قراءة في كتاب

سلسلة: الخطاب الفلسفي المعاصر.. الثقافة والمصلحة القومية

ميثم الجنابيان الثقافة الاصيلة قومية بالضرورة. بمعنى انها نتاج المعاناة الفردية والاجتماعية للقومية او الامة في مختلف ميادين الابداع. وكلما كان الابداع قوميا بمعايير الرؤية الانسانية والعقلانية، كلما كان امميا او قادرا على جعله مفهوما للآخرين، ومن ثم المساهمة في تعميق وعي الذات الانساني. وهذه بدورها الغاية الفعلية والنهائية لكل ابداع حق. كما انها مؤشر على مستوى التطور الثقافي للأقوام والامم والدول. وليس مصادفة ان نرى الاهتمام الكبير والواسع بثقافات الامم الاخرى من جانب اولئك الذين قطعوا اشواطا كبيرة في التقدم والارتقاء الثقافي (المادي والعلمي والروحي). ففي مراحل ازدهار الثقافة العربية الاسلامية، كان "العالم" كله آنذاك ضمن مدى اهتمامها الفكري النظري والعملي. ووجد ذلك ذروته في نشوء فن الموسوعات العلمية الكبيرة في مجال تواريخ الامم واديانها وفلسفاتها وعاداتها وتقاليدها، باختصار في كل ما له علاقة بمذاق الثقافة(العربية الاسلامية) وحاجاتها العلمية والعملية. وهذا بدوره ليس الا الوجه الاخر لمستوى تطور وعي الذات الثقافي. والشيء نفسه يمكن قوله عن اهتمام "الغرب" بقضايا وتراث "الشرق" والذي وجد تعبيره في مختلف العلوم بما في ذلك في الاستشراق والاستعراب. وقد احتلت الدراسات المتعلقة بالعالم العربي وثقافته القديمة (الاسلامية بشكل خاص) مرتبة اعلى بل الاكثر سعة وجوهرية مقارنة بما غيرها (بما في ذلك الصينية والهندية وغيرها). وفيما لو جرى اخلاء الموقف هنا من اثر المصالح الاقتصادية والجيوسياسية وغيرها، فان الشيء الواقعي والفعلي القائم بذاته هو الاثر والقوة الروحية والفكرية للثقافة العربية الاسلامية بحد ذاتها.

اما الوجه الاخر لهذه الظاهرة بالنسبة للعالم العربي المعاصر فيقوم في اضمحلال او تلاشي الاهتمام بهذه القضية الجوهرية. الامر الذي يشير الى انعدام وعي الذات القومي والثقافي من جهة، والانحلال والانحطاط الثقافي والسياسي القومي من جهة أخرى.

وقد عايشت شخصيا هذه الظاهرة على مدار عقود، وبالأخص ما يتعلق منها بنشر الثقافة العربية (والاسلامية) ذات الاصول الكونية الهائلة من جانب الدول العربية وسفاراتها. ولم ار اشد بخلا منهم فيما يتعلق بالثقافة. اما "جودهم" ففي الحفلات التي "تمّجد" انظمتهم السياسية وحكامهم. رغم خواءهما وسخافتهما الجلية للعيان، بما فيها لأنفسهم. لكنها مفيدة لهم من اجل السرقة ايضا! اذ ان اغلبهم يتفق مع مدراء الفنادق التي تقام فيها "الحفلات" على اسعار وهمية "للدولة" وفعلية بالنسبة لهم! وانعكست هذه الحالة بصورتها "النموذجية" في نشاط "المراكز الثقافية" للسفارات. اذ لا مراكز ولا ثقافة. اسماء وهمية وغبية حتى حالما تنشط. وقد تكون المملكة السعودية هي الوحيدة الاكثر نشاطا بينهم في نشر "الثقافة" الوهابية وطباعة القرآن وبعض الكتب الحنبلية السقيمة. اضافة الى "مدرسة عربية" تحتل مادة تجويد القرآن الحيز الاكبر من "التعليم"! اما الحصيلة العامة لهذه الظاهرة الشاذة والغريبة والعقيمة، التي يمكن تتبعها في مجالات لا تحصى، فهو وجود اقرب الى العدم.

ان مهمة نشر الثقافة هي مهمة الجميع. لكن المعروف والمحقق من حيث نتائجه، ان هذه المهمة تصبح اكثر تأثيرا وقوة وفاعلية ومستقبلية حالا تستند الى رؤية استراتيجية ومنظمات محترفة وجهود دائمة ودعم مادي مستمر. وكما يقال، فان فاقد الشيء لا يعطيه!

