قراءة في كتاب

حكاية حياة صديقي: علي عبد الهادي

ali almirhigكان لي صديق يفترش الرضا ويلتحف الصبر، يُمني النفس بالآمال ولا يرقبها، لاعتقاده أن في المراقبة مضيعة للوقت، فلم يكن ما يحصل عليه من مال أو مكانة متأت من عطايا الإنتظار والحُلم، إنما هو متأت من الجد والكد والتعب.

بدأ صديقي علي حياته في قلعة سكر تلك المدينة الغافية على ضفاف نهر الغراف، بالقرب من بيته كان "معمل ثلج الكواظمه" وهو معمل صغير يقع وسط بستان سُميَ بالإسم ذاته "بُستان الكواظمة"، لأن مُلاكه كانوا تُجاراً تعود أصولهم لمدينة الكاظمية ببغداد، وقد سكنوا مدينة قلعة سكر، إما لأنهم رغبوا بالإستثمار في هذه المدينة التي كان أغلب سُكانها يجهلون التجارة، أو أنهم قدموا لسبب آخر يجهله، ولكن المهم أن هذه المدينة في أواسط السبعينيات لم تكن تعرف "الثلاجات" "ماكنات التبريد" وهي مدينة فقيرة لا قُدرة لأهلها لشراء هذه الماكنة العجيبة الحافظة للأغذية والمُنتجة للـ "الثلج"، فكان أغلب سُكانها في لهب الصيف، يلجأون لشراء "قوالب الثلج" من معمل ثلج الكواظمة، وكان صديقي علي يفرح كثيراً حينما تُرسله والدته لشراء "ربع قالب ثلج" من هذا المعمل، فقد كان يسكن في منطقة "الشوصة" وهي قريبة من المعمل، مُحاذية لبُستانين عامريَن "بُستان الكواظمة وبُستان عيَلان" وبالقرب منهما بُستانيَ "كعيم" و"سيد إبراهيم" وبساتين الخماس، وهي ملأى بالفاكهة، مثل البرتقال والرمان والرارنج والتفاح العراقي الأخضر الصغير والنخيل طبعاً الذي كان وما زال سيد الفاكهة في هذه المدينة بأنواعه التي لا عدَ لها.

كان صديقي علي عبدالهادي رغم حرارة الصيف شغوفاً بالذهاب لهذا المعمل، لأن هذا الطريق يمر ببعض البيوتات الملأى بأشجار السدر "النبك" الذي تتدلى أغصانه المُكتنزة بهذا الثمر خارج الأسيجة، ولن تكتمل فرحته بإيجاد "النبك" على الرصيف المُحاذي للأسيجة، إنما المُتعة كل المُتعة تكون بحمله بعض الحجارة ورمي أغصان أشجار السدرة المُتدلية الزاهية والمزهوة بفائض الثمر المسقيَ من عذب ماء الغراف المنحدر من "دجلة الخير" "أم البساتين".

تكتمل فرحت صديقي علي حينما يقطف بعض ثمار البساتين سواء بإختراق أسيجتها أو بقطف ما تساقط من فاكهتها خارج هذه الأسيجة.

من لذيذ أرطاب نخيل قلعة سكر وتمرها كان "الديري" وهو نوع من أنواع التمور، يتزين باللون الأحمر القاني "الماروني"، قبل أن يجف وهو في "عثوك النخل"، أي "عناقيد النخيل" يُسمى "حابسي" وبعد أن يجف وبعض منه يتساقط يُسمى "ديري"، الذي صيَره الله "جُكليت" للفقراء، ممن لم يعرفوا "الشيكولاتا" ولم يذَقوا طعم "الماكنتوش".

هو ذا طريق صديقي علي عبدالهادي، لحين وصوله لمعمل الثلج. كان بالقرب من معمل الثلج "ماطور" يُحرك "ناعور" يجلب الماء من شط الغراف لسُقيا بستان الكواظمة، وقد شكل بالنسبة له محطة الشعور بملامسة الهواء العليل المُبَرد وإستسقاء العطاشى من الذين نشفت عروقهم وشفاههم جراء إستنشاقهم لهواء "السموم" في صيف الجنوب الحارق.

أما المحطة الأخرى والعجيبة من محطات اللعب واللهو والراحة في حياة الطفولة لصديقي علي، فقد كانت عند دخوله لمعمل الثلج، فهو بالنسبة له كان من عوالم الخيال ومن نتاجات مدينة "والت ديزني" لمُتعة الأطفال، فحين الدخول لمعمل الثلج ترشقه رياح ناعمة باردة، يغفو لهنيهة، وكأنه قد دخل في غرفة فيها جهاز تكييف "أربعة طن"، ويصحو لا لرغبة منه في الصحو، إنما هو صحو لإستعادة الشعور بجمال اللحظة ولطافة نسائم الريح التي ظنها من هبات الإله في جنات الخُلد التي وعد المؤمنين بها.

كان هناك رجل يُمسك بجهاز هو اليوم أشبه بـ "الريمونت كونترول" ليُحرك قوالب الثلج للأمام وللخلف، فهناك ماء يجري تغطس فيه القوالب الفارغة لتمتلئ بالماء، فيدوس الزرار ليُرسل هذه القوالب لماكنة التثليج، ويدوس زرار آخر ليستقدم قوالب الماء المُجمدة، فتنقلب بحركة شبيهة بحركات لاعبي الجمناستك حينما تكون أقدامهم للأعلى ورأسهم يتدلى، لتسقط قوالب الثلج لتبعث البهجة في نفس علي بهجتي: بهجة طريقة "الشقلبان" أو "الجقلمبة" باللهجة العراقية" التي تنقلب بها قوالب الثلج، والبهجة الأخرى هي لحظة خروج قوالب الثلج من القوالب الحديدية، وكأنها تُعلن عن ولادة حياة جديدة يمنحها أمل الإنتظار أثناء خروج قوالب الثلج يمنحها التمتع بالبرد لمُنتظريها في القيظ شبيه بمتعة إنتظار الوالد لمولوده البكر.

لا يرغب علي بمُغادرة المعمل، ولكن يعي مقدار مُعاناة والدته إن إستبطأته، فلربما تأتي تعد الخطى بمرارة الألم تلوم النفس كيف تسنى لها أن تُرسل طفلاً في السادسة أو السابعة من العُمر كي يجلب الثلج، فتباً لكل نسائم البرد والشعور بلذة رشفة الماء المبرد حينما يكون الثمن القلقل على الولد، فماذا ستقول لمن يلوم ولكل حاسد إن كان همه البغض والحسد؟ فتحمل الألم والحر والقهر أكثر إيلاماً وأشد من فقد ولد.

ولم تدري أم علي أن الولد يهوى بساتين القلعة "بستان الكواظمة وبستان عيلان وبستان كعيم وبستان سيد ابراهيم" وكل بساتين الغراف ما قدم منها وما إستجد.        

 

 

في المثقف اليوم