قراءة في كتاب

القراءة الحالمة للدين (3)

ali almirhigلم أجد في دفاع شلايرماخر عن الدين سوى قراءة حالمة، المتمنى فيها أشد حضوراً من الواقع، فليس في الدين، إن رام شلايرماخر في دفاعه عنه، غير رؤى حالمة بأن نكون نحن بنو البشر مفارقون لطبيعة خَلقنا، كي ينتفي الصراع.

ولا أُخفيكم سراً أنني لا زلت لا أعرف مقصد شلايرماخر في دفاعه عن الدين، وأي دين يقصد، هل هو الدين السماوي؟ أم هو الدين الوضعي؟، وهل ديانات الشعوب غير التوحيدية هي من مرامي مقصده في الدفاع عن الدين؟ أم أنها تقع خارج منظومته الدفاعية.

لأن لُب الحياة الحقيقية عنده مُتجسدة في الدين، بوصفه المحرك الحيوي الدائم لصيرورة حياتنا، لأن وجوده مُتجذرٌ فينا، وهو الذي يمنح وجودنا كينونته.

وإمعاناً منه في تأكيد قراءته الحالمة للدين وفاعلية حضوره الإيجابي نجده يرى أن مغزى الدين توسيع أُطر المعرفة، "لأن فكرة الدين حُرة"(ص125)، فأينما يشع نور الله في قلب مؤمن، فتيقن أن "روح الله" الحُرة قد نشرت ضياءها في آفاق العالم الرحبة. لأن وجود الإنسان محكو بنظام ديني منذ ولادته!!. وهذا يعني "أن لا مناص من الحاجة لفهم الدين، بوصفه الوحيد القادر على أن يُقدم لنا فهماً مُتكاملاً للوجود من دون تشريحه أو تقطيع أوصاله" (ص130)، ولا أعرف كيف تسنى لشلايرماخر التوصل لهذا الحكم الذي أقصى فيه ضمناً حاجتنا للعلوم الطبيعية والرياضية؟ التي لا تنسجم مع الدين كثيراً لا في مُقدماتها ولا في نتائجها، وما أعرفه أن الدين كوجود نصي وتفسيري قد تراجع أمام مقولات العلم، رياضياً كان أم تجريبياً. وصار كثير من رجال الدين يميلون لربط الدين بالعلم بعد أن وجدوا ألّا قبول اجتماعي لهم في الإصرار على رفض مقولات العلم، وبعضهم آثر الإيمان بأن للدين ميدانه وللعلم ميدانه، وربما يلتقيان في المقصد والغاية، طِبقاً لقول ابن رشد في كتابه "فصل المقال": " أن الشريعة حق والحكمة حق، والحق لا يُضّاد الحق، بل يوافقه ويشهد له".

لم أجد في قراءة "الفقيه" أو "الصوفي" الحالم شلايرماخر ما هو قريب من متبنيات ابن رشد في الربط بين "الحكمة والشريعة"، إنما كانت أقواله مقولات صوفي حالم لا يرى في الدين سوى أنه "أفضل طُرق الإتصال بالحياة" (ص134)، وأي دين يقصد؟ وكيف يكون الدين أفضل طُرق الوصول للحياة؟، فهذا مما لا جواب واضح عنده.، فهل يمكن لنا أن نقول أن الفقيه الذي يفم الدين من داخله هو في تدينه مساوٍ للصوفي الذي فهم الدين من داخله أيضا، لأن شلايرماخر لا يؤيد "فهم الدين من خارجه" (ص125) رغم إختلاف طُرق الوصول، فالفقيه له متبنياته القُدسية التي سلح نفسه بها وفق وعي لغوي وتنزيلي للنص، والصوفي له مُتبنياته الخارج فقهية، والمتسلحة في الوعي الجواني للنص، وبقراءة بسيطة نُدرك أن شلايرماخر في دفاعه عن الدين هو أقرب للفهم الصوفي الحالم للنص، ولكن ما هو حال الفقيه المتآلف مع التفسير الفقهي للنص؟ وما هو حال العالم الطبيعي الذي يُضيف معنى وتفسيراً للوجود لا يبدو أنه من داخل النص القُدسي، وربما يتناقض معه في كثير من تجلياته التجريبية والمخبرية؟.

