قراءة في كتاب

تأملات فكرية حول الحضارة الإسلامية كتاب جديد تأليف ميثم الجنابي

535 تاملات فكريةالمقدمة: صدر هذا الكتاب عن (دار العارف) 2018. وعدد صفحاته 200 . وهو الكتاب الثاني من سلسلة كتب صدرت عن الدار (العارف). ويحتوي هذا الكتاب (تأملات فكرية حول الحضارة الإسلامية) على مقدمة، وسبعة ابواب وأثنين وعشرين فصلا، يتناول فيها مختلف الجوانب والقضايا المنهجية والتاريخية والفكرية السياسية والفلسفية والثقافية المتعلقة بمختلف جوانب وإشكاليات ومستويات الحضارة الإسلامية. ومع ذلك فإن الكتاب ليس "منظومة" من هنا عنوان (تأملات فكرية..)، أي أن مضمونه ومهمته تقوم في كل ما يمكنه إثارة الذهنية الفكرية والفلسفية والعلمية والتاريخية من اجل المساهمة في تأسيس الرؤية العلمية والنقدية الضرورية لإرساء أسس ما ادعوه بالمرجعيات الكبرى والضرورية لتحصين ومرونة الانتماء المخلص للفكرة العربية الثقافية.

ذلك يعني، إن اثارة اشكاليات الحضارة العربية الإسلامية لا علاقة له بالتاريخ العادي أو اضاءة بعض أو مختلف جوانبه، بل في إثارة الرؤية المنهجية والفلسفية من اجل تكامل الوعي التاريخي بمعايير الرؤية الثقافية والعلمية. فهو الأساس المنهجي لصنع كينونة الانتماء الأصيل والوعي الذاتي العميق، بوصفه المقدمة الضرورية في المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم العربي والإسلامي ككل، أي مرحلة الانتقال من الطور الديني السياسي إلى الطور السياسي الاقتصادي في تطور الدولة والثقافة والقومية. ومن ثم فليس المقصود "بالإسلامي" هنا سوى الصيرورة التاريخية الثقافية لوعي الذات القومي العربي. وبالقدر ذاته يمكن أن يكون كذلك بالنسبة لجميع القوميات والأمم الإسلامية. اذ تكمن في هذه الإشكالية وحلها المقدمة الضرورية لتذليل حالة التخلف والانهيار المعنوي والوعي الثقافي المستلب.

فإذا كان فقراء العقول كفقراء البدن، يبحثون عن لقمتهم في مزابل الجهل والعقائد الميتة والأوهام، فإن العقول الكبيرة والحية تبحث في ذاتها من اجل ذاتها. وينطبق هذا على كافة ميادين المعرفة، بما في ذلك معرفة الحضارة وأصولها وخصوصيتها وقيمتها بالنسبة لوعي الذات الثقافي. فالحضارة ليست كيانا متحجرا و"تراثا" للماضي، بل هي الكينونة الذائبة في وجودنا المعاصر. أنها المكون الجوهري للذات القومية والثقافية، والمادية والروحية لبقاء وفاعلية القيم والاذواق. وذلك لأنها حصيلة معاناة تاريخية كبرى للروح والجسد الثقافي في مساعيه المتنوعة من أجل حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة. من هنا قيمتها الحية بالنسبة لوجودنا المعاصر، بما في ذلك بالرجوع اليها. وفي هذا الرجوع وكيفيته تتوقف "حقيقة الحضارة" بشكل وعام وحقيقتها الذاتية بالنسبة لأقوامها.

إن الحضارة القديمة لا تحل إشكاليات وقضايا المعاصرة، لكنها تؤسس لإرساء أسس الثقافة الذاتية الحية، أي لكيفية بناء منظومة المرجعيات النظرية والعملية المعاصرة. وهي قضية منهجية مجردة ومستقبلية عملية بقدر واحد. فالخلافات الحادة بين احفاد الحضارة الإسلامية، بغض النظر عن أقوامها وشعوبها ومذاهبها، يشير الى ان الثقافة المعاصرة لم تصل بعد إلى "الاجماع" حول إشكاليات الحضارة الإسلامية والمفاصل العامة والكبرى في تاريخها الذاتي. من هنا اختلاط وصراع المواقف الحادة، التي نرى الآن امثلتها ونماذجها اللاعقلانية والدموية. الأمر الذي يكشف عن جوهرية الوعي الثقافي العقلاني والعلمي بالنسبة للتراث الثقافي المتبلور ضمن مرجعيات الحضارة الإسلامية.

