قراءة في كتاب

من المعارضة إلى القيادة.. قراءة في كتاب: مستقبل الزعامة في المجتمع الشيعي

صالح الرزوقفي كتاب (مستقبل الزعامة في المجتمع الشيعي) لمهدي خالاجي، الصادر عام 2017 عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، توقعات تتنبأ بدور جازم لآية الله محمود هاشمي شاهرودي. فهو أبرز مرشح لخلافة خامنئي والسيستاني البالغين من العمر 77 عاما و86 أعاما على التوالي. وهذا يعني انه سيكون مرجعية توحد شيعة العراق وإيران. وهذا الدور التوحيدي سيردم الصدع بين التشيع العربي والإيراني. فقد أشارت كل المراجع إلى الفرق الأساسي بين الأسلوبين. الأول باهتمامه بالمسائل الشرعية والفقهية، والثاني باستئثاره بكل السلطات، الروحية والمدنية.

ويرى مفكر إسلامي هو ماجد الغرباوي أن مثل هذه التمايزات لها خلفيات تاريخية. وبالأخص بالنسبة للتشيع الفارسي الذي ورث تقاليد السلطة الساسانية. فقد كانت دولة مركزية ولا تتسامح بخروج أي مواطن من رعاياها على توجيهات البلاط.

وإن اختيار الشاهرودي سيتبعه انزياح في المؤسسة، وسيترك ذلك من الناحية الاجتماع سياسية بصمات الذوق الفردي للمرجع، وليس حقيقة المؤسسة. فالمرجع الأعلى عند الشيعة دائما يفرض حقائق فردية وليس واقع المؤسسة ككل.

وبتعبير آخر سيقود ذلك إلى تبدل في شبكة العلاقات الاقتصادية وشكل المجتمع وطرق الإدارة والتفكير السياسي، ناهيك عن شبكة المصادر والتمويل(ص1)، إن لم يبلغ العلاقة مع دول الجوار في هذا الجو المضطرب من الثورات.

وقد حصل ذلك سابقا حين الانتقال من دولة الخميني الراديكالي والمهتم بالمسائل الروحية إلى دولة خامنئي بخلفياته البيروقراطية المحافظة والمعادية للإحساس بتعاقب الفترات والعصور(ص 2).

ومهما يكن من أمر الإسلام بشكل عام افتقد للمرونة في اختيار الخلفاء، ففي العصر الراشدي كانت هناك إملاءات وشروط، حتى أن الأنصار استبعدوا من سدة الخلافة مع أن أول مبدأ في الإسلام هو عدم التفضيل بين المؤمنين إلا بدرجة الالتزام (أو التقوى). بينما في العصور اللاحقة فرضت القوانين العشائرية نفسها، واحتكرت دايناستي بعينها كل السلطات مع الثروات العامة (الخراج). وأصبح بيت مال المسلمين ملكا للخليفة ونزواته.

ومن نافة القول إن الإسلام بعد وفاة الرسول تنكر للديمقراطية، واعتمد على النخبة، واجتماع سقيفة بني ساعدة لا يمكن أن يمثل حال المسلمين لا من ناحية أساليب التفكير ولا الواقع الاجتماعي. واقتصرت الشورى على شريحة من قريش ومن المشهود لهم بالقوة والسيادة.

لقد وضع هذا الاجتماع الأساس لثيوقراطية غريبة على تفكير الرسول، وسرعان ما تحول إلى شكل أوليغارشي من أشكال ممارسة الحكم واغتصاب القرار السياسي.

ولذلك ليس من المستغرب أن لا تكون الخلافة استمرارية للتشريع والتحول الروحي، وإنما كانت هناك خطوط عزل بين الفترات.

فقد شغلت أبا بكر حروب الردة، بينما انشغل الفاروق عمر بالفتوحات. وغطى النزاع المكتوم ثم العلني فترة الخليفتين الأخيرين عثمان وعلي. وبرأيي إن الخلفاء الراشدين فعليا هم ثلاثة، فأبو بكر كان وكيلا لعمر فقط، وكل المدونات التاريخية تؤكد أنه هو الذي فرضه لتأخير خلافة علي، وهو من هاجم بيت علي وأجبره على مبايعته. وبعض الروايات تذكر أنه هم بحرق باب داره ليخرج بالإكراه، وروايات أخرى تؤكد أنه كسر باب الدار وأخرجه موثقا بعد أن طرح زوجته على الأرض. وهذا الموقف يكاد يتشابه مع دخول الثوار على الخليفة عثمان وضرب زوجته أمام عينيه. (كما روى أدونيس في الثابت والمتحول).

