قراءة في كتاب

الزمن والتاريخ.. نقد الاوهام الراديكالية والمقدسة.. كتاب جديد من تأليف ميثم الجنابي

526 ميثم الجنابيصدر هذا الكتاب عن (دار العارف) 2018. وعدد صفحاته 198. وهو الكتاب الاول من سلسلة كتب صدرت عن الدار سوف استعرضها من خلال عرض المحتويات والمقدمة او بعض منها. بينما يبقى استكمال قراءة النص للقارئ.

يحتوي هذا الكتاب (الزمن والتاريخ (نقد الاوهام الراديكالية و"المقدسة") على تعريف بالكاتب والكتاب على الغلاف، ومقدمة، وستة ابواب بواحد وعشرين فصلا. هي على التوالي:

المحتويات

المقدمة 5

الباب الاول: مسرح الزمن الإمبراطوري ودراما التاريخ الفعلي للأمم   11

الفصل الأول: سيناريو "النظام العالمي الجديد" أم إمبراطورية الفوضى؟        11

الفصل الثاني: أنشودة الإمبراطورية الخربة والسيناريو العراقي  19

الباب الثاني: في نقد الراديكالية السياسية    29

الفصل الأول: طوفان الزمن الراديكالي وبداية التاريخ العقلاني   29

الفصل الثاني: صعود وهبوط الراديكالية السياسية 37

الفصل الثالث: الراديكالية السياسية وتبذير التاريخ 41

الباب الثالث: المرايا المتكسرة للزمن الراديكالي   49

الفصل الاول: الطائفية السياسية: عقيدة الأفق المسدود     49

الفصل الثاني: الراديكالية السياسية للغلاة الجدد!   55

الفصل الثالث: راديكالية الغلاة الجدد والارهاب السلفي    69

الفصل الرابع: الغلو السلفي والحروب الدينية       83

الباب الرابع: الراديكالية السياسية وتبذير الرأسمال التاريخي     103

الفصل الاول: إشكالية الزمن والتاريخ في ثروة الأمم      103

الفصل الثاني: زمن السلطة وتاريخ الدولة  109

الفصل الثالث: الزمن الراديكالي وتهشيم بنية الوعي التاريخي للدولة والأمة     115

الفصل الرابع: الخروج على منطق التاريخ القومي         119

الباب الخامس: أوهام الزمن "المقدس" وأحلام المستقبل   123

الفصل الاول: أوهام الزمن "المقدس"       123

الفصل الثاني: النقد العقلاني لأيديولوجية الأوهام "المقدسة"       127

الفصل الثالث: أوهام الأيديولوجيا وأحلام التاريخ  143

الباب السادس: نهاية الزمن السائب وبداية التاريخ الفعلي 147

الفصل الاول: نهاية زمن الأوهام وبداية التاريخ الواقعي  147

الفصل الثاني:  زمن الزيف وتاريخ الأصالة        151

الفصل الثالث: نهاية الزمن الطائفي 155

الفصل الرابع: نهاية الزمن "العرقي"       163

الفصل الخامس: الزمن الطائفي والتاريخ العربي  171

 

من المقدمة

 إن تاريخ الأمم الكبرى هو دراما شنيعة الوصف ومأساة لا تتناهى إليها العبارة، ويعجز الفكر أحيانا عن تصوير خلجانها، لأنه عادة ما يتيه في تأمل الآفاق النائية لمحيطها. وهي المقارنة التي تقذفها الطبيعة في ترابط خلجانها وبحارها ومحيطها، بوصفها الوحدة المفككة للقرب والبعد عن الجسد. وقد يكون هو السبب الذي جعل ويجعل الخلجان اقرب إلى الروح والجسد. كما انه الاشتقاق غير المرئي لكلمة خلجان البحر وخلجات الضمير. وكلاهما يبوحان بعبير الذاكرة وعواصف الهيجان الخفية. ومنهما تتموج مشاعر اللوعة وتمنيات الاقتراب. وكل منهما يدفع بما فيه إلى سواحل الروح والجسد. وتقترب هذه الظاهرة من التاريخ حالما يكون نتاجا لحركته الذاتية. وضمن هذا السياق يمكن فهم سر الصعود والهبوط العنيفين فيه بوصفها العملية الملازمة لقوة الروح والجسد الفتية.