اضافة لذلك، إن ما يميز تاريخ الإسلام هو فاعلية العنصر السياسي والأخلاقي العملي فيه. وقد بلورت هذه الخصوصية الكثير من مدارسه ومفاهيمه وقيمه الفاعلة لحد الآن في الفكر الاجتماعي والسياسي. فهي الحضارة الوحيدة من بين حضارات الماضي التي تتميز بروح سياسي فاعل ومتوحد بما في ذلك في خلافاتها اللاعقلانية. من هنا يمكننا القول، بأن الصراع السياسي والفكري الكبير والعميق والدامي في مجرى صيرورة الدولة (الخلافة) والثقافة قد صنع سبيكة الموقف السياسي من النفس والحضارة الإسلامية نفسها. كما ان إشكالاتها تثير حمية ومزاج وذوق ووعي "الشعوب الإسلامية" قاطبة. بينما لا نعثر على هذه الحالة المادية والمعنوية في الحضارات الأخرى التي اعتنقت البوذية أو النصرانية، بوصفها اديانا عالمية. وليس في هذا الواقع فضيلة أو رذيلة أو أيما حكم قيمي آخر، بقدر ما انه يشير الى خصوصية الحالة الثقافية التي لازمت نشوء وتكون وتطور وتكامل الحضارة الإسلامية. اذ لا جامع سياسي، على سبيل المثال، في النصرانية لأن وحدتها الأولى صودرت من جانب الكنيسة وليس الدولة. ونفس الشيئ بالنسبة للبوذية. إذ لا نرى اجماعا أو تعاطفا وجدانيا وسياسيا بين الشعوب التي تعتنق البوذية. والسبب يكمن في انعدام تاريخ الوحدة السياسية والثقافية، على خلاف النصرانية والإسلام بشكل خاص. فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ الوحدة. والصراع فيه كان يجري داخل الوحدة الثقافية والروحية والدينية. من هنا بقاء أثر الحضارة الإسلامية وجوهريتها في الوعي التاريخي والثقافي للشعوب التي تعنقه. خصوصا اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان نتاج الحضارة الإسلامية هو ملك الجميع، وأن الجميع شارك بصورة فعالة في ارساء أسسها وبناء خصوصيتها. الامر الذي حدد بدوره اندماج أثرها ومآثرها في الوجدان الشعبي والتاريخي لهذه الشعوب جميعا.

كل ذلك حدد وسيحدد لعقود أو ربما لقرون قادمة قضايا وإشكاليات الجدل حول مضمونها وأهميتها وقيمتها وكيفية فهم ابداعها الذاتي وأثرها في التاريخ العالمي. وهي قضايا وإشكاليات العالم الإسلامي أولا وقبل كل شيء. لكنها في نفس الوقت قضايا واشكاليات الصراع الثقافي العالمي. إضافة إلى تباين الرؤية الثقافية واختلاف مناهجها. من هنا تنوع واختلاف فهم هذه القضايا والإشكاليات، الذي لا يخلو من أثر السياسة والتقاليد الثقافية فيه. وهو اختلاف متنوع وذو آثار مختلفة. من هنا مهمة تأمل هذه القضايا لما لها من أثر كبير بالنسبة لإرساء أسس الرؤية العقلانية والعلمية الثقافية تجاه ما فيها وقيمتها بالنسبة للحاضر والمستقبل.

ففي هذا الكتاب يجري تناول بعض الإشكاليات النموذجية لفكرة وتاريخ الحضارة بشكل عام والإسلامية بشكل خاص، لما لها من أثر مهم بالنسبة لحاضر العالم العربي ومستقبله. ففي الباب الأول (اشكاليات الحضارة الإسلامية) يجري تناول مختلف القضايا مثل قضية (موت الحضارة وبقاء الثقافة) و(تقاليد العقل الثقافي وبدائل الرؤية المستقبلية) و(اللغة ولغة الروح الثقافي) و(وفلسفة الحضارة ووعي الذات الثقافي والقومي) وغيرها من القضايا التي خصصت لها سبع فصول. وفيها حاولت الكشف عن ان اندثار الحضارات السابقة لا يعني موتها، بل ذوبانها في نسق التاريخ الحي لتراث الأمم، أو تظل تسري بطرق وأشكال ومستويات يصعب حصرها، لكنها تبقى تحدد على الأقل نفسية وذهنية أقوامها حتى في تلك الحالات التي يجري نفي بقاياها بمنظومة حضارية جديدة وشاملة. ومن الممكن رؤية ذلك على مثال تراث الرافدين (العراق والشام)، وتراث مصر وفارس واليونان والرومان، أي تلك الحالات التي ميزت تطورها اللاحق بانقطاع كبير عن جذورها الأولية بسبب انتقالها الخاص من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية. ومع ذلك يمكننا أن نلمح ونرى بوضوح بقايا الشخصية العراقية السورية والمصرية والفارسية واليونانية والرومانية في مختلف جوانب الحياة ونمط الذهنية والنفسية الفردية والاجتماعية. ومن ثم أثرها الخاص في تاريخ الثقافة اللاحقة، وفِي الحالة المعنية أثرها في صيرورة وتطور الثقافة الإسلامية في الخلافة، والنصرانية القروسطية في أوربا.

