قراءة في كتاب

الكُفر الحلو.. قراءة واقتباسات من رواية: قواعد العشق الأربعون لأليف شافاق (1)

علي المرهجلا أعرف هل يُمكن لنا القول أن هُناك كُفراً حلواً وآخر مُراً، ولكن (شافاق) تجترح لنا مُصطلحاً جديداً هو "الكُفر الحُلو" وهو كُفر بلغة الفُقهاء وإيمانٌ بلغة العُرفاء، فيه خروج عن ضوابط الفقه والشريعة كما فسرها الفقهاء، ولكنه غورٌ في أعماقها كما فهمه الصوفية والعُرفاء، وإن تماهت (شافاق) بتوصيفه بأنه كُفر حُلو كي تتقي شر تكفير الفُقهاء لها ـ كما أظن ـ إلَا أنها تضعه موضع أحق بالقرب من الله، إن لم يكن هو الموضع الحقيقي لمحبة الله وعشقه والتماهي معه.

بالتأكيد لن أكون أنا الأول، ولن أكون الأخير ممن شغفوا برواية (أليف شافاق) "قواعد العشق الأربعون"، فهي رواية شغلت المثقف النخبوي، كما تغنى بها القارئ البسيط، لأنها رواية تُخاطب الروح والوجدان أكثر مما تُخاطب العقل، تُحاول (شافاق) فيها الكشف عن خبايا الرو ح ومكنوناتها الوجدانية، بحثاً عن نزعة الأنسنة التي ضمرت في قلوبنا نحن أبناء الشرق الذين نقدنا المُستشرقون لأن هذه النزعة تمكنت منَا، فغابت عقولنا عن التفكير، فهي مأخذ علينا عند من قرأوا الشرق من الغربيين بعيون الحداثة بيقينياتها المُطلقة والشمولية وتغييبها للبعد الوجداني، ولكن (شافاق) تروم إعادتها لنا بقراءة أخاذَة لتكشف لنا عن الضامر والمُغيَب من نزوعنا الأنسني الذي تنساسيناه بفعل عوامل التحولات الجيوسياسية الداخلية والخارجية.

لا أروم التنظير في السياسة، ولا أرغب في الدخول في التنظيرات الفلسفية للتفريق بين رؤية الغرب للشرق، أو رؤية الغرب للشرق، وإن كانت كلا الرؤيتين ليست مُتناقضتين تمام التناقض، ففي الغرب نزعات روحية ترنو نحو روحانية الشرق، وفي الشرق نزعات عقلانية ترنو نحو عقلانية الغرب الحداثية، ولكن ما نُشدد عليه أن العرب هم من أنتجوا حضارة عقلانية تمثلت برؤى الفلاسفة المُسلمين الذين تماهوا مع الفلسفة الأرسطية، وهناك في الغرب فلسفات إيمانية تماهت مع رؤى الفلسفة الإسلامية بطابعها التوفيقي بين الدين والعقل مثل فلسفة توما الأكويني الذي بنى رؤيته وفق الفلسفة الرُشدية.

وإن كُنت أنا لست ممن يميلوًا لتغليب الوجدان والعاطفة على العقل مثلما فعلت (شافاق) في روايتها "قواعد العشق الأربعون"، إلَا أنني أسيَر لنزعة الأنسنة التي نثرتها في كل سطر من سطورها، الذي أجادت توظيفه بقراءة واعية للتصوف الذي زرعه الرومي والتبريزي ونزوعهما نحو الأنسنة، وكأنهما يرومان العودة بنا لعوالمنا الفطرية في خلقنا ووجودنا الطبيعي كما فعل (جان جاك روسو) فيما بعد، إلَا أنني لا أميل للبقاء أسيَر هذه النظرة التي تغوص في الأنا، وتجلد الذات، بقدر ما أبحث عن (أنا) أخرى تسير وفق منطق ينسجم مع الرؤية الديكارتية في تقدير قيمة العقل، والبحث عن عقل مواز له في التفكر ويعي قيمة الوجود، ورغم مُعاناتنا من نتاج الحداثة ونزعة التقنية التي خرَبت بعض أو كثير من نزوعنا الأنسني الطبيعي، إلَا أننا ينبغي أن لا نبقى نهيم في مقولات الوجدان وننسى مُعطايات العلم وفضله، فأنا أكتب مقالي هذا وأنا أتصبب عرقاً لأن الكهرباء بين وجود واختفاء، وهي من مُنتجات العلم، وما أحوجنا اليوم لها.

