قراءة في كتاب

طه جزّاع: فيصل والفيصلية

ليس جديداً القول بأن أمين الريحاني، الأديب والروائي والمؤرخ ابن بلدة الفريكة الجبلية اللبنانية والذي يُعد أيضاً من ادباء المهجر، هو أفضل من أرَّخ لملوك العرب وشبه الجزيرة العربية وامراء الخليج وشيوخه من المؤرخين العرب، وكتب تفاصيل مهمة عن سيرهم الشخصية وعن طباعهم وسلوكياتهم وسماتهم الخلقية وعاداتهم اليومية، فضلاً عن أفكارهم وتطلعاتهم وتوجهاتهم في حقبة تاريخية مهمة من تاريخ العرب شهدت بدايات تشكل الوعي القومي، ونشوء البلدان العربية المعاصرة على انقاض البداوة، والنعرات العشائرية، والغزوات القبلية، والاحتلالات الأجنبية.

وفي كتابه « فيصل الأوّل» الذي دونه في الفريكة نهاية العام 1933 يرصد الريحاني بحكم اهتمامه بملوك العرب وشيوخهم، ولقاءاته بهم وحضوره مجالسهم، ومنهم فيصل الأوّل حاكم الشام، وملك سوريا والعراق، وممثل العرب في مؤتمر فرساي، وحامل لواء الوحدة العربية في أوروبا، الذي تتبعه الريحاني وهو في نيويورك، معرباً عن أسفه لأنه لم يجتمع به في باريس أو في لندن أو في الشام، تفاصيل شخصية قد تبدو غير ذات شأن، لكنها في حقيقة الأمر تعكس جوانب مهمة عن طريقة تفكيره ورؤيته وفلسفته وهو يَقْدِم على تأسيس كيان جديد يطمح إلى التخلص من النفوذ والهيمنة البريطانية، والاعتماد على قواه البشرية وثرواته، وجهود أبنائه من مختلف الأطياف الاجتماعية في تشكيل هويته الوطنية، والوصول إلى مرحلة الإستقلال والاعتراف الدولي بالانضمام إلى عضوية عصبة الأمم المتحدة. ومما يرويه الريحاني الذي كان يخاطب الملك في رسائله بعبارة أخي فيصل، بهذا الصدد: « كان فيصل يروي الأخبار، إن كان عن نفسه أو عن سواه، بسذاجة جميلة وصراحة صادقة، لا يعتريهما شيء من التحفظ والاستدراك، فيجيئ كلامه عفو القريحة»، ويذكر من ذلك على سبيل المثال التأنيب الذي وجهه له والده الشريف الحسين بن علي حين كان يفتش حملة يشرف عليها فيصل فوجد بين المؤونة كيساً من العدس، «وسألني: ما هذا ؟ قلت: عدس. فقال: وهل أكْل البدو العدس. قلت: لا. فقال : وهل أنت أحسن من البدو؟ وأمر بأن يعاد الكيس إلى بيت المال»، ويواصل فيصل كلامه « وهذا محروث – يقصد الشيخ محروث الهذال أمير العمارات – يشهد على ما أقول. كنا نأكل الخبز معجوناً بالتراب، والله، ومخبوزاً بالرماد، ولا نبالي، بل كنا نلتذ به كأنه الكعك بعينه».

ويربط الريحاني ما بين اتخاذ فيصل الوسطية منهجاً لعمله، وبين « اختراعه « للسدارة التي سميت على اسمه» الفيصلية» غطاءً للرأس، فهذه السدارة لا هي قبعة ولا قلبق- قبعة تستخدم عند شعوب آسيا الوسطى والقوقاز- ولا برنيطة، هي احتجاج على الطربوش يقول الريحاني، ثم يشرح : «وماهي في الصيف أخف من الطربوش، ولا هي صحياً أحسن منه. إن في خطوطها، في شكلها، شيئاً من الظُّرف، ولا تخلو طريقة لبسها من شيء يتحداك. ولكنها في المواقف الرسمية، على الأقل، رمز الخفة والدعابة- هي صبيانية. أراد الملك فيصل عَمارة جديدة لأهل العراق، أو للعصريين من أهله، وأبى أن يقّلد الأمة التي نبذت الطربوش كما نبذه، فيختار مثل مصطفى كمال البرنيطة كاملة. لذلك اضطر أن يقف عند الحد الوسط، اكتفى بنصف برنيطة « !. ولا يبدو أن الريحاني معجب بغطاء الرأس هذا الذي « اخترعه « فيصل على حد تعبيره، وهو لا يظن أن السدارة تدوم طويلاً، لأنها مبتورة ناقصة « قد تكون بليغة في ما تقوله وطنياً، ولكن الوطن إذا ما توطدت أركانه يستغني عن الرموز»، كما أن فيصل نفسه لم يكن متحمساً كثيراً للسدارة، والدليل أنه « تعدّى هذا التقليد في صورته الأخيرة، وهو فيها مكشوف الرأس، جهْم المحيا، بعيد غور الفكر، تعلو سيماءَه مسحة من الكآبة». وهذا عكس المفهوم السائد حالياً من قبل بعض الباحثين التراثيين والبغاددة في التمسك بارتداء السدارة غطاءً للرأس، لكونها عَمارة فيصل الأول، وتمثل الهوية البغدادية. لكنها لم تكن أكثر من حل ذكي بين الطربوش العثماني، والبرنيطة الأوروبية، أوجدها فيصل استجابة لنزوعه الشخصي وطبيعته الوسطية المعتدلة، وهو يؤسس لدولة أرادها أن تكون مدنية وحديثة.

لقد سبق للريحاني أن خصص قسماً بعنوان «الملك فيصل والعراق» في موسوعته الكبرى «ملوك العرب» التي أصدرها في العام 1924 وهي كما أسماها «رحلة في البلاد العربية تشمل على مقدمة وثمانية أقسام مزينة بالخارطات والرسوم»، وكتابه هذا انما هو استلال من موسوعته والقسم الذي تحدث فيه عن فيصل والعراق، موضحاً حدوده وألويته وعدد سكانه ومساحته وشعوبه وأهم قبائله ومذاهبه، وكان عدد سكان العراق آنذاك نحو مليونين وتسعمائة ألف نفس .

كان غطاء الرأس يشغل الملك فيصل الأول، وهو في خضم التجاذب بين الإرادة الوطنية العراقية، والانتداب، والوعود البريطانية المتلكئة التي قطعها ونستون تشرشل ووقع عليها  بخصوص استقلال العراق وحريته وسيادته، بل وهو يعيش مع الغم الذي يسميه الريحاني « رفيق جلالته الدائم، وان توارى احياناً عن الأبصار، هو الغم الروحي الذي يتضاعف في علو المناصب واهميتها فيكون في الملوك، وان ندر، أشد منه في غير الناس».

 « ثم سألني سؤالاً آخر ظننته مضحكاً ولكنه لم يضحك أحداً.

- ما رأيك يا أمين في العمامة والبرنيطة. وأي شكل تظنه يصلح لنا في العراق؟

***

د. طه جزّاع

في المثقف اليوم