وقد توصلت الثقافة الإسلامية نفسها في مجرى تطورها إلى إدراك هذه الحقيقة، بل وتحويلها إلى فضيلة. بمعنى إدراك خصوصية الأقوام في عالم الإسلام، واعتبار تنوعها رافدا حيويا بالنسبة له، أو ما ندعوه الآن بفضيلة التنوع والتعدد الثقافي. غير أنها اتخذت في عالم الإسلام الثقافي بعدين: الأول ويصب في مسار الوحدة الثقافية الكبرى ويغني مرجعياتها الثقافية المتسامية، أما الثاني فيقوم في إبراز الفضيلة المتراكمة في الشخصية التاريخية والثقافية للأقوام والأمم.

بينما تناولت في الفصل المتعلق بتقاليد العقل الثقافي وبدائل الرؤية المستقبلية الإشكالية الفلسفية المتعلقة بماهية وأثر "العقل الثقافي" في تاريخ الأمم والحضارات. وبرهنت على أن لكل مرحلة تاريخية ثقافية كبرى عقلها الثقافي بحكم هيمنة مرجعياتها الفكرية والروحية الخاصة. فالعقل الثقافي الأوربي القروسطي النصراني يختلف اختلافا كبيرا عن العقل الثقافي الاسلامي رغم إنهما كلاهما نتاج المرحلة الدينية السياسية في التطور التاريخي. وينطبق هذا على كافة المراحل الأخرى وعقولها الثقافية. اذ لا يتشابه العقل الثقافي الأوربي الحديث والعقل الأمريكي والروسي والصيني والهندي، رغم إنهم يمثلون ويتمثلون المرحلة السياسية الاقتصادية في التطور التاريخي، وذلك لأن كل منهم أبدع منظومة مرجعياته الفكرية والروحية الكبرى بما يتناسب ويستجيب لكيفية حل إشكاليات وجودهم التاريخي في الانتقال من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. فالعقل الثقافي هو الصيغة التي تستجيب لمرجعيات الثقافة الكبرى وتبدع بمعاييرها ومقاييسها الموافقة لمرحلة تطورها التاريخي. الأمر الذي يشير إلى أن العقل الثقافي هو عقل تاريخي له حدوده الخاصة، ومن ثم لا يحتوي على صيغة مطلقة أو شاملة إلا لحملته فقط، اي انه لا يحتوي على حقائق مطلقة للجميع. والبعد الوحيد الذي يحتوي على قيمة شبه مطلقة وشاملة في العقل الثقافي للأمم هو العقل المنطقي العلمي بوصفه إبداعا إنسانيا عاما، وذلك لأنه يتمثل حقائق الوجود الإنساني كما هي، على خلاف ما غيره من تأثير جلي أو مستتر للمصالح والأهواء والعادات والتقاليد.

كل ذلك يكشف عن الأثر العميق لتقاليد الماضي الثقافية في بلورة العقل النظري والعملي بما في ذلك في كيفية مواجهة إشكاليات الوجود التاريخي للأمم والبدائل المستقبلية. وعندما ننظر الآن إلى واقع العالم العربي فإننا نقف أمام تشوش هائل في الرؤية والبدائل. والسبب الجوهري لكل ذلك يقوم في أن الذهنية الثقافية بشقيها النظري والعملي لم تنف تقاليد الماضي بالشكل الذي يستجيب لمتطلبات المعاصرة والمستقبل. من هنا ثقل الماضي وتقاليده الميتة وهيمنتها شبه التامة على عقول الخواص والعوام. وهذا بأجمعه النتاج الملازم لكون العالم العربي والإسلامي عموما ما زالا في حالة الانتقال من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. من هنا الأثر الحاسم للأفكار والعقائد القديمة في النظر إلى الحاضر والمستقبل. اذ لا تستطيع أية منظومة فكرية قديمة العمل بمعايير المعاصرة. إن قيمتها الفكرية تكمن فقط في قدرتها على شحذ وتوسيع الرؤية الثقافية للعقل النظري. بينما الإقرار بهذا النمط من التفكير يؤدي بالضرورة إلى تقديس الفكرة وعصمتها، ومن ثم تحجير التفكر وإيقافه عند حدود العتبات المقدسة لتجارب تاريخية عابرة.