أنا أكتب وأقرأ رواية (شافاق) تحت ضوء التقنية وبغياب بعض نتاجها اللازب لاستكمال القراءة ألا وهو "التبريد" أو "التكييف"، فأنا أقرأ وأكتب وجسمي يتصبب عرقاً، فآتوني بجلال الرومي أو بالتبريزي كي يُخلصاني ولو لبعض من الوقت كي أستكمل العيش في فضاءات الروح التي أجادت زرعها (شافاق) ليُنسياني أن كُلي قد بدأ يتفسخ من فرط حرَ العراق اللاهب.

ولكن لا بأس، ففي التعقل ما يُلجم العاطفة، وفي العاطفة والوجدان ما يكون مجساً للعقل كي يتقي شرَ بعض نتاجه التقني المُدمر للإنسانية.

لعبت (شافاق) الروائية التركية المُبهرة على جماليات الشعرية الصوفية، ونقد النزعة الحداثية، والإنتقال بين زمنين، زمن الرواية عن زوجة وزوج هما: (إيلا)، سيدة أمريكية وأم لأبناء ثلاثة، في الأربعين من عمرها، وزوجها (ديفيد) طبيب الأسنان. كلاهما من نتاج زمن الحداثة الغربية وتقانتها المادية.

وفي ذات الوقت تنتقل شافاق إلى زمن مُستعار من التراث الشرقي، أنموذجاه هما (جلال الدين الرومي) واستاذه (شمس الدين التبريزي). كلاهما من نتاج الحضارة الشرقية وبعدها الروحاني والوجداني.

لتنتصر (شافاق) لوجدانية الشرق الروحانية، حينما تترك (إيلا) حياتها العائلية، لتبحث عن عشق يُجدد حياتها التي تمترست بروتين العمل والبحث عن المال وتنظيم الأسرة وفق قوانين الضبط والربط الذي فرضته تطور الحياة التقانية في الغرب.

بل لتنتصر (شافاق) للنزعة الإنسانية (الشرقية) الكامنة في كتابات الصوفية في "الحُب"، الذي يتجاوز التصنيف الديني والعرقي والطائفي للناس، لتجعل من (إيلا) أنموذجاً لذلك الحب القابل للتحدي والخروج عن ضوابط الفقهاء والكُهان، للهيام بدين الصوفية العُرفاء، (دين الله)، أو (دين المحبة) الذي عبر عنه ابن عربي بقوله:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لُرهبان

وبيت لأوثـان وكـعبة طــائف وألوح توراة، ومُصحف وقرآن

قال الرومي: "من لا يمشي إلى فتنة العشق يمشي طريقاً لا شيء فيه حي"، لذلك كان لم يكن هم جلال الدين الرومي "الجهاد الخارجي"، أي (حرب العدو الخارجي) بقدر ما كان مهموماً بالدعوة للـ "الجاهد الداخلي"، ألا وهو جهاد النفس مع ذاتها، أو جهاد "الأنا" وقهرها. (ص32)

في "كل قاتل، يتنفس الرجل الذي قتله"، فـ "عندما تقتل، فإن شيئاً منه ينتقل إليك"، إنها "لعنة الضحية". (ص33)

فحتى الله أدرك الحاجة (لشخص قاتل) "في خطته المُقدسة، عندما عيَن عزرائيل، ملاك الموت، لإنهاء حياة الناس". وهكذا يخاف الناس الملاك ويلعنونه ويمقتونه، بينما تظل يدي الله نظيفتين، ويظل إسماً نقياً" (ص36)

"إن الطريقة التي نرى بها الله ما هي إلَا إنعكاس للطريقة التي نرى بها أنفسنا". (ص48)، فمن كان لا يرى في الله وصورته سوى المحبة، فسيكون حتماً هو كذلك، والعكس صحيح.

ولكن "عندما ينسانا الله ويتركنا وحيدين هنا (في هذا العالم الموحش)، يقع على عاتقنا، نحن الناس العاديين، أن نصبح أشداء ونُحقق العدل بأيدينا". (ص49ـ50)

والعدل لا يتحقق بالقوة، إنما العدل في المحبة يتحقق، ولكن من تعود كراهية الآخر لا يُحب أن تُخبره بأنه على خطأ:

"هكذا هي الحياة. فعندما تُخبر أحدهم الحقيقة، فإنه يكرهك، وكُلما تحدثت عن الحُب، إزدادت كراهيته لك" (ص52)، لأنه إعتاد العيش وفق نمط حياة أحادي مؤطر بالكراهية والحقد على الآخر المُغاير له في نمط التفكير والولاء!.

