قراءة في كتاب

الجنون قبل الطب النفسي

422 الجنونصدر مؤخراً كتاب بعنوان (الجنون قبل الطب النفسي)، عن دار (أوديل جاكوب Odile Jacob)، وهو كتاب تشارك في كتابته عدد من المؤلفين، وذلك بإدارة الطبيب النفسي - العصبي Neuropsychiatre (بوريس سيرولنيك Boris Cyrulnik)، والطبيب العصبي (باتريك لوماركي Pierre Le Marquis)، بالإضافة إلى ثمانية مؤلفين آخرين. قام أحد البرامج الإذاعية لراديو (فرانس إنتير France Inter)، وهو برنامج (الرأس المكعب La tête au carré)، بإستضافة سيرولنيك ولوماركي للكلام عن ذلك الكتاب ومواضيعه وذلك في شهر أيلول من عام ٢٠١٨.

وهذه ترجمة لأهم ما جاء في تلك الجلسة الحوارية.

عن الجسد والنفس، وعن أخطاء ديكارت وفوكو

في بداية الحلقة يُسأل بوريس سيرولنيك (لماذا هذا الرجوع للجنون قبل الطب النفسي؟)، فيجيب بأن الجنون أثار اهتمام البشر منذ القدم، من نبوخذنصر (ذكر ذلك الملك حرفياً)، بل حتى الفترات السابقة مثل فترة المتحجرات، إلى يومنا هذا، ولم نعرفه تعريفاً نهائياً. فنحن نعرفه دائماً حسب أدوات زماننا، ففي فترة التي غلب فيها الاعتقاد بأنه تلبس للأرواح قمنا بالبحث عمن تسبب في ذلك من سحرة مثلاً، وفي فترة ساد فيها الإعتقاد بأن الجنون هو ذنب ومعصية قمنا بمعاقبة المرضى، ثم بعد إبتكار الآلات ذاتية التحرك والساعات بتنا نقول أنه إختلال في تعشّق عتلات الدماغ ومسنناته، وكان لتطور الكيمياء السبب في أن ندخل حركة السوائل وتفاعلها في تفسيرنا له، وبقدوم عصر الكهرباء فسرنا الجنون بإضطرابات الشحنات، ونحن الآن في عصر الحاسوب وها نحن نفسر الأمر بأنه مشكلة في الإتصالات ما بين الخلايا العصبية. وبعد كل هذا، فإن الجنون هو ليس حالة واحدة، بل هو متنوع وغير متجانس. وربما أن أهم ما توصلنا إليه اليوم هو الإصلاحات التي ينادي بها مثلاً كتاب الطبيب النفسي (بيير-ميشيل لوركا Pierre-Michel Llorca) الذي هو بعنوان (طب نفسي: الحالة الطارئة  Psychiatrie: L’état d’urgence)، والذي يشرح فيه أن الخطوة التالية يجب أن تكون الإصلاحات التي على سياسيينا الأخذ بها، وإحداها هي الكف عن التفريق بين الطب العام والطب النفسي، فقد تبين لنا أن ديكارت قد كان مخطئاً حين قال أن النفس والجسد هما شيئان منفصلان ولا يتواصلان مع بعضهما بسبب كونهما من مادتين مختلفتين. نعم، إن ديكارت مخطئ، فالنفس والجسد جهاز واحد، ولتوضيح ذلك لنأخذ مثال الجهاز التنفسي، فهو يعمل على نقل الأوكسجين وهو مادة غازية، عبر القصبات الهوائية والرئتين وهما مكونان من مواد صلبة، إلى مادة محمولة في الدم الذي هو مادة سائلة، واختلاف خواص هذه المواد لا يعني أنهما من الغير الممكن تشكيلهم لجهاز واحد. ويرجع سيرولنيك بعد هذا المثال للطب النفسي ويقول بأن هناك تشذرم في الحلول المقترحة لمعالجة المرض النفسي، فذلك يقول إنه عضوي وعلينا علاجه عضوياً، ليجيبه الآخر بأنه نفسي ومعالجة الأمر يأتي من (التحليل النفسي)، وينبري الثالث ليقول بأنه إجتماعي، ويجب مقاربته من خلال علم الإجتماع. 

بعد تلك البداية ينتقل النقاش للحديث عن عدد من الأمور اهمها إقبال طلبة الطب على هذا التخصص، والمصطلحات الطبية المستخدمة في الطب النفسي وتغيرها، والتفريق بين الطب من جهة والطب النفسي من جهة أخرى، وتفسير مرض الصرع عبر التاريخ، والعلاج بـ(ثقب الجمجمة)، واستخراج (حجرة الجنون).

