قراءة في كتاب

نوبات شعرية لصالح الطائي

saleh alrazuk2في مجموعة (نوبات شعرية) لصالح الطائي الصادرة عن دار ليندا في السويداء بسوريا في خواتيم عام 2017، قراءة أفقية للمشاعر. ويمكن أن تقول إن هذه القصائد هي فورة وجدانية. أو بتعبير القاص المعروف قدري العمر إنها (حديث من القلب إلى القلب). وهو حديث بنبرة مرتفعة وصوت جهوري يصلح للمنابر والإنشاد. لذلك لا توجد في القصائد، التي يبلغ تعدادها (55) قصيدة، أحكام سلطانية أو مواقف للفذلكة والتأمل والتناقض مع حكمة الوجود أمام حكمة العدم. ولكن يتحكم بمجملها عدد من الخصال.

أولا- إنها قصيرة ومحكمة السبك. وأطول قصيدة في محور الموضوعات الوطنية لا تزيد عن 125 كلمة.

ثانيا- لا تحتاج لإعمال ذهن لفك ألغازها وحواشيها كما جرت العادة في الشعر الكلاسيكي الجديد أو شعر الحداثة. فالمعاني واضحة، وتعوم فوق الكلمات والعبارات. أضف لذلك سهولة المفردات. وأنت لا تحتاج لقواميس لا في الفلسفة ولا في اللغة لتفهم الأهداف والمدلول كما هو الحال عند أدونيس أو الجواهري على سبيل المثال.  فعلى الرغم من انتماء كل واحد منهما لعالمه يوجد ولع للتراشق بالأفكار الغامضة والكلمات الصعبة التي لا نستعملها في حياتنا العادية. ناهيك عن الرموز والإشارات العالمة التي يغلب توفرها في شعر أدونيس. وربما لا يوجد من كسر احتكار اللغة في شعر الحداثة غير حفنة قليلة وفي مقدمتهم محمد الماغوط. فلغته البسيطة لا تسقط في السذاجة، ويعوض عنها ما هو غير متوقع في علاقة المفردات ببعضها  البعض وبالصور والتراكيب. وهذا هو حال هذه الباقة من القصائد. إنها وجدانيات مبسطة وزاخرة بالنخوة وبالقدرة على الاتصال مع الوجدان العام لإنسان هذا العصر.

1192 salih

من ذلك قوله في مديح الحشد الشعبي:

فالحشد

قد رفع اللوا

والشعب هب جميعه

ومشى يطهر نينوى.(ص 25).

فقد كانت القصيدة متساهلة في اختيار المفردات لتسريع وتيرة الإنشاد والخطاب.

وقوله أيضا:

أفديك يا وطني الجريح

بأبي وولدي

والنسل. (ص 46).

ولاحظ هنا جمع ولد على ولدي وليس أولاد. واستعمال الفتحة مع السين في النسل لضرورة الموسيقا والإيقاع.

ثالثا- أنها رشيقة وسريعة الإيقاع. بمعنى أوضح إنها تخاطب الأذن مثلما تخاطب القلب. فهي تحشد المشاعر وتطرب أيضا. ولا أجد أي ضرورة لضرب مثال لأن سائر المجموعة مثال على هذه القاعدة الذهبية.

رابعا - ترادف شعر التفعيلة مع قصائد العمود كما هي الحال عند معظم إن لم نقل كل رواد الحداثة، ومنهم السياب ونازك الملائكة. وأعتقد أن هذا الموقف التوفيقي بين الأضداد ينم عن سلطة روحية لعراب الفنون عند العرب وهو الشعر.