فمن يبحث عن الله إنما يبحث عن الحُب، لذا جال التبريزي العالم شرقاً وغرباً، بحثاً عن الله في كل مكان، ولما لم تكن لديه جذور في أي مكان، قال: "أصبح لديَ العالم كُله طوافٌ في أرجائه". (ص60)

لذلك وضع قواعد العشق الأربعين، وأولها "أن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب، لا من الرأس. فإجعل قلبك لا رأسك دليلك الرئيسي". (ص62).

أو كما قال الرومي:

إختر الحُبَ، الحُبَ! فمن دون حية الحُبَ العذبة، تُمسي الحياة عبثاً ثقيلا

كانت بغداد برواية (شافاق) "أروع مدينة في العالم"، لكنها "الآن تعج بملايين اللاجئين الذين هربوا من بطش جيش المغول، ونحن نوفر لهم ملاذاً آمناً، إنها مركز العالم".

"لا ريب في أن هذه المدينة جوهرة"، "لكن يجب ألَا ننسى أن المُدن تشبه البشر، فهي تُلد، وتمر بمرحلتي الطفولة والمُراهقة، ثم تشيخ، وفي النهاية الموت، وأظن أن بغداد قد بلغت الآن أواخر شبابها". (ص70ـ71)

ما كان سبباً في أن تشيخ بغداد هو ظن أناسها بأنهم إنما بلغوا من الحُلم والترف ما يُغنيهم عن البحث عن الله لا في بغداد موطن سُكناهم، لإنهم لم يبحثوا عن الله في ذواتهم، من فرط (البغددة)، "فالمرء لا يستطيع أن يجد الله إذا ظل يرتدي معطف فراء، وملابس حريرية، ومُجوهرات غالية كالتي يرتديها كُل يوم". (ص75)

ومُشكلة بغداد أنها قد جعلت للفقهاء مكانة أعلى من مكانة الصوفية، والفقهاء إنما تقتصر معرفتهم وفهمهم بالمعنى الخارجي، "في حين يعرف الصوفيون المعنى الباطني، أما الأولياء فهم يعرفون باطن الباطن. بينما لا يعرف المُستوى الر ابع إلَا الأنبياء والأولياء الصالحون المُقربون من الله". كما يرى شمس الدين التبريزي (ص77)

فالله يرضى عن عباده المُخلصين، وإن لم يُتقنوا طُرق العبادة كما يروم الفقهاء، فقد خاطب الله نبيه موسى (ع)، حينما نهر راع لأنه خاطب الله بقوله له: "ي إلهي الحبيب، إنني أُحبك أكثر مما قد تعرف"، فكان الراعي يدعو الله ونذر له النذور بذبح خروف سمين، وطبخه مع أرز دهين، ولكن النبي موسى نهره، وقاطعه بالقول: "توقف أيها الرجل الجاهل!، ماذا تظن نفسك فاعلاً؟ هل تظن أن الله يأكل الرز؟ هل تظن أن لله قدمين لكي تغسلهما؟ هذه ليست صلاة، هذا كُفر محض.

وبعد إعتذار شديد من الراعي للنبي موسى، وبعد أن تعلم الصلاة من نبيه، سمع موسى (ع) صوتاً. كان صوت الله، مُخاطباً له بالقول:

"ماذا فعلت يا موسى؟ لقد أنبت ذلك الرعي المسكين، ولم تُدرك معزَتي له. لعله كان يُصلي بالطريقة الصحيحة، لكنه مُخلص في ما يقوله. إن قلبه صاف، ونياته طيبة. إنَي راض عنه. قد تكون كلماته لأُذنيك كُفرٌ، لكنها كانت، بالنسبة ليَ، كُفراً حُلواً". (ص78).

وهذا ـ كما أظن ـ ما يُميز رواية شافاق، ألا وهو أن الإختلاف في الأديان كما يذهب إلى ذلك الرأي عبدالكريم سروش بقراءته التأويلية لجلال الدين الرومي، إنما هو "إختلاف في الرؤية والمنظر وليس إختلافاً في دائرة الحق والباطل".

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم