قراءة في كتاب

القراءة الروحية للدين (1)

1143 aliصدرت مؤخراً ترجمة لكتاب الفيلسوف الألماني (شلايرماخر) "عن الدين - خطابات لمُحتقريه"، ترجمة الصديق أسامة الشحماني ومراجعة الأخ العزيز د.عبد الجبار الرفاعي. فكان لهما الفضل في أن يتعرف العرب على هذا الكتاب المهم.

إن أهمية هذا الكتاب تنبع من طبيعة موضوعه و المرحلة الزمنية التي كتب بها شلايرماخر هذا الكتاب. فقد تعرض الدين لموجة إنتقادات واسعة بعد النقد الذي وجهه له فلاسفة القرن الثامن عشر لا سيما هيوم في موقفه من المعرفة الميتافيزيقية ونقدها لأنها معرفة غير خاضعة للتجربة و لا يمكن التحقق من صدقها أو كذبها.

هنا إنبرى شلايرماخر للدفاع عن الدين ضد مُحتقريه، وإن لم يستسغ الرفاعي لفظة مُحتقريه، لأن "كلمة "الإحتقار" تستبطن معنى الإزدراء والإمتهان، والإهانة والتوبيخ، وتشي بمضمون لا يخلو من تسلّط...وهذه المعاني لا تلتقي ومعنى "مثقف" ولا تليقُ به"، وكان الأجدى أن يستخدم كلمة "مُنتقديه" (ص13).

ولكني أرى أن شلايرماخر كان يعي إستخدامه لهذه اللفظة، لأن الدين كان وصار فعلاً محطة لتحقير مُتبنيه في القرن الثامن عشر الذي إنبرى جُلّ مفكريه للإنتقام من سلطة الدين ورجاله "الإكليريوس" الذين كانوا سبباً أساسياً في تمادي السلطة وإحتقار الشعب، فكان لهذا الإحتقار رد فعل "إحتقاري" مساوياً له، وهو شبيه بحالنا اليوم نحن العراقيين، فكثير من رجال الدين والساسة من المنتفعين في تجهيل الناس بإسم الدين ولد إحتقاراً لكثير من رجال الدين وربما نال هذا "الإحتقار" الدين نفسه أو بعض من مقولاته.

إنصبت محاولة شلتيرماخر على ضرورة فصل الدين عن العقل، وهذا لا يعني عنده أن الدين مخالف للعقل، إنما هو يرفض تبرير الدين بمقولات العقل أو العلم، كما يرفض الدفاع عن العلم بقسر مقولات الدين ذات الطابع الروحاني والأبعاد الصوفية لصالح العقل برؤيته التبعيضية والتجزيئية التي تصلح لتفسير حدث ما في زمان ما، ولا تصلح لتفسير رؤية كونية للعالم بأسرهلم يكن كتاب شلايرماخر هذا كتاب عقلي للدفاع عن الدين، بقدر ما كان كتاباً رومانسياً يحاكي الروح قبل العقل. فكان شلايرماخر "ينتقد في كتابه هذا إدخال العقل باحة الدين"، كما يؤكد المترجم (ص18)، فقد دعى ضمناً وصراحة "إلى فهم الدين من داخل الدين نفسه"، ولربما يعترض مُعترض وهل كان لنا نحن العراقيين من مُعاناة سوى أن يُفهم الدين داخل الدين؟ وهل كان مُتطرفوا السنة أو الشيعة يفهمون الدين من خارج الدين؟.

وما يُنقذ شلايرماخر من هذا المأزق هو ربطه الدين بالفن أولاً، فهو ينظر للدين بوصفه تجربة روحية تتوق للجمال والمحبة.

وما يُنقذ شلايرماخر من هكذا مأزق هو إيمانه بتعددية الفهم للدين، وهذا أمر يرفضه السلفيون والمتطرفون من السنة والشيعة، لأن كلٍ منهما يعتقد بأنه هو من ركب سفينة النجاة وأدرك سبيل الخلاص!!.