غير ان المصير التاريخي للثقافة العربية الاسلامية مازال يثير ويستثير العقول والوجدان ويلهمهما بالشكل الذي يستهوي ويستقوي جهود من يدرك الحقيقة البسيطة القائلة، بان الثقافة هي خير وسيط بين الامم، كما ان الكتاب هو خير جليس ونديم وغريم للعقلاء!

وبين القوى التي اخذت على عاتقها حمل هذه المهمة وتنفيذها هي الجمهورية الاسلامية في ايران. فنشاطها فيما يتعلق بنشر الثقافة العربية الاسلامية والاسلامية عموما اكثر بما لا يقاس من مجموع الدول العربية، وان مركزها الثقافي يفوق ويتفوق من حيث نشاطه العلمي الثقافي على مجموع "المراكز الثقافية" للسفارات العربية بأجمعها زائد "سفارة" "جامعة الدول العربية"!

فقد ترجم "مركز الثقافة الاسلامية" الايراني من مختلف اللغات (العربية والانجليزية والفرنسية والفارسية وغيرها) وطبع مئات بل الاف الكتب العلمية والفلسفية والتاريخية والدينية والثقافية والادبية الكبيرة (الكلاسيكية). وكانت الكتب المتعلق بالتراث العربي الاسلامي تحتل مركز الصدارة والأهمية. وهي حالة كانت تخجلني دوما حالما التقي بالأشخاص المسئولين عن هذا النشاط. فقد كنت وما ازال اقدم ارشاداتي العلمية والمنهجية وهم يقبلونها دوما وينفذوها كما هي وبقدر كبير من الاحترام والتواضع. فانا شخصيا لم ار اكثر منهم أدبا وتواضعا واخلاصا بهذا الصدد. فهم يعرفون شخصيتي وهمومي العلمية والفلسفية البعيدة كل البعد عن الدين والتدين، والتي تدعو بالضرورة الى توسيع الاهتمام بالجانب العلمي والتقليل الى اقصى حد ممكن من نشر كل ما له علاقة بالدين والمذاهب. وهذا بدوره مبني على يقيني، من ان الثقافة الاسلامية الكبرى هي خير وسيط للدخول الى عقول وافئدة الاقوام والامم الاخرى من زعيق ونعيق "ائمة" المساجد وكتب "الاسلام السياسي" و"الدعوي" أيا كان شكله ونوعه ومنهجه ومذهبه. وكانوا يأخذون بهذه الفكرة. وبأثرها اقمت بالإشراف على اصدارات عديدة، وتوثيق اواصر الصلة بالجامعات والمعاهد الروسية، وبالأخص ما يتعلق منه بقضايا الاستشراق والاستعراب والدراسات الفارسية والتركية والاسلامية عموما.

وقد دعاني هذا الاسهام الى دعوتهم لتعريف القارئ الروسي بإنجازات الثقافة الايرانية الحديثة والمعاصرة وعدم الاكتفاء بالثقافة العربية الاسلامية! وذلك للتعريف بها والاستفادة منها في فهم الواقع الايراني (وبالأخص بعد الثورة الاسلامية) وازالة ما لحق ويلحق به من احكام وقم وهمية في بعض منها ومتحزبة ودعائية في بعض اخر. انطلاقا من يقيني بان الاوهام هي خطأ وخطيئة بقدر واحد تجاه كل شيء واي شيء. وعندما طلبوا مني تقديم رؤية بذا الصدد، فقد اقترحت عليهم آنذاك القيام بنشر سلسلتين من الابحاث، الاولى وتتعلق بمختلف ظواهر الوجود الثقافي والفكري في ايران ما بعد الثورة الاسلامية، والثانية هو سلسلة من الابحاث عن الشخصيات الفكرية الكبرى في تاريخ ايران الحديث المعاصر مع ترجمة منتخبات من مؤلفاتهم الاساسية. بحيث تدخل ضمن هذه السلسلة مختلف الشخصيات الفكرية الايرانية (اسلامية ودنيوية وقومية وليبرالية وماركسية وديمقراطية وغيرها). كما وضعت قائمة بالأسماء. وكان الاتفاق على ان تكون السلسلة الاولى من عشرة كتب، والثانية كذلك. انطلاقا من ادراكي لحجم المهمة وثقلها وظروفي العلمية والعملية والحياتية. واقترحت للسلسلة الاولى عنوان (الخطاب الفلسفي المعاصر)، وللثانية (أعلام الفكر الإيراني الحديث).

