قراءة في كتاب

فرك الصدأ.. قراءة تحليلية (1)

266 حسين مردان"فرك الصدأ" هو كتاب في الأصل أطروحة تقدم بها د. قحطان فرج الله لنيل الدكتوراه من جامعة القاهرة في شعر (حسين مردان)، وفرك الصدأ استعارة مع تغيير مقصود من قصة فيها بناء لنثر مُركز مُستمد من مقال سردي لمردان فيه روحيته الشعرية والمقالية ذات المنحى القصصي وخلط فيها ومزج مع الكتابة النثرية، عنونه حسين مردان "من يفرك الصدأ" وقد استعاره د.علي جواد الطاهر ليكون عنواناً لكتاب جمع فيه مقالات حسين مردان وما كتبه هذا الشاعر المُتمرد من شعر تحت عنوان "النثر المُركز" (حسين مردان، إعداد، د.علي جواد الطاهر، ص129).

أجد أن عنوان د.قحطان استعارة ذكية يروم منه إخبارنا سؤال من يفرك الصدأ؟ جوابه أن حسين مردان هو الأقدر على فرك الصدأ وكشف المسكوت عنه وفض بُكارة الساكن التقليدي في الكتابة الشعرية والمقالية في الثقافة العربية.

لم يكن حسين مردان كغيره من الشعراء من أبناء جيله، وأغلبهم كبار، ولكنه لا يسير وراء الركب، ولا يقبل إلَا أن يكون مُتفرداً ومُتمرداً على أبناء جيله، ليكون خارج السرب لا لأنه فقط يبحث عن الغرابة إنما هو ساع إلى خلق نص مُغاير لا يشبهه في أحد.

إنه يفرك الصدأ، صدأ القيم والتقاليد البالية في حياتنا المُجتمعية. صدأ الانسياق وفق أنموذج كتابة الشعر أو المقالة وفق أنموذج سبق.

ما يُميز حسين مردان أنه يخلق أسلوبه الخاص. أنه أنموذج بحد ذاته في السلوك والحياة والنتاج الإبداعي. يُقلَد ولا يُقلِد.

لقد كتبت مقالاً بعنوان "حسين مردان، ناثر الشعر قبل الأوان" نُشر في صحيفة المُثقف الألكترونية، قبل أن يُهدي ليَ د.قحطان كتابه القيَم هذا، لذلك لا أرغب بتكرار القول في شرح وتفصيل رؤيتي واختياراتي لنصوص حسين مردان مرة أخرى.

وسأجعل من قراءتي هذه تلخيص وتحليل لرؤية د.قحطان التي غلب عليها النزعة "المردانية" في التمرد، فهو مردان ومُتمرد!.

كان التمرَد سمة غالبة في أدب حسين مردان، ولكنه تمرَد من نوع خاص، هو تمَرد ليس من أجل التمرَد، "وليس ترفاً إبداعياً يُمارسه بقدر ما هو موقف وجودي يُحاول أن يفهم العالم، فيُقحم المُبدع في إتون الغرابة به إلى الخروج عن المألوف، لاستشراف أفق مُغاير" (ص18)

ولكنني سأحاول أن أُسلط الضوء على دراسة د.قحطان عن هذا الشاعر الذي تميز بجرأة فائقة لا سيما في مجموعته الشعرية الشهيرة "قصائد عارية"، ولا رغبة عندي لتلخيص الكتاب أو عرضه، إنما أنا أسعى لتسليط الضوء على الأهم في هذا الكتاب، وهو سعي جاد مني لإلتقاط لمحات تكشف عن عُمق قراءة د.قحطان لشعر وكتابات حسين مردان. ولك عزيزي القارئ أن تستزيد بتفصيل دقيق حين قراءتك لهذا الكتاب.

كأي دراسة أكاديمية بدأت بتبيان أهمية الموضوع ومنهج الدراسة، وتمهيد فيه ترجمة لحياة الشاعر ونتاجه الإبداعي، ثم مدخل نظري سلط فيه الضوء على معنى الغرابة والتمرد التان هما سماتن إلتصقتا بكتابات مردان، ثم فصل أول تناول فيه (اللغة في أدب حسين مردان). وكان فصله الثاني عن (الصورة وآليات الغرابة والتمرد في أدب مردان). أما الفصل الثالث، فقد خصصه الباحث لدراسة (الإيقاع وآليات الغرابة والتمردز لتأتي الخاتمة الذي عمد فيها د.قحطان تبيان أهمية "النص النثري المُركز" الذي أبدعه مردان، وتأكيده على أن مردان "سار على نهج جيله من ناحية البنية الشكلية للنص، ولم يخرج عن الإطار العام الذي وسم القصيدة السبعينية" (ص20)، وإن كُنت أختلف مع رؤيته هذه.

تأثر مردان بالنزعة الوجودية عند كامو في كتابه "الإنسان المُتمرد"، وهو تمرد مقصود يُجيد فيه مردان التعبير عن رفضه لنزعات الظُلم والطُغيان والاس تبداد السائدة في مُجتمعاتنا، في الأسرة والمُجتمع وأنظمة الحُكم.

الأمر الذي جعل مردان يربط بين التمرد والغرابة في كتابته، بل وفي سلوكه: "غرابة وتمرد نفسي"، و"غرابة وتمرد عاطفي"، (ص65ـ67) ومن تعابيره واغترابه ونزوعه نحو التمرد كتابته في (المسكوت عنه) في مُجتمعاتنا مثل: قضايا الجنس والمرأة، ومن ميزات هذه الغرابة والتمرد هي:

غموض المعنى، والاستغراق في الرؤية الفلسفية التأملية، والتي جعلت منه كاتباً مُثيراً له عدته المفاهيمية المُستمدة من نزوعه الفلسفي، وهي عُدَة أثرة مُعجمه الشعري والنثري معاً، وجعلت من نصه مُكتنز المعنى مُحمل بدلالات تمنح القارئ فسحة من فيض التفسير والتأويل و"إثراء المجالات الدلالية" (ص69).

لقد تخطى مردان عتبة اللغة في تعابيرها التقليدية عبر "الخروج عن مُهيمنات القواعد اللغوية الصارمة وأخذت منحى إنتهك المحارم في الإنعتاق من تقديس الأسلاف" (ص75).

تمكن مردان من صناعة مُعجم شعري له كما هو حال كبار الشعراء والفلاسفة من الذين تمكنوا من بناء مفاهيم تختص بلغتهم الشعرية أو الفلسفية.

فمن نتاج مردان المفاهيمي صناعته لمفاهيم تخترق المألوف، ومنها "ألفاظ الجسد" (ص82)، ولكم في مجموعته الشعرية (قصائد عارية) أنموذج أمثل لقدرته على الإنتاج المعجمي والمفاهيمي الخاص به.

أما "ألفاظ المرأة" (ص88) حول مفاهيم مثل الأنوثة، أو جسد المرأة، أو الزينة، أو الملابس، فهي نتاجه في البحث عن حرية للمرأة في توظيفها الجسدي لأنوثتها، ولك أن تُراجع قصيدته (زرع الموت) في مجموعته الشعرية قصائد عارية)، ومثل ذلك تجد له نتاج مفاهيمي في "ألفاظ الحُب"، وهما أمران مُتعالقان (المرأة) و (الحُب)، وقد عبر عن تبيه لهذه الرؤية في مقال له بعنوان "الجنس لم يعد مُشكلة" المنشور ضمن أعماله الكاملة.

رغم عشقه للحياة، ولكن مُعجمية مردان المفاهيمية لا تخلو من نتاج "ألفاظ تتعلق بالموت والحياة والحُزن" (ص107)، وقد ظهرت جليَة وواضحةً في "ديوان طراز خاص" المنشور ضمن أعماله الكاملة، وقصيدته "الأرجوحة هادئة الحبال".

وللزمن في نتاج مردان المفاهيمي حضوره بين "الرجاء والطلب...لأن الزمان يُغادر سريعاً ولا يأبه لنداء من يُنادي" (ص111).

عرف أغلب القُرَاء مردان من خلال ديوانه (قصائد عارية)، ولكن حسين مردان لا يكشف عن عُري إمرأة إنما يكشف ويفضح الراكد من القيم والتقاليد في المُجتمع، لذا نجد في مُعجمه المفاهيمي عن إنتاج لـ "ألفاظ السياسة" (ص119) في قصيدته "أغصان الحديد"، وهناك مفاهيم أخرى و "ألفاظ تتعلق بالقيم الإنسانية" لا تخلو منها كل قصائده في مجموعته الكاملة.

وللميتافيزيقا حظٌ في نتاجه المفاهيمي رغم أه يعيش حياته بمنأى عنه وعن تأثيراتها الغيبية بقوله:

وإن نسيت الله في لذتي

يوماً فلن أنساه في عاري

ذلك النص المُكتنز بالمعاني الذي جاء في قصيدته "الأرجوحة هادئة الحبل" (ص123).

وللخمر ألفاظه في مُعجمية مردان، فقد وردت في مجموعته ألفاظ كُثر مثل: "الخمر، الأفيون، الحشيش، الخمر الأحمر" (ص124)، ولم يستثن "الألفاظ العامية" من مُعجمه، بحسب الحاجة والتوظيف الأمثل لها.  

 

د. علي المرهج

.................

للاطلاع

حسين مردان ناثر الشعر قبل الأوان/ د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم