء العالم.

و لربما فات الباحث أن يشير لطبيعة الدوافع المتشابهة التي وقفت وراء هذه الكتل، لقد كان الإسلام السياسي مثل الأحزاب القومية والوطنية الناشئة، من أصول طبقية بسيطة وتحدوه أفكار خيالية بشأن مستقبل ذهبي. ومن سخرية الأقدار أن لا نتعلم هذا الدرس جيدا. لقد تآزرت الفئتان مجددا في الربيع العربي. والنتيجة استبعاد الإسلام السياسي لمصلحة تحالف الجيش ويسار الوسط.

هل هذا دليل على مقولة مارسيا إلياد بالعود الأبدي، وأن معنى التاريخ قابل للتكرار، ما دامت الشروط لا تزال في حدود نفس الدائرة؟..

بحسبة بسيطة يبدو أننا ندور في الحلقة المفرغة. إن سقوط تحالف محمد نجيب في مصر الخمسينات هو نفسه سقوط تحالف محمد الثاني (الذي حمل لقب الرئيس الشرعي). وهذا دليل آخر على الطبيعة المرحلية للربيع العربي.. فالأدوات المختلفة لم تقدم لنا نتائج جديدة. وإن تعيين الرئيس العسكري وصل لنفس النهاية التي جاءت في خاتمة رئيس مدني منتخب. وهذا غير بعيد عما حصل في العراق. ألم تنقلب الآية بعد سنوات قليلة من الغزو. ومن جاء بالدبابة الأمريكية بدأ بالتحسس من سياساتها المشينة التي لا تحترم الحكام المحليين.

و لذلك أعتقد أن المبررات والمقدمات هي نفسها. وإن معنى الهوية المفقودة هو نفسه معنى الهوية المشكوك بها. كلاهما مجرد ظاهرة من ظواهر هذه المرحلة..

فـ (نحن) رهن التخلف وإعادة النظر بالموروث، و(الآخر) في حالة ازدهار وفتوحات. أما (هويتنا) فهي هجين، أقله كتلة غامضة من الانتماءات والولاءات. وهذه هي المشكلة...

 

في المثقف اليوم