بعبارة مختصرة ليس هناك أية خصال تجمع أول أربع رؤساء للدولة الإسلامية، وهو ما تكرر في حالة إيران، وكل المراقبين لا يمكنهم تسجيل أية صفة مشتركة بين الخميني وخامنئي(ص 2).

ويبدو أن النهايات هنا نقطة محددة، فالخميني تنحى بالموت، بينما خامنئي قد يستقيل ويمهد الطريق لمن بعده لأسباب صحية، (ص3).

ويبدو أن خامنئي رسم صورة خليفته قبل أن يسلمه مقاليد الأمور، لقد توجب عليه أن يكون:

1- من أنصار مبدأ الثورة المستمرة، وهي فكرة تروتسكية، لم تنجح في روسيا في حينه، بسبب عقل ستالين البارد، ولكن نضجت بذرتها في عهد نيكيتا خروتشوف ثم أثمرت بعد 75 عاما بدخول غورباتشوف إلى الكرملين.

2- أن يؤمن بالعمل العسكري لحماية الثورة.

3- وأن لا يفرط بالأسس الاقتصادية والإيديولوجية للثورة (بمعنى أنه ثيوقراطي ومحافظ).

ومثل هذه الخلطة من الأفكار التي تساوي بين الفكر الحركي وثوابت الدولة تنطبق تماما على شاهرودي المولود عام 1948. فقد تلقى علومه الروحية في النجف، وتطور برنامجه السياسي في إيران (صxii ). وتاريخه الغامض الذي يكتنفه الظل من عدة جوانب لا يحدد بالضبط طبيعة هويته المركبة (ص 6). هل هو إيراني أم عراقي؟. وهل كان من عائلة مهاجرة أم أنه معارض له نشاط في المنفى؟. ولكن من المؤكد أنه انتقل في سلم الرتب السياسية من قائد روحي إلى شخصية بيروقراطية تعمل ضمن قواعد النظام الذي أرسى خامنئي دعاماته(ص xii). وينسب له تسييس القضاءالإيراني خلال رئاسته لمجلس القضاء حتى عام 2008. وخلال هذه الفترة بالتحديد كان حريصا على التنصل من هويته العراقية وتأكيد إيمانه بولاية الفقيه وإضافة لقبه الفارسي شاهرودي بعد كنيته العراقية التي تدل على جذوره الهاشمية(ص6).

ومع أن بعض الشائعات تدعم شائعة تفيد أن ولادته كانت في كربلاء بتبعية إيرانية، لكن هذا يبدو جزءا من غسيل جذوره. أو بتعبير آخر هو تبييض لشخصيته. فولادته في عام النكبة لا يكفي لتصنيفه في عداد الجنسية الإيرانية. ففي تلك الفترة كانت سايكس بيكو قد رسمت بشكل واضح حدود الشرق الأوسط وعزلت العراق عن بقية الخزان البشري للشيعة وعن الجيب العروبي الذي لم يكن يفهم معنى الحدود الجيوبوليتيكية.

وللتوضيح يمكن مقارنة ذلك بأصل أتاتورك. فهو مولود في سالونيك اليونانية عام 1881 بمعنى أنه كان تحت الحكم العثماني. وهذه أول مشكلة واجهها الشاهرودي لتطبيع هويته(ص 13)، فالدستور الإيراني يمنع تولي المناصب الحساسة إلا لمن كان إيرانيا بالولادة والتربية. ولكن الوثائق تحدد بوضوح أن أمه من خراسان وجده لأبيه من شاهرود. إنما حصل الاقتران بين الأب والأم في النجف بإثر هجرة الأسلاف نتيجة العوامل الاقتصادية وطلبا للعلم في الديار المقدسة ( ص13 ). مما يضع أصول الشاهرودي على المحك. ولا سيما أن ثلاثة من أشقائه قتلوا في العراق في أحداث عام 1980 التي تسبب بها حزب الدعوة (ص 13).