وقد انجزت ضمن السلسلة الاولى اربعة كتب هي على التوالي ("الحضارة الاسلامية"، و"الثقافة الايرانية المعاصرة"، و"المسارات الفكرية في ايران"، و"اسلاموفوبيا او كراهية الاسلام").

وضمن السلسلة الثانية كتاب واحد عن مرتضى مطهري (1919-1979).

اضافة الى نشر كتاب "حي بن يقظان" (ترجمة ف. سعدييف)

اضافة الى كتابين من تأليفي وهما كل من "فلسفة الاصلاحية الاسلامية الحديثة"، وكتاب "الاسلام: حضارة وثقافة وسياسة".

وسوف استعرض في هذه الحلقة والحلقات القادمة هذه الكتب من حيث الشكل والمحتوى. 

ففي هذه الحلقة اكتفي بالكتب الاربعة المتعلقة بسلسلة (الخطاب السياسي الفلسفي).

   352 ميثم الجنابي 

ملاحظة اولية: لقد جمعت وافرزت الابحاث المترجمة من الفارسية الى الروسية بما يتوافق مع مضمونها. ثم قمت بتنقيحها وتدقيقها وتحقيقها، اضافة الى ما تقتضيه مهمة اخراج كتاب متماسك من حيث المنطق والمنهج والغاية وليس مجرد كتاب في مقالات او مقالات في كتاب، الى الاختصار والاضافة. ثم ترتيبها في فصول واختيار عناوين الابواب، وكتابة الشروح والتعليقات والتقديم للكتاب. وهي مهمة شاقة في بعض جوانبها بسبب تنوع المؤلفين وتباين اساليبهم في البحث ومستوى المامهم بهذا الجانب او ذاك. بعبارة اخرى، احيانا قد يكون من السهل تأليف كتاب مقارنة بهذه المهمة. والاستثناء النسبي الوحيد هنا هو لكتاب (الثقافة الايرانية المعاصرة)، لانه كتاب لكاتب واحد. لكنني اختصرته، واضفت له الشروح والتعليقات والتقديم.  

كتاب الحضارة الإسلامية: وعدد صفحاته 276 ص. ويتكون من قسمين. الاول وتحت عنوان (الروح المعرفي والابداعي للحضارة الاسلامية) ويحتوي على ابحاث ذات صلة بالحضارة الاندلسية، وفن الرحلات واثره في اغناء الحضارة والوعي الثقافي، واثر الحضارة الاسلامية في تطوير العلوم الطبيعية، ودور اهل فارس في بناء الحضارة الاسلامية، اما القسم الثاني (الغروب التاريخي للحضارة الاسلامية وفجرها القادم). ويحتوي على ابحاث ودراسات متنوعة مثل اثر القرآن في المسار التاريخ للحضارة الاسلامية، وقضية التقويم وتصنيف المراحل التاريخية للحضارة الاسلامية، وازدهار وانحطاط العلوم والثقافة في الحضارة الاسلامية وغيرها من الابحاث. وقد اشرت في المقدمة الى ان الحضارة جلية بمعايير الحدس، لكنها "غامضة" وليست جلية بمعايير العقل. من هنا طبيعة ومحددات الاختلاف حول كل ما فيها. ومن ثم فان تناول مختلف جوانبها بالدراسة والتحليل والنقد يساهم اولا وقبل كل شيئ في شحذ وعي الذات الثقافي النقدي. وقيمة هذا الكتاب تقوم في تناوله لمختلف قضايا الحضارة الاسلامية بمعايير ومقولات الرؤية التاريخية والثقافية والقومية. 