من هنا عقم الجدل الفكري والبحث النظري الذي يميز محاولات البحث عن نماذج فضلى في الماضي أو اعادة ترميم بعض جوانبها او "استلهام" ما فيها بما فيها ومن ثم علها نموذجا يتماهى مع الحقيقة والمستقبل، مثل البحث في المعتزلة عن أساس ومصدر للعقلانية العربية الحديثة، أو النظر إلى ابن خلدون كمصدر لفلسفة التاريخ العربية واستنتاجاتها السياسية المختلفة، أو جعل الأشعرية عقيدة الإسلام المثلى، او البحث في الدين الاسلامي ومصادره بما في ذلك القرآن عن صيغة تأويلية "عصرية" وما شابه ذلك. وبالتالي يمكن التوصل إلى استنتاج يقول، بأن أية محاولة تسعى لاستمداد مشاريع المستقبل من الماضي محكوم عليها بالفشل. وذلك لأنها تودي إلى انهماك نظري وعملي فيما لا فائدة فيه. كما انه أسلوب لا يفرّق بين تحويل التراث الفكري القديم إلى عنصر من عناصر وعي الذات الثقافي، وبين جعله مصدرا للبدائل العقلانية الحديثة. فالأول هو جزء من تمثل الماضي، بينما الثاني هو تأسيس للبدائل، والذي لا يمكن بلوغه إلا عبر معاناة حية ومعاصرة في استلهام الرؤية المستقبلية.

وحدد ذلك بدوره مهمة تحليل العلاقة بين انساق اللغة وتطورها الذاتي ولغة الروح الثقافي. وقد تطرقت في الكتاب إلى هذه القضية ضمن إشكالية الزمن والتاريخ، التي تناولت الكثير من جوانبها في كتابي السابق (الزمن والتاريخ- نقد الراديكالية والأوهام "المقدسة") المنشور عن (دار العارف) نفسها. وانطلقت بصدد هذه القضية من الفكرة الفلسفية العامة القائلة، بان الحياة كالتاريخ، كلاهما من جذر واحد ألا وهو الصيرورة المحكومة بالوجود والعدم. أما عدم إدراك هذه الحقيقة أو العجز عن إدراك حقيقتها فانه عادة ما يؤدي إلى البحث عن قوة خارجهما للبرهنة على إنهما مجرد أطراف في معادلة الغيب أو الإرادة الإلهية للقضاء والقدر. ومهما يكن من أمر هذه المعادلة العصية على حدود المنطق وقواعده، إلا أن جذورها عاجزة عن سقي المعرفة العلمية كما هي، من هنا رجوعها، حالما تصطدم بقضية يصعب إدراكها بمعايير التاريخ الثقافي، إلى ما قبل بداية الإدراك العلمي لوجود الأشياء والظواهر، اي إلى عالم الأسطورة والخرافة. فالتاريخ هو ليس سريان الزمن في وجود الأشياء، بل هو إبداع المنظومات العقلانية وتنشيطها الدائم في ترتيب وتنظيم وتحسين الوجود الإنساني على مستوى الدولة والمجتمع والجماعة والأفراد. وهو بهذا المعنى ملازم لوجود الأمم الكبرى، تماما كما أن الحضارات الكبرى لا تصنعها إلا أمم ثقافية كبرى. وليس مصادفة ان تبقى فقط الحضارات التي مازالت أبجديتها اللغوية والثقافية سارية المفعول، بينما اندثر الآخر أو انحصر ضمن حدود ضيقة قومية أو دينية.

إن علاقة اللغة، بوصفها أداة منطقية ووجدانية، بالروح الثقافي هي علاقة صميمية. والتفريق بينهما أو عزلهما يؤدي الى اغتراب شامل وغبي وموت بطيء للعقل والوجدان. وليس مصادفة ان تصبح الثقافة العربية المعاصرة مقبرة تتجول فيها أشباح الثقافة الأوربية وترقص على عظام وحطام إرث هائل لم يدركوا من قيمته الثقافية شيئا، وذلك بسبب كمية ونوعية الاستلاب الثقافي الهائل والذي افرغ شخصياتهم من كل شيء باستثناء الإثارة والاستثارة المميزة لمن دعتهم الثقافة الإسلامية فيما مضى بأهل الرسوم من العلوم، اي ما يعادل الآن معنى أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين. وهي حالة مخزية ومأساوية بقدر واحد وذلك لما فيها من غرابة تقوم في أن النقاد هم أصل البلية في التقليد!!

ثم جرى تناول الأساليب والمدارس الكبرى والمناهج المتنوعة والمختلفة فيما بينها بصدد ماهية الحضارة الإسلامية وحقيقتها وقيمتها وأثرها في الحاضر وأهميتها بالنسبة للمعاصرة والمستقبل. حيث جرى تناول نماذج أساسية عامة من مختلف المدارس والمناهج الاستشراقية القديمة والحديثة، وكذلك مختلف الشخصيات الفكرية الإسلامية الحديثة والمعاصرة بتياراتها المتنوعة.

ان الحصيلة العامة التي توصلت اليها بأثر هذه "التأملات الفكرية" والتي تجمع بين الدراسة والتحليل والنقد إلى أن للحضارة الإسلامية أثرها الوجودي في الكينونة الثقافية للعالم العربي والإسلامي. وسوف تبقى مأثرتها التاريخية أحد المصادر الجوهرية في البحث عن البدائل الفعلية للتطور التاريخي للعالم العربي. بمعنى قيمتها وأهميتها وفاعليتها في تمتين وعي الذات التاريخي والثقافي والقومي، وكذلك مّده بالطاقة الثقافية العقلية والوجدانية. وهنا تكمن حدود وظيفتها التاريخية المعاصرة.

فالحضارة الإسلامية من حيث مفاصلها وعناصرها وشخصياتها ومنظوماتها في مختلف الميادين بما في ذلك تأسيس وتفعيل مرجعياتها الثقافية الكبرى أو منظومات مبادئها المتسامية هي النتيجة المترتبة على تجربتها التاريخية في المرحلة الدينية السياسية. بينما يفترض قانون التطور التاريخي تذليل وتجاوز مرجعيات الماضي وأصولها الفكرية بأنماط أخرى تستجيب للمرحلة الجديدة في التطور التاريخي الثقافي المعاصر.

اضافة لذلك، إن ما يميز المرحلة المعاصرة الحديثة في التطور التاريخي العالمي هو اضمحلال وتلاشي الفكرة الحضارية نفسها. بمعنى، أن العالم المعاصر لا يمكنه بناء "حضارة خاصة". إن الشيء الوحيد الذي يمكن للعقل المعاصر تأمله والتخطيط له محكوم بمنطق البدائل العلمية والتكنولوجية. وبالتالي، فإن "العقل الثقافي" للأمم الحديثة التي ولدت من رحم أو أرحام الحضارات الكونية السابقة، بما في ذلك الإسلامية، يقف أمام مهمة التخطيط الذاتي بالنسبة لرؤية الإمكانيات الواقعية الذاتية والعمل من خلالها وعبرها لتجاوز المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. وفي هذه العملية تضمحل فكرة البديل الحضاري وتتحول إلى فكرة الصيرورة الثقافية الحديثة والمستقبلية.

لقد تلاشت فكرة الحضارة وبدائلها، ولم يبق منها غير زمن الأسلاف الذي يمكن دمجه وتذويبه في التاريخ المستقبلي. وذلك لأن الحضارة تنتهي بانتهاء المرحلة الدينية السياسية. ومن ثم لا يمكن نشوء حضارات جديدة بالمعنى السابق والتقليدي للكلمة. فعندما نتأمل التاريخ الفعلي لنشوء وتطور الحضارات القديمة، فإننا نقف أمام حقيقة تقول، بأن هناك مرحلتان في التاريخ البشري يمكن ان تنشأ فيهما الحضارة وهي المرحلة الثقافية الدينية والمرحلة الدينية السياسية. ففي الاولى تهيمن فكرة التنوع المحكوم بالمركز السياسي والثقافي، بينما تهيمن في الثانية فكرة المركز الجامع والمانع لغيره في كل شيء. اما المرحلة السياسية الاقتصادية فأنها تفكك مرجعيات الانعزال والإبداع المنفرد. وبالتالي انتقال التاريخ من المرحلة الطبيعية إلى الماوراطبيعية. وهنا يبدأ ما أدعوه بتاريخ الاحتمال العقلاني للبدائل. وهي متنوعة وهائلة، لكنها محكومة بالوحدة النشطة والتأثير المتبادل بين ما ادعوه بقانون التاريخ ومنطق الثقافة القومية.

***  ***  ***

 

في المثقف اليوم