قراءة في كتاب

القراءة الرومانسية للدين (2)

ali almirhigلا يوجد في محاولة شلايرماخر للدفاع عن الدين ما هو مختلف عن كل لاهوتي يعيش في برجه العاجي ليحلم في بناء مدينته الفاضلة التي حلم ببنائها الفلاسفة الطوباويين، أمثال إفلاطون في "جمهوريته المُثلى" أو الفارابي في رؤيته ل "المدينة الفاضلة" أو القديس أوغسطين في كتابه "مدينة الله"، وإن إختلفوا في طرق الوصول لها.

فكان جُل هم شلايرماخر هو بناء الدين وفق فطرة البشر بميلهم للتدين (ص77) لأن الدين عنده " مدخلٌ لكل الصور التي تفتح أبوابها على الحقيقة والوجود والبعد اللانهائي" (ص79)، ليستمر شلايرماخر في قرائته للدين ببعده الرومانسي في محاولة منه لفصل البعد القدسي للدين عن متبنيات العقل البرهاني، لأن أبعاد الدين مُتحققة في الفن وقريبة من "نغم موسيقى مُقدسة" (ص81) بطابعها الوجداني والعاطفي "الرومانسي" الذي يُرَحِل الروح والجسد لمنطقة التسامي والورع والتقوى، لأن مُقتضى الدين مخاطبة الروح والقلب والذات التي تُنميها المعتقدات الدينية والمشاعر المقدسة، وبصورة شعرية لها بريق الرومانسية وحرارتها الوجدانية يجد شلايرماخر في الدين ومعتقداته بأنها "الأجمل والأعبق بين كؤوس وتيجان زهور ألحياة وبراعمها، لأنه لا يرى في الدين غير حياة ملؤها "التجدد والنضارة والإنتماء لنقاء مناخات الفردوس، تلك التي لا تطالها تقلبات الفصول" (ص87). وكأن الدين عنده شبيهٌ بالوسط الذهبي عند أرسطو في إعتداله وفي تجاوزه للإفراط والتفريط.

لرومانسية الدين حضورٌ وأثر في تصور شلايرماخر له ودفاعه عنه، فالدين يعني عنده " أن نُحب روح العالم، ونبتهج لمشاهدة صنيعها" (ص89) لأن الدين قيمة جمالية لا تختلف عن سواها من قيم الجمال الأخرى، لذلك إنصب هم رسل الدين على مخاطبة وجدان البشر لا عقولهم فقط.

لذلك نجد شلايرماخر يُركز على الربط بين الشعر والدين، فقد كان لإنسان مُتمركزٌ حول قناعته بقدراته العقلية وبإيمانه بقدرته الذهنية في السيطرة على الطبيعة، ولكن العمق غير كافٍ عنده لإدراك البُعد الجواني للحقيقة الكامن خلف ظواهر الطبيعة، وإن كان كل ما في الطبيعة من "نظام" يشي بوجود منظم لها مفارق لوجودها المُدرَك.

كان الإنسان وما زال يرنو لمعرفة المجهول في قادم حياته ويحلم بحياة أخرى بعد إنقضاء حياته في هذا العالم، لذلك تجد أغلب البشر مشدودين للمقدس المتعالي. إنه "النسيج المقدس" (ص95) بعبارة شلايرماخر، الذي بقينا نُنشد وجوده علّنا نحصل على حياة هانئة في دنيانا، وإن لم نحصل عليها في هذه الحياة، فهي الُبتغى والأمل في حياة أسعد وأجمل رسمها لنا الدين وصورها بأفضل ما ترتجي الأنفس وتهوى.

لأن شلايرماخر يرى أن "الدين هو الوحيد القادر على تحقيق عالمية الإنسانية" (ص106)،.

ولم يُخبرنا شلايرماخر أي دين يقصد هو الذي يُحقق "عالمية الإنسانية". هل هو دين سماوي من الأديان السماوية الثلاث؟، أم هو الدين الوضعي، كما هو عند الزرادشتية أو البوذية أم الهندوسية، أو كما هو عند الكاثوليك أم عند البروتستانت، أو كما هو عند المسلمين، سنة كانوا أم شيعة، أو عند اليهود، موسويين معتدلين أم صهاينة!!.

ولا أعرف كيف تسنى لشلايرماخر أن يصل لهذه النتيجة التي لا تؤيدها وقائع التاريخ، لا في صَلّب رجالات الدين اليهود للمسيح، ولا مؤشر لها في الفتوحات الإسلامية، ولا في ثورة الإصلاح الغربي ضد هيمنة "الإكلوريوس الديني".

لذلك أرى أن شلايرماخر في كتابه هذا لم يرتقِ ل "فهم الفهم" بعبارة "غادامير" وبقي يدور في "فهمه للفهم"، بأبعاده الذاتية و "الأنوية" التي تجعل من النص أسير فهم أُحادي، هو فهم القارئ له وفق رؤاه وثقافته المفارقة ربما لمرامي النص. ولأن بنية شلايرماخر الثقافية ذات أفق رحب في نظرته الإيجابية للدين بوصفه رؤية تخييلية، لأن في الخيال خروج عن تصورنا للعقل وتبعيضيته ليجد منرام في الدين رحابة أنه رؤية وجدانية تتضامن مع الرؤية الحدسية لتخيل عالم رومانسي له وجود في أخيلة الحالمين من شتى بقاع الدنيا.

 

 

في المثقف اليوم