الثقافة الايرانية المعاصرة:

وعدد صفحاته 190 ص. والكتاب من تاليف الباحث الايراني نعمت الله فاضلي. وقيمة هذا الكتاب تقوم في مسحه التاريخي الثقافي السياسي العميق والطريف لواقع الثقافة الايرانية ما بعد الثورة الاسلامية. انه يقدم رؤية نقدية عميقة للواقع او على الاقل انه يختلف عما هو شائع من اوصاف تقليدية وكليشات جاهزة بصدد الواقع الايراني الثقافي المعاصر. ويبدأ الكتاب بمقدمة نظرية تتطرق الى فلسفة الثقافة (الاوربية) ومن ثم محاولة تطبيق رؤيتها المنهجية على واقع الثقافة الايرانية. كما يتناول بالبحث قضية "خطاب التاريخ والعلم التاريخي في ايران"، ويتتبع نوعية الخطاب الفكري في الجامعات والمعاهد الايرانية، اضافة الى تغيرّه في المساجد والجوامع والحسينيات. ويقدم مادة ثرية وجميلة بهذا الصدد. فهو يتناول ما يسميه بالخطاب الدنيوي، والايديولوجي – الثوري، الايديولوجي – النقدي. وطبق هذا المنهج في موقفه من الثقافة بشكل عام مع تخصيص لفنون الموسيقى، والفوتوغراف والموديل الاعلامي الحديث. 

المسارات الفكرية في ايران:

وعدد صفحاته 224 ص. ويتكون من قسمين. الاول تحت عنوان (الايديولوجيا، الدين والفلسفة في الحياة الفكرية). وفيه يجري تناول مختلف القضايا المتعلقة بطبيعة المسارات الفكرية في ايران المعاصرة، اضافة الى القضايا المتعلقة بتصنيف الاتجاهات والتيارات الاسلامية في ايران منذ الثورة الدستورية وحتى الثورة الاسلامية، أي على امتداد القرن العشرين. اما القسم الثاني (الثقافة والسياسة) فانه يتناول القضايا والاشكاليات اللمتعلقة بدور الثقافة في الحياة السياسية، ودور الجامعات في الحياة الثقافية والسياسية وغيرها من القضايا. 

اسلاموفوبيا (كراهية الاسلام):

وعدد صفحاته 206 ص. ويتكون من ثلاثة اقسام. الاول وتحت عنوان (الجذور التاريخية والثقافية والسياسية لكراهية الاسلام) في الغرب بشكل عام واوربا بشكل خاص. والقسم الثاني (كراهية الاسلام في الإعلام، وإعلام كراهية الاسلام) ويتناول مختلف قضايا كراهية الاسلام في الغرب وانعكاسها في الصحافة والاعلام المكتوب والمرئي. اما القسم الثالث (الاسلام وكراهية الاسلام) ويتناول مختلف القضاياالمتعلقة بدور وطبيعة واثر السلفيات الاسلامية المتشددة، وقضايا الانتماء الذاتي، وكذلك آثار ونتائج كراهية الاسلام في الغرب.

وانقل هنا للعربية المقدمة الفكرية التي وضعتها لهذا الكتاب، لما لها من قيمة بالنسبة للرؤية المنهجية والثقافي بهذا الصدد. 

(للكراهية مظاهر لا تحصى لكنها تشترك في نفسيتها الضيقة وذهنيتها المسطحة. وبغض النظر عن أنها ليست متوحدة من حيث أصولها وغاياتها، إلا أنها توصل إلى نتيجة واحدة، إلا وهي إضعاف الرؤية العقلانية والنقدية وتعزيز الغريزة وبقايا النزعة البهيمية، أو ما كان الفلاسفة المسلمون يطلقون علية عبارة النفس الغضبية.

فالسؤال المتعلق بأسباب ظهور وتوسع وتعميق وتنشيط نفسية وذهنية الكراهية هي الصيغة العاكسة لبقايا الآثار "الطبيعية الأولى"، أي عوالم الغريزة والجسد. فكراهية الأقوام والأمم هي الصيغة الأوسع للكراهية القبلية، كما أن الكراهية القبلية كانت الصيغة الأوسع لبقايا الوحشية، والبقايا الوحشية هي الصيغة "الطبيعية" للبقاء في مواجهة الأخطار أيا كان نوعها. وبالتالي، ليست الكراهية التي تظهر أحيانا بما في ذلك عند "الأمم الراقية" سوى أحد المؤشرات الدقيقة على فاعلية البقايا الاثنية والعرقية في "الروح"، وبقايا الطبيعة الأولى أو الغريزة في الجسد.

ونقف الآن أمام احد مظاهر الكراهية الدينية الكبرى، التي تحول الإسلام والمسلمين إلى مادتها ووسيلتها وهدفها أيضا. بمعنى أن الظاهرة الحديثة عن "كراهية الإسلام" تبلغ ذروتها بحيث تشمل الدين والمعتقد والأتباع والتاريخ والثقافة والمستقبل أيضا. إضافة إلى تمركزها الأكبر في "الغرب" الاوروامريكي أكثر من سواها. مع أن الإسلام يتركز في الجغرافيا الثقافية المتوسطة بين العوالم الثقافية الدينية الأخرى. فهو الوحيد الذي يحتك بصورة مباشرة بالعوالم النصرانية والبوذية والهندوسية. الأمر الذي يفسر بصورة جزئية العداء "المشترك" تجاهه من قبل العوالم الأخرى، انطلاقا من أن المجاورة هي الحدود المتحركة للخلاف والعداء والصراع. إلا أن كراهية الإسلام القديمة والمعاصرة في اغلبها هي من "امتياز" الوعي والثقافة الأوربية (والأمريكية بوصفها امتدادا للأولى).

وعموما يمكننا القول، بأنه ليست هناك من تجربة ثقافية كبرى في التاريخ الإنساني احتوت وصنّعت وأسست لمختلف نماذج "الكراهية" أكثر من الثقافة الأوربية (الغربية). وقد تكون تجاربها المعاصرة الصيغة الأكثر وضوحا ودلالة. إذ فيها جرى تأسيس وتطويع واستعمال اشد الأشكال تطرفا بهذا الصدد مثل النازية والفاشية والتفرقة العنصرية. وفيها برزت وتجسدت وتغلغلت في الوعي الفردي والجمعي كراهية الأمم والأقوام.

والسبب الجوهري القائم وراء هذه التقاليد الأوربية يرتبط بأصلين، الأول وهو أنها قطعت أكثر من غيرها مراحل التطور التاريخي الثقافي، والثاني إن تجاربها النظرية العقائدية الكبرى لم تذلل البؤرة الصلدة للاثنية والعرقية في الوعي الفردي والجمعي.

أما من الناحية التاريخية فقد تحولت الكراهية إلى جزء من "عقيدتها الروحية" بالارتباط مع اعتناق النصرانية. وقد ارتبطت هذه الظاهرة بكيفية انتقال الوعي الأوربي الثقافي إلى ما ادعوه بالمرحلة الدينية السياسية في تطور الأمم. فما قبل النصرانية لم تكن كراهية الأمم والأديان ثقافة أو عقيدة أو أيديولوجيا، كما لم نعثر على أي صيغة فكرية فلسفية لها. بل على العكس، لقد كانت تجارب العقل النظري والعملي الإغريقي والروماني تتعارض معها. مع إن التجربة الإغريقية والرومانية أيضا من حيث الأصل والجوهر لا علاقة لهما بالفكرة الأوربية الحديثة، أو على الأقل ما قبل اعتناق النصرانية.

والتناقض الحاد والمفارقة الجلية بين توسع وتعمق ظاهرة الكراهية للآخرين مع اعتناق النصرانية يقوم في أن المبدأ الجوهري للنصرانية هو المحبة، أي النقيض التام للكراهية. ويكمن سرّ هذا التناقض في جانبين، الأول وهو دخول "العهد القديم" المليء بقيم ومفاهيم الكراهية للآخرين والانغلاق في "الكتاب المقدس" للنصرانية، والثاني إن النصرانية لم تكن نتاج المعاناة الروحية "للغرب الأوربي". فقد كانت النصرانية الأولى مشرقية (أو بصورة أدق جنوبية أو متوسطية) من حيث المنشأ واللغة والفكرة والتقاليد والتأسيس النظري اللاحق (آباء الكنيسة الأوائل وفلاسفة السكولائية الأولى).

فمع اعتناق النصرانية، بوصفها أداة عقائدية وأيديولوجية وسياسية للدولة الرومانية الآخذة في التحلل والسقوط، بدأ الانتقال التاريخي الثقافي من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية. وهي من بين اعقد المراحل الانتقالية في مجال الوعي الثقافي، وأكثرها ديناميكية في الوقت نفسه، وأشدها سعيا نحو فكرة الواحد والوحدة ونبذ التنوع والاختلاف وكراهيته.

وقد نفذت الديانة النصرانية وأداتها العملية (الكنيسة) هذه المهمة بالقضاء على كل من يخالفها واتهامه بكل الأوصاف المثيرة للكراهية والاشمئزاز. وقد كان هذا التطرف والغلوّ نتاج التجربة المسطحة في تمثل الفكرة النصرانية، التي تحولت إلى مجرد أداة لإخضاع العقل للإيمان، والفلسفة للاهوت، والإنسان للعقائد، والجميع للكنيسة.

لقد لعبت النصرانية دورا تأسيسيا في بناء الذات الأوربية، من خلال تحولها إلى العقيدة الكبرى والجوهرية بالنسبة للعقل والضمير والوعي التاريخي والقيم والأخلاق، باختصار أنها أصبحت الحاوية الكبرى والأداة الواحدة للرؤية والتحليل والمواقف والتقييم. وقد كانت تلك خطوة كبرى إلى الأمام بالنسبة لتوحيد الوعي الثقافي وهمومه المشتركة. غير أن للتاريخ مصادفاته المغرية والمثيرة لحس والعقل والحدس.

فإذا كانت التجربة الأوربية في اعتناق النصرانية لها "منطقها" الخاص، فان هذا المنطق اتخذ صيغته الكلاسيكية بوصفه العامل الجوهري في توجيه الوعي والمسار التاريخي. إذ إننا نقف أمام واقع جلي يقوم في أن التجربة الأوربية النصرانية تغيرت بعد ظهور الإسلام.

فقد شكل الإسلام قوة جديدة موازية ومتحدية وصاعدة بمعايير القوة الجسدية والروحية والفكرة العقائدية. فاليهودية تحولت إلى ديانة ذليلة ومستهجنة. بينما ظهر الإسلام في نفس فضاء العالم الثقافي لليهودية والنصرانية. لكنه بالخلاف عنهما اتصف بفكرة الوحدانية المتجانسة ومساعيه العملية للتوحيد.

وفيما لو تجاوزنا كل حيثيات القرون الأربعة الأولى بعد ظهور الإسلام، من الصراع المتنوع الذي توج باستقرار وثبات "العالم الاسلامي" بما في ذلك على حساب "الأراضي النصرانية"، فإن الحصيلة الكبرى لتراكم نفسية وذهنية العداء والكراهية والانتقام قد برزت بصورة جلية في الدعوة والعمل على إذكاء الحروب الصليبية، بوصفها النموذج الكلاسيكي للحروب الدينية الكبرى. وفي مجراها وبأثرها تبلورت للمرة الأولى اغلب الصيغ النمطية عن الإسلام (دين القوة والإكراه والجسد واللهو والغريزة وما شابه ذلك، أي كل ما يجري اعتباره الآن فضيلة، وإن الإسلام معاد لها!). ذلك يعني إن هذه المفاهيم القيميية النمطية عن الإسلام هي تعبير عن التجربة الأوربية ورؤيتها.

وليس مصادفة أن نرى خروج كل هذه الأحكام القيميية النمطية في الوعي الديني والثقافي والسياسي الأوربي مع كل احتكاك حاد مع "عالم الإسلام". ولا يشذ القرن التاسع عشر والعشرين وبداية الألفية الثالثة من تأثير هذا المخزون الثقافي. ومن الممكن رؤيته على نموذج الوحدة السياسية والثقافية في كراهية الإسلام في الوعي الأوربي الذي لازم صعود الكولونيالية والمركزية الأوربية.

فقد ارتبطت ظاهرة كراهية الإسلام بالكولونيالية التي هيمنت فيها فكرة التضاد المطلق بين الشرق والغرب، ولاحقا بين الغرب والإسلام. غير أن الأمر اختلف حالما أخذت بالظهور والنمو ما ادعوه بالمركزية الإسلامية المعاصرة. الأمر الذي جعل من صراع هذه المركزيات نتيجة محتومة لا يمكن حلها بمشاريع "الحوار" و"التفاهم" وما شابه ذلك، بل بمعايير النمو الذاتي التلقائي، الذي يجعل من المركزية الأوربية وتراثها وتقاليدها حالة جزئية وليست كلية، قارية وليست عالمية. من هنا استثارة الخلاف والصراع.

ذلك يعني، إن الموجة الأخيرة من كراهية الإسلام في الغرب الاوروامريكي هي مظهر من مظاهر النمو والتنافس والاختلاف الطبيعي، بفعل تباين واختلاف التجارب الثقافية، والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية. ولن تنتهي هذه الحالة ما لم تنته الفجوة بينهما، وما لم يتكامل العالم الاسلامي بمعايير تجاربه الذاتية. وينطبق هذا في الواقع على كافة المناطق الثقافية التاريخية الكبرى). (يتبع...)

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم