قراءة في كتاب

مُتعة القراءة الفلسفية.. قراءة في كتاب "دعونا نتفلسف" لـ "علي حسين"

ali almirhigيميل علي حسين في كتابه "دعونا نتفلسف" الصادر هذا العام عن أثر في المملكة العربية السعودية، إلى تبسيط الفلسفة وتخليصها من بعض الرطانة التي وصفت بها لغتها، محاولاً ربط الفلسفة بالواقع بوصفها سؤال دائم ليس فقط عن أصل الوجود وإن كان هذا سؤالها الرئيس، إلَا أنها لا تنفصل عن هموم الناس ومشاكلهم، لذلك يذهب علي حسين للربط بين أسئلة الإنسان البسيط وأسئلة الفيلسوف، ليكشف لنا عن وجود نزوع فلسفي عند كل إنسان عاقل وإن لم يكن فيلسوفاً، مقترباً في رؤيته هذه من رؤية هربرت ريد في كتابه "الفلسفة أنواعها ومشكلاتها" التي طرح فيه مفهومي "الفلسفة الإصطلاحية "النظرية" والفلسفة الشعبية "الساذجة" ليؤكد أن كل إنسان يميل إلى حل مشاكله وفق رؤى ونظريات الفلسفة التقليدية، سواء أكانت عقلية أم تجريبة، مادية أم روحية، واقعية أم مثالية، ولكنه لربما لا يعرف أن وجهة نظره التي يتبنها في حل مشكلة تواجهه هي لها تصنيف إجرائي يندرج ضمن نظريات مدارس الفلسفة التقليدية. هي دعوة للتمتع بقراءة الفلسفة.

إختار علي حسين "25 فيلسوفاً" مبتدءاً مع بهريقليطس، ليختم كتابه بمقال مُثير بعنوان "مئة كتاب تجعل منك فيلسوفاً". أي قرائتها والـتأمل بها بعقل نافذ وناقد، وهي لفلاسفة من إتجاهات عدة، عبر تاريخ الفلسفة الطويل، منذ اليونان إلى يومنا هذا.

بقفزة تاريخية من ما قبل ميلاد المسيح بما يقرب الأربعة قرون وبتجاوز لفلستي إفلاطون وأرسطو بكل ما في فلسفتهما من تأثير وحضور في المدارس اليونانية المتأخرة وفي الفلسفة الإسلامية وفي الفلسفة المسيحية، وتجاوز كبار فلاسفة هذه المراحل التي تكاد تقترب من عشرين قرناً، وإن كان علي حسين قد أشار هنا وهناك لبعض فلاسفة هذه القرون من خلال تأثر أحد الفلاسفة موضع بحثه بهم، مثل أثر إفلاطون في فلسفة كانت أو تأثر ديدرو في كتابه "رسالة حول العميان" التي يستعير فيها ديدرو فكرة "الكهف الإفلاطوني" بإشارة ذكية منه لإعتياد الناس على الألفة مع المعرفة الزائفة حتى بدت لهم وكأنها، بل هي الحقيقة، فجعل علي حسين من فلسفة إفلاطون تبدو وكأنها الباب الذي يُمكن لنا الدخول منه لفهم فلسفة ديدرو، كما جعل من فلسفة توماس مور في "اليوتوبيا" أو "المدينة الفاضلة" إستكمالاً لفلسفة إفلاطون في كتابه "الجمهورية"، مُشيراً لفلسفة لكتاب الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة" بوصفها فلسفة ذات سمة إفلاطونية يونانية. وجميع هذه الكتابات الفلسفية الكبيرة تدور حول تحقيق فكرة "العدالة" التي شكلت محور الفكر الأخلاقي على طول تاريخ الفلسفة وصولاً لجون رولز.

1237 aliوقد تناول تأثر سنيكا في فلسفة هيجل، وقد جعل من فلسفة هيجل مدخلاً لفهم فلسفة سينيكا، لا سيما في موضوعة الربط بين "العقل والحرية" التي شكلت محور فلسفة هيجل.

نجد علي حسين ينتقل بنا للقرن السابع عشر، ليكتب عن ديكارت، الذي أقام كثير من رؤاه الفلسفية والمنطقية على أنقاض الفلسفة الأرسطية لا سيما في كتابيه "مقال في المنهج" و "تأملات ميتافزيقية في الفلسفة الأولى". ولم يترك الفلسفة التجريبة ممثلة بجون لوك وديفيد هيوم من دون أن يُشير لجهودها في نشر الوعي التجريبي ورفض الخضوع للفلسفة التأملية والمثالية وتأكيدهم على أن المصدر الأساس للمعرفة هو الحس وليس العقل، وهم بذلك قد أقصوا بعض من فاعلية الرؤى الغيبية في الحياة العلمية والاجتماعية.

أُعجب علي حسين بالنظام الذي رتب الفيلسوف "كانت" حياته وفقه، فقد عُرف بدقته في تصنيف ساعات اليوم بين المحاضرات والكتابة والرياضة وإستقبال الضيوف، إذ كان لكل عمل من هذه الأعمال وقته المُحدد.

نشر كانت مقاله "ما التنوير؟ عام 1784، الذي إنتقد فيه إنقياد عقلنا لفكر شخص آخر، ولا خلاص لنا من هذا الإنقياد الأعمى إلَا بإعمال العقل وتنمية الوعي النقدي للخلاص من النظام الأبوي في الفكر والدين والسياسة، فلا سلطة لغير سلطة العقل على نفسه. فكان مقاله هذا بحق، دعوة للتحرر وهدم لنظام الوصاية الذي تُمارسه السلطة بكل تمظهراتها.

لم يتخل علي حسين عن سعيه لنقد هيمنة رجال الدين وسلطتهم المزعومة، وذلك عبر إستنطاق فلسفة أغلب الفلاسفة الذين كانوا محط إهتمامه في كتابه هذا، فقد ركز على نقد كانت لرجال الدين وتحريفهم للنصوص المُقدسة والديانة المسيحية، فكان كتابه "الدين في حدود العقل" صرخة في وجه "الكهانة الدينية"، ليُعطي كانت للعقل دوره في إنكار الممارسات الطقوسية للمتدينيين، ليدعو لدين عقلاني لا مكان فيه لما هو خارق أو مُعجز. لذلك وضع كانت عبارته الشهيرة "العقل مشروع الطبيعة"، كي يجعل الطبيعة موضوعة العقل الإنساني وعالمه الحقيقي، لأنه لا يرى في قوانين الطبيعة ما هو خارج ممكنات العقل البشري في الإدراك.

بعنوان "لم يفهمه إلَا واحد...وحتى هذا أساء فهمه" يتناول علي حسين فلسفة هيجل الذي تأثر بفلسفة كل من سينيكا فيلسوف الرواقية حينما دافع عن العقل وربطه السقراطي بين المعرفة والفضيلة وعدَه العقل نعمة حظي بها الناس. تأثر هيجل أيضاً بفلسفة مونتسكيو في كتابه "العقد الاجتماعي" التي تأثر بها من قبل أستاذه "كانت"، فمال للفصل بين الدين والدولة ونقد سلطة رجال الدين التي نقدها "هولدرلن" من قبل اب هيجل بمقولته "لا سبيل إلى هز صرح الكنيسة الأرثوذوكية طالما أن مهامها ترتبط بمصالح دنيوية، وتتداخل في بناء الددولة، وطالما أن الكنيسة مُصرَة على أن تجعلنا نضع أيدينا في حجورنا ونتكاسل في إنتظار أن تأتي مملكة الله. العقل والحرية سيظلان كلمة السر بيننا، ونقطة إتحادنا هي الكنيسة غير المرئية". لذلك نجد علي حسين لم يُغادر مُبتغاه في نقد المؤسة الدينية حين قراءته لهيجل، فهو لم ينظر لمثالية هيجل وحديثه المُستمر عن المُطلق، إنما نظر لهيجل بوصفه المنافح عن الحرية وربطها بالإرادة، فليس المطلوب من الإنسان أن يُمارس حريته من دون إرادة، والإنسان الواعي هو الذي يمتلك الإرادة وبمعرفة الكيفية التي يختار بها بحرية كي يكون مُشاركاً في بناء الوعي الحر للأفراد والشعوب التي تختار بإرادتها القانون، لا ليكون خانقاً، بل ليصيح مُساعداً لها على مزيد من التحرر.

لم يتناول علي حسين  مفهوم الجدل عند هيجل الذي كان له الأثر البيَن في فلسفتي فيورباخ وماركس المادية. وكنت أتمنى أن يكون مقاله بعد هيجل عن فيورباخ أو ماركس، ولكننا نجد علي حسين يكتب مقاله المعنون "مُهمتي أن أخلق المشاكل والصعاب في كل مكان" عن الفلسفة الوجودية عند كيركيجارد في تأكيده على وجوب  أن يبدأ التفلسف مع الإنسان لا مع الطبيعة مُنتقداً بهذا البعد التجريدي في فلسفة هيجل وهيامه بـ (المُطلق).

كان لمكيافللي حصة في كتاب علي حسين، لا سيما رؤاه السياسية في كتبه: مطارحات وفن الحرب والأمير الذي مثل جوهر فكر مكيافللي، إن لم يكن جوهر ما وصلت له الفلسفة السياسية في عصره.

كنت أتمنى أن يكون ما كتبه عن نتشه أكثر غزارة وشرح وتوضيح لفلسفته، ولكن علي حسين إقتصر على توضيح بعض من رؤى نتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" وإشارة بسيطة لكتاب "أفول الأصنام"، لكن لنتشه أثره في فلاسفة ما بعد الحداثة، ولنتشه الفضل في نقد سلطة الحقيقة المفرطة واليقين المُطلق الذي هيمن على أيديولوجيا فلسفة الحداثة، ولنتشه الفضل في نقده الواضح لهيمنة الفكر الديني وإعلانه "موت الله" الذي فسره قُرائه بأكثر من تفسير وتأويل، منها قول بموت الإله الكنسي كما تصوره رجال الكهنوت الديني في الفكر المسيحي.

برغبة عارمة وبنزوع واضح لتقبل فكرة "التسامح" برغم ما يعتريها من النقد، لأنها ترتكز على فكرة أهلية المتسامح مع المُتسامح معه،  يعود لإسترجاع رؤى "فولتير" و"جان جاك روسو" في هذا الموضوع، بعقلية الناقدة لتعقيد لغة الفلسفة وتجهم وجوه أغلب الفلاسفة، فقد ألف "القاموس الفلسفي"، الذي ركز فيه على نقد "الطُغيان" و "الإستبداد"، وكراهيته الواضحة للتعصب، وأبان عُقم الميتافيزيقا بدعوته إلى إنكارها من خلال رفضه لمفهوم العناية الإلهية التي تدور حولها الديانة المسيحية، وبالتالي رفض كل ما يُناقض العقل ويُعارضه، ومن ثم رفض الفلسفات التأملية التائهة في خرافات الميتافيزيقا وتوهماتها، وسعيه للدعوة للسلام والتسامح، ورفض الحروب الدينية، وشجب التعصب العقائدي. كان فولتير مُتبنٍ للقول بضورة إعادة بناء الدين والمُعتقدات على أسس عقلية، للقضاء على الخُرافة والأساطير وكل ما يشذُ عن العقل.

إنه فيلسوف المساواة والقانون  والحُرية بحق، فهو القائل:"قد أختلف معك في الرأي، لكني على إستعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في أن تُبديه وتُعلن عنه".

في قراءته لفلسفة ديدرو يقف علي حسين على موقف ديدرو من رجال الكنيسة "الكهنوت" بقوله:"توجهوا بالضربة النهائية لشجرة الخُرافة، ولا تقتعوا ببتر الفرع، بل إستأصلوا العشب الذي إستفحلت أضراره المُعدية، كونوا على وعي مُطبق بأن نظام الحُرية والمساواة يتناقض تناقضاً صريحاً مع المُهيمنين على مذابح الكنيسة، وكراسي السلطة". أما في قرائته لـ "جان جاك روسو" يقتبس بعض نصوصه من كتاب "إميل" في التربية" بقوله عنه:"أعظم رسالة في التربية"  و "أصل التفاوت وأسسه بين البشر".

كان فولتير من المدافعين عن نظام الجمهوري في الحُكم، لأنه يجد فيه ضمانة حقيقية لمبدأ الفصل بين السُلطات، لأن الملكية تنتهي إلى الطُغيان، ولا يُمكن طاعة البشر بإسم طاعة الله، بل لا بُد من طاعة البشر بإسم قوانين الدولة. "يصيح الدكتاتور بأنه يُحب وطنه وهو في الحقيقة لا يُحب إلَا نفسه".

ماركز عليه علي حسين في قراءته لفولتي هو نقد الأخير لرجال الدين، ونقده لتدخلهم في شؤون السياسة، لذلك أُعجب بدعوته لفصل الدين عن السياسة.

تناول تصور الفلاسفة لفكرة الحرية التي عبر عنها فلاسفة البراجماتية وفق منهجهم ورؤاهم المبنية على النظر للفكر وفق مقتضياة الحياة وتقلباتها، أي أن العمل يسبق الفكر، وهذه الرؤية قد تجلت عند كارل ماركس وأتباعه والفلاسفة الوجوديين، كل حسب منهجه ورؤيته للحياة، فقد كان هاجس ماركس وأتباعه هو كيفية تمكين طبقة "البروليتاريا" من الحصول على حقوقها والقضاء على هيمنة الطبقة الأرستقراطية على وسائل الإنتاج وإدارة الدولة، بينما نجد الفلسفة الوجودية ممثلة بهيدغر وسارتر وسيمون دي بوفاور وكامو يميلون للقول بأولوية الإنسان والإعتقاد بأهمية تثبيت مقولة "الحرية" بوصفها أساس كينونة الوجود وصيرورته، طبقاً لمقولتهم الشهيرة "أسبقية الوجود على الماهية".

للفلسفة المعاصرة حضورها في كتاب علي حسين، ممثلة بفوكو عبر التعريف برؤيته في الربط بين المعرفة والسلطة، أو في مُعالجته لموضوعات مثل: الجنس و الجنون والسجون، أو تأكيده لفكرة "موت الإنسان" أو "موت المؤلف" أو عبر الإشارة لتلميذه ألتوسير في قرائته لكتاب "رأس المال" لكارل ماركس.

أما الفلسفة التحليلية، فقد تناولها من خلال فلسفة فتجنشتين، ليُبين موقفها الرافض للبحث في القضايا الميتافيزيقية لأنها قضايا تقع خارج إطار التحقق التجريبي ومنطق اللغة.

لم يبق لي سوى الإشادة بجهد علي حسين، رغم ما إعترى الكتاب من بعض تسرع في عرض أفكار فلاسفة كبار في مقال، ولربما كان هذا من مقاصد الكاتب، كي يُقرب التفكير الفلسفي من القارئ العام الذي كان كما أعتقد هدفه في هذا الكتاب، الذ كان في الأصل مجموعة مقالات في الصحافة جمعها من دون تبويب منهجي وأكاديمي يُراعي النسق التاريخي لظهور الفكرة الفلسفية وفق مُتطلبات عصرها ونقدها زمنياً في تاريخ لاحق وفق مُتغيرات ذلك العصر.   

 

في المثقف اليوم