ومن استعراض المراحل المبكرة من تلقيه العلم وتكوين طباعه الشخصية تستطيع أن تفهم أن الشاهرودي شخصية كوزموبوليتانية تحمل بصمات عدة ثقافات. الذاكرة لإيران والحياة الاجتماعية للعراق ولكن الثقافة إسلامية ومتعددة المشارب. ولا سيما أن أساتذته من المثلث الشيعي: أفغانستان وإيران والعراق. ومنهم تلقن الأدب العربي الكلاسيكي والبلاغة التقليدية (ص 14).

غير أن التكوين الثقافي لا يقود أوتوماتيكيا لهوية حركية ذات عقيدة وإيديولوجيا. فقد أثرت مجموعة من العوامل في الشكل النهائي لشخصية شاهرودي، وفي المقدمة تعاليم قائده الروحي الإمام محمد باقر الصدر، بهويته العربية ذات البعد الأسطوري. بعبارة أخرى كانت تحدوه يوتوبيا لا تقل في إغرآتها ووعودها حول فكرة الثواب والعقاب أو التعادلية بين ذات الروح وفكرة الإله عن تصورات سيد قطب حول الإسلام السياسي.

ومن المؤكد أن هندسة حزب الدعوة العراقي وحزب الإخوان المصري خدما هدفا واحدا على المدى البعيد.

فلكل منهما أجندا عسكرية مع رافعة دينية هي مزيج من الرموز والكنايات التي تطورت بالانطلاق من بلاغة القرآن الكريم ومعجزات السيرة النبوية.

ولذلك يمكن اعتبار حزب الدعوة نسخة شيعية من حزب الإخوان السني ( ص 18)، ويكون بوسعنا مقارنة الهالة الأسطورية التي أحاطت بكاريزما سيد قطب مع الهالة التي أحاطت بحياة ومقتل الصدر. ولا يمكننا في ضوء هذه المعلومات إلا أن نعتقد أن شاهرودي من شجرة الإسلام السياسي العربي بما حمله من مكونات لها علاقة بالأسطورة والاستدلال والاستنتاج. بمعنى أنه يحمل في لاشعوره الأعصبة العربية التي تضع العقل أمام الموضوع. وللتوضيح: لا بد أنه يؤمن بمبدأ العلة والمعلول ويعمل على ترويج الترسانة التاريخية لتطور مبدأ الوحي وعلاقته بالهداية (كما ذكرهشام جعيط في: الوحي والقرآن والنبوة).

وبوجيز العبارة كان شاهرودي مدينا للصدر بالاعتماد على الإبداع في التفسير وعلى الفضول المعرفي في الإدراك والحوار (ص 19). ولا يفوتني هنا التنويه أن الإبداع لا يتعارض مع استراتيجيته المحافظة. وهو يعني فيما يعنيه تكرار معالجة الثوابت مثل المستدركات في علوم الدين ومشاكل الدولة كدور اللطف الإلهي في رعاية المجتمع وغير ذلك.

غير أن تلك الشجرة حملت براعم من تعاليم الخوئي، المربي الثاني لشهرودي والذي اعتنى به في إيران ولقنه مبادئ الحكمة وعلاقتها بالنفس الكلية والفيض الإلهي.

ويمكن اعتبار هذه العلاقة بمثابة منعطف في حياته الروحية. فإذا كان الصدر مثل رموز الإخوان مصدرا للتفكير الواقعي والمادي في الإسلام فإن الخوئي كان الملهم للجانب العرفاني من شخصيته.

لا شك أن هذه الملابسات لعبت دورا حاسما في إعادة صياغة شخصية شاهرودي. فقد اضطر لأن يتخلى عن صفة معارض عراقي في المنفى لحمل لقب سياسي إيراني.

وخلال هذا المعراج، أو رحلة ابتكار شخصية ثم هوية وطنية جديدة، كان الجانب الرومنسي منه يذوب كالجليد تحت شمس الواقع وضغوط الأولويات، ليضمن لنفسه مكانة مرموقة في الصف الأول من القيادة الإيرانية، وليتأهل لصفة مرجع شيعي.

والسؤال الآن: بعد وفاة خامنئي والسيستاني، هل سيحل شاهرودي مكان أحدهما أم كليهما؟.

إن التوقعات دائما مرهونة بالظروف. والسياسة مثل البساط الأحمر، له كواليس وتتدخل في اختيار من يسير عليه اعتبارات.

 

د. صالح الرزوق

..............

هذا عرض لكتاب:

The Future of Leadership in the Shiite Community, by: Mehdi Khalaji. The Washington Institute for Near East Policy. 2017. 144 p.

 

في المثقف اليوم