بقيّ شلايرماخر أسير رؤيته للدين ببعده الصوفي الحالم وتعريفه للدين بأنه غور الفرد الحدسي في ذاته، ليجعل من الدين قريباً من الفن يرتبط أحدهما بالآخر بوشائج قوية لها دلالاتها الروحية، وإن يكن "الدين ليس الفن، ولكن الإثنين يتوازيان على مستويات شتى" (ص144).

إن الدين عن شلايرماخر "فلسفة الإنسان التي ترتفع إلى مفهوم تعامله مع العالم...بوصفه أغنى مصادر طاقة (هذا العالم) وأكثرها عناية به، كونه "قوة أبدية وهو جوهرة وتعويذة تُزّين الوجود وتحميه" (ص145-146).

إن رؤية شلايرماخر الحالمة للدين هذه جعلته لا يرى في الدين سوى أنه تشريع لقبول التنوع والإختلاف، لأنه هو الذي "يمنحنا قدرة على أن نرى الآخر كرؤيتنا لذواتنا، أن تعاطى مع شرعية وجودنا عبير ما نُضفيه على الآخر من شرعية للوجود" (ص152). ولا أعرف كيف تسنى لشلايرماخر الوصول لهذه النتيجة التي تُعارضها طبيعة الدين، أي دين، بأنه من توصل لإدراك كُنه الحقيقة المطلقة، وتأسف دُعاته بأقل تقدير على أن مُخالفيهم لم يُدركوها!!.

والأغرب من ذلك كله أن شلايرماخر يرى أن: "الطيف الكهنوتي مجتمع، يُمكن أن يُوصف بالنظام المتكامل، إذ لا وجود لطبق أرسقراطية مُستبدة فيه، وحيث كل إنسان يكون هو القائد وهو المجتمع على حدٍ سواء" (ص157) !!. ليُزيد الطينة بِلّة بتساؤله المُدهش: أين هي روح الفتنة والإنقسامات، التي تتحدثون عنها وتتعاملون معها كما لو أنّها نتيجة حتمية لا تنفلت عن شِراكها الأديان"؟.

وكأن شلايرماخر يجهل صراع المسيحية مع اليهودية، وصلب المسيح. وكأنه يجهل ما سُميّ ب "الحروب الصليبية" بين المسلمين والمسيحيين، وربما تناسى معارك "الفتح الإسلامي"، فهذه كلها وغيرها لا تُعّدُ مؤشراً أن هناك فتنة أثارها دُعاة الدين ومتبنيه.

ومع كل ما أشرنا يُصر شلايرماخر على أن "الدين وحده القادر على منح الإنسان قوة قبول الحياة في أصى درجات إنحدارها... و الكهنوتي عنده واضح في تعبيره، مُشرق في دلالاته، وفي كيانه كله" (ص160)، وربما قصد في لفظة الكهنوتي نفسه الحالمة، وربما نفس ابن عربي أو إسبينوزا ومن سواهم ممن يحلمون بأن يكون الدين فكراً إشراقياً يُزيل قتامة الحياة ليجعل من الكهانة حرية في العبادة خارج المُتصور المُتعارف عليه في الكهانة بوصفها دراية وعلم وتعليم لبني البشر على أن طُرق الوصول لله بعدد أنفاس الخلائق كما يقول ابن عربي.

لتكون المؤسسة الدينية الكنسية، بمرامي وجودها الحقيقي، ضامن للُحمة الإنسانية، وداعية حقيقية لِلَم الشمل لا تفريق الجمع.!!

ليُنهيّ شلايرماخر كتابه "في الدفع عن الدين ضد مُحتقريه" بالقول: "ما أجمل أن تتعرفوا على الدين من الحاجة لإستفتاء العقل ومدونة الفلسفة" (ص191)!! لأن "الدين نقطة مركزية لدوران وجودنا، إنه نقطة التلاحم بين الفاني والأبدي (ص197).

وأختم قراءتي لكتاب شلايرماخر وفق تحولت ومتغيرات الحال العراقي بالقول: صار الدين قسيماً لنا نحن العراقيين بين وجودنا المدني وحضور الدين ببعده الطائفي أو الداعشي، ولا حول لنا وقوة إلّا بالنقد الممنهج.

 

علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم