قراءة في كتاب

الفلسفة والسلم المجتمعي.. تلخيص لرؤية كانت في كتابه "نحو السلام الدائم"

علي المرهجهناك من يجعل من السلم المجتمعي وكأنه رديفاً للأمن الثقافي، ولكن شتان بين المفهومين، فمفهوم الأمن مُرتبط بتصورنا لجموع المدججين بالسلاح من حملة رايات الحفاظ على أمن النظام.

وتم تداول مفهوم الأمن مع نشوء "مجلس الأمن" للحفاظ على أمن الدول وإحتواء الصراعات الدولية.

وهناك معنىً عسكرياً للأمن يحمل في طياته الحفاظ على الأمن الاخلي للبلد "الشرطة" والحفاظ على الدولة في حال تهديد أمنها الخارجي من دول مُجاورة "الجيش".

وهناك "الأمن الغذائي" الذي تسعى فيه الدول مُنظمات المُساعدة الدولية للدول الفقيرة لضمان حد أدنى من القوت.

في ضوء ذلك يتسائل فؤاد زكريا: أين الثقافة من كل ذلك؟ .

ولكن هناك خطر على الثقافة داخلي وآخر خارجي، الأول هو في قمع حرية التعبير ولجم المثقف عن إبداء رأيه، وهو أمر مُرتبط بكفاح سياسي من المثقف، ولكنه ليس بثقافة، لأن الثقافة تأتي بعد تحقيق الحرية وشعور المُثقف بضمان حرية التعبير.

أما الخارجي، فهو المُرتبط بسيادة نمط فكري إقصائي قمعي مُستورد من خارج النمط الثقافي الذي ينبغي أن يكون حُراً، أو ما يُسمى بـ "الغزو الفكري" للثقافات الفاسدة.

وخلاصة رأي فؤاد زكريا هذا "أن الثقافة مثلما تزدهر في ظل الأمان تزدهر أيضاً في ظل إنعدام الأمان. وكلنا قد سمعنا عن تلك الثقافة الرائعة التي تظهر "تحت الأرض" في أوقات القهر السياسي أو الإحتلال الأجنبي أو في ظل أنظمة الحُكم الغاشمة...

إن الثقافة الحقة، تقضي على كل ما كُنت تحس به من "أمن"، والبديل هو "القلق الثقافي" فبه وحده يتحقق ذلك الجهد العقلي والروحي الرائع الذي هو أخص ما يُميز الإنسان، رسالته ومعناه .

لا يُمكن تصور وجود مجتمع مبني على السلم إلًا ووجدنا الفلسفة في هذا المجتمع لها قدم السبق في تنمية روح التعايش والسلام فيه. منذ بداية نشأة الفلسفة وأصحابها يحلمون بوجود مُجتمع فاضل أو ييسعى أفراده بجد للوصول لهذا المجتمع.

ولا أعتقد أننا بحاجة لإعادة طرح وشرح مقولات إفلاطون والفارابي والقديس أوغسطين في البحث عن "الجمهورية المُثلى" أو "المدينة الفاضلة" أو "مدينة الله"، وهي ذات المحاولة التي سعى توماس مور للحديث عنها في كتابه "اليوتوبيا"، وأكمل (إيمانويل كانت) تصورات هؤلاء الفلاسفة المثاليين والحالمين ببناء دولة أو مدينة مثالية ليست في مكان ولا أصل لها في الواقع، بقدر ما هي موجودة في أذهانهم ومن بناة أفكارهم وتصوراتهم، يكون المُجتمع فيها خال البغضاء والتحاسد والعنف والشرور، والعيش بسلام وأمان وهذه المهمات هي من شروط وجود الدولة والحكومة الرشيدة أو العادلة.

طرح كانت في كتابه "مشروع السلام الدائم" رؤيته الفلسفية لإقامة مجتمع مدني أساسه والعدل والحرية، ويمكن لنا تلخيص مشروع كانت في كتابه هذا هي بمجموعة مواد:

1ـ عقد سلام بين الدول على أساس معاهدة، وينبغي أن لا تكون هذه المُعاهدة مبنية على عدم ثقة الطرفين مع بعضهما البعض، أو أن يكون هناك نية مُبطنة عند عاقديها لأمر من شأنه إثارة الحرب من جديد.

2ـ لا يجوز إمتلاك دولة لدولة ما، وإن كانت هناك دولة كبيرة وأخرى صغيرة سواء أكان الأمر بالميراث أو الشراء أو الهبة، فليس من حق الدولة الكبيرة مُصادرة إستقلالية وحُرية الدولة الصغيرة، لأن الدولة، لأن كل دولة هي جماعة إنسانية لا يحل لأحد سواها أن يفرض سُلطانه عليها أو أن يتصرف في شؤونها.

3ـ إلغاء الجيوش الدائمة إلغاء تام على مر الأزمان، لأن في وجودها الدائم تهديد لأمن الدول الأخرى. أي "نزع السلاح تدريجياً، لحين الوصول إلى زوال الجيوش المُحترفة" .

4ـ العمل على الإبتعاد عن الإستدانة أو "القروض" الدولية، إن لم يكن بمُستطاع الدول المُستدينة وبخطط مدروسة إسترجاع الدين أو "القرض".

5ـ منع تدخل أي دولة بالقوة في نظام دولة أخرى، أو في طرقة الحُكم فيها، لأن مثل هكذا تدخل حتى وإن كان حسن النية والمقصد، غالباً ما يؤدي إلى شقاق وإنقسام بين أبناء هذه الدولة، فضلاً عما يحمله هذا التدخل من زعزعة لإستنقلال الدول جميعاً.

6ـ لا يحق لأي دولة في حربها مع دولة أخرى أن تستبيح لنفسها مع تلك الدولة القيام بأعمال عدائية، كالإغتيال، والتسميم، وخرق شروط التسليم، والتحريض على الخيانة، لأن من شأن هكذا أفعال عند عودة السلم بين البلدين، فقدان الثقة بين الدولتين.

على الرغم من أن كانت يُعد من أوائل دُعاة السلام الدائم بين الدول، إلًا أنه في الوقت نفسه يعتقد بأن "حالة السلام بين أُناس يعيشون جنباً إلى جنب ليست حالة فطرية: إذ أن الحالة الفطرية أدنى إلى أن تكون حالة حرب. وهي وإن لم تكن حرباً مُعلنة، إلَا أنها على الأقل مُنطوية على تهديد دائم بالعدوان. وإذن فينبغي إقرار حالة السلام" .

يعتقد كانت بضرورة أن يكون الحُكم جمهوري، لأنه يعتقد أنه قائم على مبدأي المساواة والحرية وإحترام حق المواطن في إختيار مُمثليه أو من ينوبون عنه في البرلمان والحكومة التنفيذية.

وضع كانت ما أسماه "قانون الشعوب" وهو الضامن لتحقيق السلام الدائم بين الدول، ينبغي أن "يقوم هذا القانون على أساس نظام إتحادي بين دول حُرة" إي نظام "فيدرالي" يُبنى على أساس إنشاء "حلف السلام"، وهو يختلف عن "معاهدة السلام"، لأن من شأنه أن يقضي إلى الأبد على الحروب جميعاً، بينما "مُعاهدة السلام" إنما هي إنهاء لـ "حرب واحدة".

في هذا الحلف ينبغي للدول أن تتخلى عن حُريتها "الهوجاء" بعبارة كانت، "وأن تُذعن لإلزام القوانين العامة، فتؤلف بذلك "جامعة الأمم" تنمو على الدوام حتى تشمل آخر شعوب الأرض جميعاً". الأمر الذي يقتضي مُعاملة كل أجنبي موجودة في دول هذا الحلف أو "جامعة الأمم" على أنه مُرحب به وتنطبق عليه كل قوانين البلد الذي حلَ فيه، وللدولة المُضيفة حق رفض إيواءه في حال كان في وجوده ما يضر بمصالح الدولة المُضيفة.

يدعو كانت إلى إعطاء الفلاسفة الحق في تنوير الدولة والحاكمين فيما يتعلق بالأمور السياسية .

وإن كان في مشروع كانت كثير من النزوع نحو الحُلم والمثال الأرقى لبناء حياة مُثلى، إلَا أنه ليس بمشروع صعب المنال، أو من توهمات اليوتوبيين، فمثلما يأمل بعض الحالمين في الديموقراطية اليوم تحقيقها لرغباتنا وإمنياتنا في بناء مجتمع حر، فسيبقى لكانت والحالمين من أمثاله الحق في طرح رؤاهم الحالمة في بناء مجتمع عادل للفلاسفة والحُكماء الحق في إدارة دفته.

فـ "المثال هو المُتمنى، ما أن يتحقق، يصبح واقعاً" بعبارة أستاذنا مدني صالح، فلا فرق بين ما هو مثالي وواقعي إلَا من جهة التحقق.

لذلك نجد كانت يؤمن بضرورة أن يكون هناك دورٌ للدولة "السلطة "بفرض السلام فرضاً" بين أبناء المجتمع الواحد أو بين الدولة والدول المُجاورة، وفق الدستور، الذي ينبغي، ويبدو أن كل الفلاسفة يعملون على هذا "الينبغي" مثاليون كانوا أم واقعيين، فلا سلطة عندهم، سوى الدعوة إلى إلتزام المجتمع والسلطة بتطبيق الدستور، الذي "ينبغي" أن يكفل الحُريات، وحق المُجتمعات في العيش، وفي حال لم تستطع الدولة أو الأمة ضمان حق العيش والحريات، فـ "ينبغي" لها أن تدخل في توافق دولي أو شراكة مع دول أو أمم أخرى تضمن لها تحقيق شروط المواطنة الحقة لمجتمعها داخل الوطن الواحد، وبناء علاقات سلام وفق مُعاهدات دولية تحترم السيادة مع الدول الأخرى.

    

 

 

في المثقف اليوم