ثم يعرض البرنامج بعد ذلك فقرة بصوت ميشيل فوكو وهو يقول بأن القرن السابع عشر كان بمثابة المفصل في التعامل مع المجانين، فقبل القرن السابع عشر كان المجانون يعيشون أحراراً، وموجودون في المجتمع الذي يحفتي بهم بحفلات، وكان للمدن مجانينها المعتنى والمحتفى بهم، وكان لهم مكانتهم في الأدب ومثال على ذلك رواية دون كيشوت، وفي الرسم ومثال على ذلك لوحات بروغل وجيروم بوش، لكن بقدوم القرن السابع عشر، تغيرت الحالة الاقتصادية وبرزت البرجوازية وتغيرت القيم الاقتصادية فصار ينظر للمجنون بصفته مبذر للنقود وغير منتج لها، فابتكرت المستشفيات وتم سجنه بها.

يطلب بعد ذلك من سيرولنيك التعليق على ما قاله فوكو، فيجيب بأن المؤرخين الأنگليز والأمريكان والإيطاليين يعارضون ما يقوله فوكو في ذلك الشأن، وبأن باريس في تلك الفترة، أي في حوالي سنة ١٦٥٦، وهي الفترة التي تحدث عنها فوكو بصفتها المرحلة الفاصلة، وأسماها بـ(عصر الإنغلاق الأكبر l’epoque du grand enfermemnt)، كان يعيش في باريس حوالي ٢٠٠,٠٠٠ نسمة، ومنهم ٤٠,٠٠٠ مشرد، وكانت العلاقات التي تحكم هؤلاء المشردين عنيفة، فأتى افتتاح المستشفيات النفسية رحمة على سلامة المرضى المشردين، ثم يقول سيرولنيك بأن المستشفيات النفسية أصلاً قد وجدت في بلاد شرقية مثل سوريا التي قام بزيارة مستشفاها ورأي أنها بعيدة عما يمكن وصفه بالسجن ففيها حدائق ونافورات، وتقول المصادر أن الكادر العامل فيها كان يؤسس مع المرضى علاقات طيبة، وهو ما يمكن تشبيهه بنوع من العلاج النفسي.

عن العنف

وبذكر العنف يطرح المذيع سؤالاً قائلاً بأننا اليوم في عام ٢٠١٨ ما زلنا نريد تفسير من الأطباء النفسيين عن هذا العنف الذي يستشري في الشوارع من هجوم بالسكين، أو شخص يسوق سيارة فيصدم أناس أبرياء، فهل يصح وصف من يرتكب هذه الأعمال بأنه مجنون، أو أنه انتابته نوبة جنون؟

وفي اجابته يرجع سيرولنيك لكتاب للطب النفسي كتب سنة ١٩٠٣، (لم يوضح عنوانه سوى أنه قال أن من كتبه إسمه (بالريه) ولم نجده في الانترنت)، وكان الإرهاب في تلك الفترة مسيحياً، فقد كان هناك مسيحيون يتعصبون متحمسين يحملون سكيناً، أو عصا حديدية، ويقومون بفعل ما يسميه الأمريكيون ليومنا هذا بالـ(أموك Amok)، وذلك يعني أنهم يبدأون بالقتل ولا يتوقفون إلى أن يتم قتلهم وهم عارفين بمصيرهم حين بدأوا بسلوكهم ذاك. كان أولئك أناساً عاديين، ساخطين وهائجين، وتفسير (بالريه) في كتابه في ١٩٠٣ كان بأنهم: « نفسيات ضعيفة يفقدون الصواب لأن هناك من يدفعهم للتعصب والتحمس»، واليوم نستطيع القول نفس الشيء تماماً عمن يقوم بالهجوم بالسكين. وفي بداية الأمر كان هناك قصد سياسي لهذا السلوك، وهو شيء قادم من الشرق الأدنى، ويقوم تقنيون عالون بتوجيه هذا الأمر متحكمين بالخطاب العام، وهذا هو الإرهاب. وأن هناك بسطاء، تعيسون، وحيدون، بلا تعليم، يجري تحميسهم وجعلهم متعصبين بهذا الخطاب فيحملون سكيناً أو يقودون سيارة لكي ينفذون.

يرجع المقدم ليسأل: (هل هم مجانين؟)، فيجيب سيرولنيك: كلا، أظن أنهم أناس بلا تعليم، جرى استخدامهم بواسطة آخرين يعملون على تحميسهم.

يستأنف سيرولنيك شرح ما قاله سابقاً بإكتشاف العلوم العصبية منذ حاولي ٣٠ سنة بأننا حين نترك طفلاً معزولاً حسياً، مثل بسبب موت الأم، أو الحرب، فإن هذا العزل يؤدي إلى عدم تحفيز الفصين الجبهيين من الدماغ وبالتالي انكماشهما، وإلى تضخم في الأميجدالا في الوقت نفسه، التي هي مركز للإنفعالات الغير محتملة. وبذلك يصير الطفل غير قادراً على التحكم بسلوكه، وتسوء قدرته على إقامة علاقات إجتماعية، وهو ربما ما نراه مثلاً يجسد لنا في فلم الويسترن الأمريكي (الرجل المتوحش The Stalking Moon).

عن المملكة الكاذبة للشياطين

ثم يتوجه المقدم لبيير لوماركي وسؤاله عن السحر والسحرة وعلاقة كل ذلك بالطب النفسي فيجيب لوماركي بالحديث عن جون فير  Jean Weir (١٥١٥-١٥٨٨)، الطبيب الذي كان معارضاً لما كان يسمى بـ(مطارة الساحرات) من قبل الكنيسة، ومناداة جون فير لاعتبار الساحرات مريضات نفسياً، ومقولته: « لا استطيع القول ان الشيطان غير موجود لكنه ليس هو من يتسبب في هذه الحالة المعينة »، وكان فرويد يعتبر كتابه من أجمل الكتب في الطب النفسي التي كتبت، ويمكننا، كما يقول لوماركي، أن ندخل لفصول هذا الكتاب ونقراها من الإنترنيت، والكتاب بعنوان (المملكة الكاذبة للشياطين Pseudomonarchia daemonum).

عن الهارمونيكا الزجاجية والتنويم المغناطيسي

ثم يتوجه مقدم البرنامج بالسؤال الى بيير لوماركي مستفسراً منه عن ذلك الفصل من الكتاب الذي يتكلم عن الموسيقى، وبالذات عن الهارمونيكا الزجاجية. فيخبرنا لوماركي أن هذه الآلة قام بإبتكارها بنجامين فرانكلين، مستوحياً فكرتها من تلك الأصوات التي تصدرها كؤوس الكريستال حين تكون مملوئة للنصف بالماء، وحين نحرك طرف إصبعنا على حافتها العليا. وسرعان ما سحرت الهارمونيكا الزجاجية الناس في وقتها، وأعجب بها موزارت واستخدمها في بعض تأليفاته، وما يهمنا أن (مسمر)، مبتكر التنويم المغناطيسي كان يستخدمها في جلساته. ثم منع استخدام هذه الآلة لتسببها، حسب ما أدعو وقتها، بحالات إسقاط مبكرة لدى النساء، وبنوبات صرع، ونوبات سعار لدى الكلاب (يضحك المتحاورون).

ثم يجيب لوماركي عن سؤال إن كان (مسمر) دجالاً فيقول بأنه أولاً طبيب، وفي الفترة التي عاش بها كان أحد مباحث الطب المهمة يتمثل بدراسة تأثير الكواكب على الجسد والنفس، فمثلاً كان يظن أن كوكب زحل يسبب الحزن، وكوكب المشتري يسبب الفرح، فكانت رسالة تخرج (مسمر) من كلية الطب وقتها بعنوان (تأثير الكواكب على الصحة). فلم يكن غريباً بعد هذا أن يستخدم مغناطيساً لعلاج المرضى، وكان يقدم خدماته مجاناً للفقراء، وبسعر مضاعف للأغنياء الذين كان عليهم الإنتظار طويلاً لدورهم، هذا علماً أن مسمر كان غنياً ويعيش في قصر كبير في ڤيننا، وكان صديقاً لموزارت الذي استضافه في قصره حين كان عمر موزارت بعمر الثانية عشر، ودامت علاقتهما بعد ذلك بالمراسلة. ورجوعاً لقصته مع التنويم، فإنه ذهب مرة لجلسة علاج وكان قد نسى المغناطيس، فلم يصرح بذلك للمرضى وقام بالجلسات بإستخدام يديه فرأى أن لها نفس أثر المغناطيس ففسر ذلك بكون الجسم الحي يحتوي كذلك على شحنات كهربائية، ولذلك فلا بد أن الشحنات في يديه هي من صححت إضطراب الشحنات في جسد المرضى.

وبذلك يستنتج لوماركي أن مسمر لم يكن دجالاً، بل أنه اكتشف لنا الطب النفسي-جسمي، والعلاج بالإيحاء من غير أن يعرف هو ذلك.

ثم يكمل قصة مسمر الطريفة في هجرته وذهابه لباريس وإعجاب ماري انطوانيت به، وقلق لويس السادس عشر منه. وقيام لويس السادس عشر بتكوين لجنة علمية لتجيب على تساؤلين، الأول هو هل أن التنويم المغناطيسي يعمل حقاً؟ والثاني هو إن كانت له فائدة ترجى؟

وكان بنجامين فرانكلين، الذي كان في وقتها يشغل منصب سفير الولايات المتحدة الأمريكية في فرنسا، من أعضاء اللجنة بالإضافة إلى العالم الفلكي (جان سيلفان بايي Jean Sylvain Bailly)، والكيمياوي (أنطوان-لوران دو لافوازييه Antoine-Laurent de Lavoisier)، والطبيب (جوزيف إيجنياس جيوتن Joseph Ignace Guillotin)، وعالم النبات (أنطوان-لورون دو جوسيو Antoine-Laurent de Jussieu)، وقاموا بتجارب وكان استنتاجهم أن التنويم ينجح في تنويم رجل من كل خمس رجال، لذلك هو لا يعمل. وأنه خطر لأن الكثير ممن سيستخدموه سيكونون من الرجال المتمتعين بـ(طاقة حيوانية)، وبأنهم سيستخدموه على نساء. فكان منع التنويم في فرنسا، ذلك المنع الذي لم يستمر فقد أتى شاركو بعد ٦٠ سنة من ذلك وأعاده للتطبيق في مستشفى السالباتريير وبحضور فرويد.

عن الثورة الفرنسية والمجتمع المريض

ثم يتكلم سيرولنيك عن الإعدامات التي طالت بعض أعضاء لجنة لويس السادس عشر بعد الثورة الفرنسية وكيف أن كراهية النخبة كانت في روح تلك الحقبة من الزمن، فقد مل الناس من هؤلاء النخبة الذين يدرسون أموراً غير حرفية أو صناعية، فمثلاً كانت من المباحث التي كثير ما تفتح في السوربون هي هل كون الملائكة إناثاً أم ذكوراً. وامتداداً لذلك الرفض في بحث أمور نخبوية صار التركيز على الجسد كمادة للفحص الطبي، وصار بعض التعديل للطب العصبي والنفسي.

ووجه أحد المستمعين سؤالاً للخبيرين قائلاً: (هل يمكن اعتبار أن المجتمع مريض، وأنه يقوم باحتجاز بعض الناس الذين يخرجون عن المألوف من العادات في المستشفيات النفسية؟). يجيب سيرولنيك على هذا السؤال بأنه لكل إنسان فرادته بالطبع، وحقه في أن يكون مختلفاً، وذلك بسبب لغته وتاريخه وطفولته. أما من نطلق عليهم صفة مجانين مع عدم قدرتنا على أحتواءهم بتعريف واحد، فهم من يملكون حالة عقلية لا نستطيع نحن التوصل إلى فهمها، يخيفوننا فنسميهم مجانين، ونغلق عليهم. ثم يستدرك سيرولنيك قائلاً بأن الأصح قولاً، أننا كنا سابقاً نغلق عليهم، فليس هذا هو الحال يومنا هذا، فقد تحسنت الخدمات التي تقدمها المستشفيات وعلى سبيل المثال، قبل إختراع الأدوية المضادة للذهان كان من يدخل للمستشفى النفسية لا يخرج منها في ٩٢٪ من الحالات، بينما أننا اليوم نرى أن ٥٠٪ من مرضى الفصام الذين يدخلون للمستشفى يخرجون منها ولن يعودوا لأخذ العلاج مدى الحياة، رغم جسامة هذا المرض. ثم يكمل أنه نعم أحياناً قد يصح وصف المجتمع بالمجنون، ويعطي مثالاً يوضح فيه كيف أن القيم المجتمعية السائدة والظرف الراهن في وقت معين هي التي تحكم على طريقة معاملتنا للبشر، ففي وقت الحرب، يقول سيرولنيك، يقلد المجتمع من يحمل شخصية مضادة للمجتمع (سيكوباث) بأوسمة الشرف، لكنه يعود في وقت السلم، ليزج بهؤلاء في السجن. 

وهكذا يتنهي اللقاء مع الطبيبين، ويشكرهما المقدم.

 

ترجمة: سامي عادل البدري

......................

رابط الحلقة الإذاعية عبر الإنترنيت:

https://www.franceinter.fr/emissions/la-tete-au-carre/la-tete-au-carre-12-septembre-2018

 

في المثقف اليوم