مهمة شلايرماخر في هذا الكتاب توجيه خطابات للمثقفين الذي يحتقرون الدين، لأنهم"متوافقون على أن لا إغراء جديداً في تقصي متون الدين..." (ص26)، لأن جُلّ المثقفين في القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، "يستخفون بكل أشكال الثقة باخبرات والمعارف الدينية" (ص27) و يُنكرون على الدين طابعه الزُهدي، وكأن شلايرماخر لا يرى في الدين ورجالاته ما أحدثوه في أوربا من مصائب وصراعات دموية وحروب راح ضحيتها الآلاف إن لم نقل الملايين بين البروتستانت والكاثوليك، أو ما سُميت حرب الثلاثين عاماً في القرن السابع عشر، وكلا طرفيّ الكنيستين عدّها حرباً مُقدسة، كما هو حال كثيرُ من السنة الذين يرون في داعش ممثلاً لهم في حربهم مع الشيعة "الرافضة"!!، والحال نفسه يَنطبق على الشيعة الذين ينظرون للحشد كله على أنه مُقدس، فهي حرب المقدس ضد المقدس!!.

وفي محاولة ذكية من شلايرماخر للدفاع عن الدين وبعض رجالاته المحترمين من الكهنة، نجده يُحاول أن يُشبه "الكاهن الحقيقي" بالفنان البارع، "المُتمكن من تمثل المنطق السماوي الأبدي وعرضه بإسلوب يبعث في الموضوع نفحة من المُتعة والثقة ويجعله مصدراً لا يَنضب، ومُرتكزاً تقوم عليه جل الطروحات الكُبرى. إنه الواعظ التواق لإيقاظ البذرة النائمة الباعثة للصورة الإنسانيو، ولإشعال جذوة الحُب للمطلق اللامتناهي وتحويل الحياة إلى شكل من أشكال التواصل معه...هذا هو "الكهنوت العالي" الذي يَكشف عن جميع الأسرار الرووحية..." (ص35).

أعتقد أن الإنسان يرى نفسه في تدينهه وإعتقاده إلّا ما يرغب بتصوره، أو بتبنيه له، فإن كان خيراً لا يرى في تدينه غير الخير له وللآخرين، وإن كان شريراً فلا نأمل منه خيراً لا له ولا لمُخالفيه، وإن كان مُرائياً، فالدين سلاحه يُطيعه في مراميه.

ولأن شلايرماخر لا يروم سوى خير الدين وتنقية قلبه من حقده وأحقاد "مُحتقريه"، فقد أخذ على عاتقيه أن يتحدث في كتابه هذا عما يحتاج الدين من تصحيح للفهم المغلوط له (ص38).

في خطابات شلايرماخر كثيرُ من الوعظ، قليل من التدليل للدفاع عن الدين بوصفه بنية أخلاقية مُتماسكة في مُحاولة لا أجدها موفقة للربط بين الدين والأخلاق، ص50 - 52).

يُحاول شلايرماخر الربط بين الدين والمحبة و "تأسيس وجدان الإنسان على قاعدة المحبة" (ص59). في محاولة منه للإيهام بأن هناك علاقة ضرورة بين ما هو ميتافيزيقي (لاهوتي) وبين ما هو أخلاقي، لأنه يعتقد بإرتباط هذين الجانبين بالدين في وحدة الموضوع، (ص60)، وإن كنا نجد في تأكيد شلايرماخر في الربط بين ما هو ديني وبين ماهو أخلاقي ربطاً تعسفياً لدمج ما هو أخلاقي بما هو ديني، والعكس صحيح عنده، ولكننا لا نجد مبرراً عقلانياً مُستساغاً لهكذا ربط.

لكن لشلايرماخر مخرج لمأزقه هذا عبر ربط الدين بالفن، لأنه يعدُ التدين ضرباً من الفن، (ص70)، لأن الدين عنده "مدخل لكل الصور التي تفتح أبوابها على الحقيقة والوجود والبعد اللانهائي"، (ص79).

وملاذ الفن والدين الوجدان والعاطفة، لأنها من "المباني الأساسية التي تُشيّد عليها مباحث الدين، وهي بهذا المعنى أحد أهم مصادر تكوين إدراك روحوالعالم..."(ص94).

 

جعل شلايرماخر من الدين "اللبنة الأساساسية لتشييد محبة الآخر"(ص95).

 

 

في المثقف اليوم