فالتاريخ يبرهن على أن اشد المراحل مرارة بالنسبة للعقل النقدي والضمير الحرّ هي تلك التي تختلط فيها دماء الأبرياء برياء الساسة ونزواتهم التي لا تكترث بشيء غير السلطة والجاه. ولا حول في هذه الحالة ولا قوة لغير الدجل والاستعداد للانغماس فيه بفعل تغلغل الرذيلة في الوعي والإرادة. وعادة ما تستفحل هذه الحالة زمن الانقلابات الحادة وغياب فكرة الدولة والقيم الاجتماعية في الفكرة السياسية. عندها تتكثف جميع القيم في بؤرة مستعدة لقبول مختلف أصناف الرذيلة والانغماس فيها. ويصبح الفعل والفاعل مجرد دوران في فلك التطويع المتفنن للغريزة. إذ لا عقل يحكم السلوك ولا حدود تحكم الإرادة!

وحالما يصبح هذا النموذج الصيغة الأكثر انتشارا وسيادة في الوعي والممارسة السياسية، حينذاك تصبح رعشة الجسد المرتوية من لذة السفاح، وطعنة السكين، ومطالبة الدائن بدينه، ومواجهة النتائج المخيبة، وانتظار الأمل المفرح، أمورا متكافئة. وذلك لأن التباين في المشاعر والمواقف يفترض تكامل الرؤية وإدراك الأولويات. فإدراك وتحسس حمرة الخجل وصفرة الوجل يفترض تباين المشاعر تجاه النفس والعالم المحيط. لكنه تباين محكوم بتمايز العقل والوجدان وترابطهما في الإرادة الإنسانية، أي كل ما يهّذب ويشّذب القيم الأخلاقية ويرفعهما إلى مصاف المنظومة العملية القادرة على توجيه السلوك الفردي والاجتماعي صوب إدراك أولوية المصالح العامة والفعل بموجبها. وتشكل هذه الأخلاق من حيث الجوهر مضمون الأخلاق السياسية بوصفها أخلاق إدارة شئون المجتمع والدولة بالشكل الذي يضمن الحد الأدنى من تراكمهما بمعايير الدولة والمصالح القومية العليا.

لكننا حالما ننظر إلى واقع العراق الحالي وسلوك الخواص والعوام، أو النخب والجمهور، فإننا نقف أمام حالة تختفي معها اشد المفاهيم والقيم جلاء، كما لو أننا نقف أمام الفكرة التي بلورتها الفلسفة الإسلامية القائلة، بأن سبب خفاء الله هو لشدة ظهوره. وهي الحالة التي "يحققها" العراق ونخبه السياسية والمجتمع عموما، بحيث يصعب رؤية الانحطاط فيه لشدة انتشاره وظهوره. وفي هذا تكمن فيما يبدو مرارة المرحلة وضرورتها في الوقت نفسه. بمعنى أن العراق والعراقيين ينبغي أن يمروا بطريق الآلام لكي يكون بإمكانهما التفريق بين دفئ النار وحريقها. فالتحولات العاصفة التي تمس الأمم ما هي في الواقع سوى الوجه الظاهري لما يجري في أعماقها من تغيرات فعلية. وقد سبق وأن صور ابن عربي هذه الفكرة قبل قرون عديدة عندما قال، بأن ما يجري هو استعداد لما فينا، فما اثّر فينا غيرنا. وحالما ننقل هذه الفكرة من دهاليز الباطنية المتسامية إلى ميدان الحياة السياسية الخشنة، فإنها تبدو حكما اقرب إلى البديهة.

لكننا نعرف جيدا بأن البديهة في ميدان السياسة ليست ذاتها في العلم والمنطق، مع أن السياسة لا تقل منطقية عن غيرها. إلا أن الذي يعطي للسياسي المغامر إمكانية تجاوز أمورها البديهية هو أن نتائجها ليست مباشرة بالضرورة. مع أنها تحتوي في كل فعل على نتائجه الملازمة. فالاستبداد مهما طال بسبب "منظومة" العنف والإكراه المقننة يؤدي بالضرورة إلى الانهيار والخراب.

غير أن التاريخ السياسي يكشف عن أن البديهيات في ميدان الحياة السياسية قد تكون أمور اقرب إلى الفرضية. وتشير هذه الحالة أما إلى واقع التخلف الشامل أو الانحطاط الشامل. وفي ظروف العراق الحالية، نعثر على تداخل وتضافر الاثنين. لكنها حالة لا تخص العراق فقط، إلا أنها تتميز في ظل ظروف الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية بنزعة مخربة وهوجاء. وسببها الجوهري يقوم في ضعف وفقدان البنية التحتية للدولة الشرعية وتقاليدها السياسية، وانهيار المجتمع المدني وسيادة الرخوية في كل جزيئات وجوده الفعلي، وخراب الثقافة العامة. والحصيلة هو فقدان أو تشوه الفكرة الوطنية والقومية ومرجعيات تأسيسها الواقعية والعقلانية. وفي ظل هكذا ظروف يصعب تصور صيرورة النخب بشكل عام والسياسية بشكل خاص في غضون فترة قصيرة.