خامسا- الجو العام للقصائد يستعمل أدوات النداء والتنبيه ربما لأن الخطاب موجه لجيل الأخوة والأبناء معا. أو لحقبتين هما الحاضر والمستقبل دون التفاتة حقيقية للماضي.  أما المضمون فهو تربوي بامتياز وعلى طريقة رواد التنوير والنهضة، وبالأخص أسلوب الترسل الذي خصص له أحمد أمين كتابه المشهور (إلى ولدي).  ومن القصائد التي تسير على هذا المنوال أذكر رسالة إلى ولدي (ص 31) و أمنية العراقي والأوغاد (ص 29)،  وناطور باب الجنة (ص 42)، ومن حقك يا ولدي (ص 48). ومع ذلك إن اللغة تخلو من المواعظ والإرشاد والنصيحة، وتقترب عمدا من النقد والتجريح والتسفيه.

مثلا يقول في قصيدة رسالة إلى ولدي:

اكفر بالأعياد

بالأرض

الجبل

الأوهاد. (ص 33).

ولتبرير موقفه يقول:

ما تسمعه يا ولدي

من قصص

وبطولات

أو أمجاد

هي أكذوبة مخمور (ص 33-34).

ولا يسعك أن لا تنتبه لنبرة النقد الذاتي والهجاء المباشر. ومن الأمثلة على ذلك قوله:

اليوم نحن أمة

نجانب الحق

وندمن الكذب (ص  38).

وقوله:

ونحن ناكرون

لا نشكر الكريم

ونكرم اللئيم (ص 39).

إلخ...

وتبقى لي إشارة هامة لا بد منها. أن هذه القصائد تنفخ بالنفير. إنها تستنهض الهمم، وتدغدغ الحواس الوطنية، وتدق على نداء الواجب، وتضع الانتماء للأرض وطبيعتها وإنسانها في المرتبة الأولى، وتفرض علينا أن ننتبه ونستيقظ، وأن نكون على أهبة الاستعداد.. بالعسكر (السلاح والجيش) وبالهوية (المطابقة بين الرؤية والإحساس أو بالتربية والتنشئة). ويختصر كل هذه العاطفة بعبارات مضغوطة ومقطرة وموجزة كقوله في قصيدة هزي إليك بجذع الوطن:

 سلاما لأرضك يا موطني

سلاما لصرحك

من مأمن (ص 36).

و لكن العدو أو الهدف في كل قصيدة هو نفسه. إنه الخطر الناجم عن العبث والفوضى. وربما ليس هذا غريبا على الشعر العربي المعاصر، وبالذات على موجات الشعر المعاصر في العراق. إنما الأمثلة السابقة كانت تدق طبول الحرب على بنية مركبة (أصدقاء في المبادئ وأنداد في الهوية مثل إيران)، أو أخوة في الهوية وأنداد في السياسة مثل سوريا. لقد كان العدو وهميا ومصطنعا وتخلقه إرباكات البروباغاندا.

والخلاصة. في قصائد صالح الطائي رؤية عامة وشاملة لمعنى العدو والهوية ولفلسفة الحرب. ويمكن اختزال كل شيء تحت عنوان واحد وهو عدونا الحضاري. والشواهد على ذلك كثيرة.

يقول في قصيدة  رتل تواشيح الهوى:

يا ما حضارات صنعت

وفيك  تاريخ ثوى (ص 26).

وفي قصيدة  يا أخوتي النيام  يقول:

يا غفلة يا أنت

والتاريخ يحكيك هوى (ص 42).

أو قوله في قصيدة أبحث عن فقيد اسمه وطن:

أبحث عن وطن

لا يشرب الدماء (ص 60).

إنها قصائد إنسانية، تنافح عن المبادئ وليس عن استراتيجية مؤقتة. وتدعو الإنسان للانتفاض على ما يكبل حرياته وما يسلب من وجوده أسباب السكينة والوئام والتراحم.  وبتعبير الدكتور رحيم الغرباوي في تقديم المجموعة: إن هذه الباقة من القصائد وعي يترك نفسه. ويتعالى على ذاته. (ص 13) وتعبير عن شعور داخلي صادق من الشاعر تجاه وطنه ومجتمعه وذاته.( ص 14).

 

د. صالح الرزوق

في المثقف اليوم