 إضافة لذلك أن تاريخ الأمم والدول يبرهن على أن البديهيات السياسية النظرية لا تغير شيئا من ذهنية ونفسية رجال السياسة المغامرين دون القضاء على مقدمات وشروط الانتهاك الممكن للبديهيات في السياسة العملية. بعبارة أخرى إن الإمكانية الرادعة في البديهيات السياسية تصبح واقعية فقط عندما تصبح السياسة علما، وعندما تكون الممارسة السياسية جزء من رؤية عقلانية ذات أبعاد إستراتيجية معبرة عن مصالح الدولة والمجتمع. وتبدو هذه النتيجة جلية للعيان على خلفية التاريخ العراقي الحديث، وبالأخص تجربة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.

إلا أن تأمل تجربة العراق بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية تكشف عن أن بديهيات التاريخ السياسي العراقي ما زالت معضلة وإشكالية في وعي النخبة السياسية الحالية في العراق، كما نراه في استمرار زمن الخروج على قواعد المنطق السياسي وقواعد المصلحة الاجتماعية والوطنية. بمعنى أن النخب السياسية والأحزاب لم تتوصل بعد إلى إدراك الحقيقة القائلة، بأن العمل من اجل المصالح الكبرى والعامة هو أيضا الضمانة الكبرى والأقوى للمصالح الخاصة والجزئية. أما عدم إدراك هذه البديهة والعمل بموجبها فهو مؤشر تام على انعدام الرؤية العقلية والعقلانية للفكرة السياسية. وأن مضمون السياسة عند الأحزاب والنخب هو العيش بمعايير الغريزة والجسد. بمعنى عدم استفادتها من تجارب التاريخ العراقي الحديث العامة منها والخاصة.

يبرهن تاريخ الدولة العراقية الحديثة على أن الخروج عن منطق الفكرة العامة هو سرّ خرابه الشامل. فقد وضعت الدولة العراقية الحديثة لبنات الفكرة العامة عن الدولة (الوطنية) لكنها سرعان ما جرى تخريبها بفعل تغلغل الطائفية السياسية المبطنة وتحولها إلى الفكرة الحاكمة في بنيتها ومؤسساتها. مما جعل منها دولة سلطوية. وفي هذا كان يكمن تراكم العناصر الراديكالية في الفكر والممارسة. فالفكرة الجزئية تولد الراديكالية. والراديكالية تعيد إنتاج الفكرة الجزئية وتجعلها منظومة "شرعية".

فعندما نتأمل تاريخ العراق العام والخاص في مجرى صيرورته الحديثة في القرن العشرين، فإننا نقف أمام انقلابين حادين فيه. الأول وهو سقوطه في بداية القرن العشرين تحت السيطرة البريطانية، والثاني سقوطه تحت السيطرة الأمريكية في بداية القرن الحادي والعشرين. ذلك يعني إننا نقف أمام تكرار السقوط كل مائة عام. بمعنى أن تاريخه بلا تاريخ، بل مجرد زمن، أي بلا تراكم ولا حكمة. مما يعكس واقع ما أسميته بغياب الفكرة العامة، التي تجعل من القوى الجزئية أيا كان شكلها ومحتواها دودة تنخر أعماقه الباطنة بحيث تجعله صلب المظهر خاوي الباطن، كما نراها بجلاء على مثال وحالة سقوطه السريع والمريع تحت ضربات الغزو الأمريكي الأخير.

وإذا كان سقوطه الأول نتاجا طبيعيا لغياب الفكرة الوطنية المستقلة بسبب جزئية وجوده في السلطنة العثمانية، فإن سقوطه الأخير كان النتيجة المترتبة على فقدان الفكرة الوطنية العامة بسبب الطائفية السياسية، أي القوى الجزئية التي حولت العراق إلى جزء من مصالحها الضيقة. بعبارة أخرى، لم يكن "تحريره" من السيطرة التركية ووقوعه تحت "الانتداب" البريطاني في بداية القرن العشرين، ثم "تحريره" من السيطرة الصدامية ووقوعه تحت الاحتلال الأمريكي في بداية القرن الحادي والعشرين، سوى التكرار الفج للحقيقة القائلة، بأن ما حدث آنذاك وما يحدث الآن هو "استعداد لما فينا"، ومن ثم "فما اثّر فينا غيرنا". وهو استعداد محكوم بغياب الفكرة الوطنية العامة، أي بغياب مرجعياته الذاتية الكبرى. وبالتالي، فإن الأمل الفعلي يقوم في إمكانية تذليل القدرة الخفية القائمة في ما يمكن أن يولده هذا "التكرار" من استعداد على امتثال نفسية الإحباط.

فالإحباط لا يحل مشكلة. وخاتمة الحياة الموت، بوصفه "الملجأ" الأبدي لانتظار الجميع. تماما كما أن وحدة الوجود والعدم هي الدورة الأبدية لنشوء الكائنات واندثارها. وفي حالة تطبيقها على الوعي السياسي العراقي، فإن سرّ هذه الدورة الخربة يقوم في وقوعه الدائم في أسر نفسية وذهنية الصراع وتقاليده الدموية، أي في دوامة فارغة. وبالتالي، ليس هذا الكتاب سوى محاولة إضافية لما كتبته بهذا الصدد من اجل توسيع وتدقيق الرؤية الفلسفية البديلة للوعي السياسي الحالي، وكذلك من اجل تأسيس منهج للرؤية العلمية يهدف إلى تذليل ما ادعوه بنفسية وذهنية الخراب وتقاليدها الراديكالية السياسية (والحزبية). 

إن مهمة هذا الكتاب تقوم في تفسير ما جرى ويجري في العراق والعالم العربي باثر هيمنة الفكرة والتقاليد الراديكالية وأوهامها العادية و"المقدسة" بطريقة تتجاوز "الفكر السياسي" التقليدي. بمعنى أن مهمته المنهجية علمية تنويرية، ومهمته العملية تحرير الفكر من الخضوع للأحزاب السياسية، ومن توحيدهما العمل على إرساء أسس التفكير العلمي بوصفه منظومة متجانسة. انها مهمة المستقبل والأجيال الجديدة. فالأحكام السياسية عرضة للتغير والتبدل. وكذلك الحال بالنسبة "للكتب السياسية". وهو أمر طبيعي وعادي. إذ لا شيء سريع التغير والتبدل أكثر من الأحكام السياسية ونتائجها. بينما المهمة الكبرى تقوم في إرساء أسس التقاليد العلمية الرصينة والعميقة والواقعية في تناول كل ما جرى ويجري من أجل تأسيس المستقبل. وبالتالي، فإن تداخل اشكاليات الواقع العراقي والعربي لا ينفي التمايز الفعلي بينهما فيما يتعلق بخصوصية هذه الإشكاليات، لكنها واحدة ضمن سياق إشكالية الزمن والتاريخ، التي اتناولها بالبحث والنقد وتأسيس البدائل.

فالعراق الحديث والمعاصر بحاجة إلى مسح شامل وتحليل مؤسساتي طويل ومديد من اجل أن يبلغ التفكير والفكر السياسي مستوى الوعي الذاتي وإدراك حقائق الأشياء كما هي. وهذه بدورها مهمة رجال العلم والأكاديميين ومؤسسات المعرفة والثقافة والمدرسة والتربية والتعليم والحياة المدنية وليست مهمة الأحزاب وأزلام السلطة ومختلف "السياسيين" اللذين كشفت، بما في ذلك السنوات اللاحقة على سقوط الدكتاتورية الصدامية، عن طابعهم الهش. والسبب هو هشاشة الزمن العراقي وانعدام تاريخ المؤسسات فيه.

ذلك يعني، إن العراق بحاجة إلى إعادة تأسيس شاملة، بوصفها مهمة العراقيين أولا وقبل كل شيء. ولا يمكنها أن تكون شيئا آخرا غير تلقائية التطور الذاتي. ويستحيل تحقيق ذلك دون تأسيس وإرساء أسس ما ادعوه بالمرجعيات الذاتية الكبرى، التي لا تصنعها قوى عابرة، ولا تؤسس لها قوى طائفية أو أقليات قومية لأنها جميعا قوى جزئية. وفي هذا تكمن بديهية سقوط العراق. كما تفترض بديهية صعوده الإدراك الواعي والتحقيق العملي للفكرة القائلة، بأن البديل الفعلي لحالة السقوط يقوم في إرساء أسس ومنظومة المرجعيات العقلانية للأفكار العامة الكبرى.

*** 

 

في المثقف اليوم