قراءة في كتاب

أزمة كتاب "أزمة التنوير العراقي".. تحليل ونقد (1)

651 فلاح رحيمصدر مؤخراً كتاب "أزمة التنوير العراقي" لمؤلفه فلاح رحيم عن سلسلة دراسات فكرية/ جامعة الكوفة 2018.

استخدم فلاح رحيم مفهوم "التنوير العراقي" واستخدم كذلك "مفهوم التنوير العربي" في هذا الكتاب.

ما هو تعريف التنويرعند فلاح رحيم؟، هل نستطيع القول أن كل من ترجم وألَف كتاباً في الفلسفة والفكر والثقافة هو تنويري؟ أو ربما هؤلاء ضد التنوير، وهُم من كانوا السبب في وجود "الفجوة" بينهم كمثقفين وبين المُجتمع.

أين يقع نتاج العراقيين من كبار المفكرين في الفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى من الذين تبنوا الرؤية العقلانية فيها مثل: علي الوردي وحاتم الكعبي وشاكر مصطفى سليم وعبدالجليل الطاهر في علم الاجتماع والأنثربولوجيا، وياسين خليل وحسام محي الدين الآلوسي ومدني صالح وعرفان عبدالحميد في الفلسفة وغيرهم؟، فلا وجود لترسيمة تُعطينا تصوراً لماهية هذا التنوير العراقي، كأن تكون مدخلاً للكتاب، مثلاً، فهل مثل هؤلاء المفكرين خارج دائرة التنوير هذه التي رسمها لنا فلاح رحيم؟!.

وهل هناك تنوير عراقي؟ حتى نتفق مع فلاح رحيم على أن هذا التنوير قد مرَ بأزمة؟، أعتقد أن مثل هكذا تساؤلات هي تساؤلات مهمة كان ينبغي على الكاتب وضعها في حساباته قبل نشره لهذا الكتاب.

هذا إذا كان هناك قبول للقول بوجود تنوير عربي أصلاً مُتفق عليه بين الدارسين، وإن يكن فلاح رحيم قد استخدم هذا المفهوم على استحياء في صفحتين بالإشارة لجهود عبدالرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وعبدالله العروي، وأدونيس، (ص15)!، ولكن الغالب على هذه المشاريع أنها جاءة قراءة على غرار "أنموذج" بمعنى أنها استنساخ لأنموذج فكري (فلسفي، أو أيديولوجي) غربي، وتحشيته بتطبيقات منتقاة من التراث العربي والإسلامي، ربما أستثني من النماذج التي أشار لها مشروع أدونيس النقدي. ومع ذلك لم يُعط مساحة من كتابته لدراسة هذه النماذج أو غيرها، من التي يُمكن أن توضع تحت عنوان "التنوير العربي".

فضلاً عن ذلك لم يُبين لنا، ما هي المنهجية التي اعتمدها في اختياره لهذه لشخصيات دون غيرها؟ وهل هناك رابط على مستوى الاشتغال الثقافي (الفكري) من حيث التماثل بينها، مثلاً، أو الاختلاف في معالجة موضوعات بعينها هي محط اشتغال لهذه النخبة من المثقفين؟ وهل هُم أنموذجه لوجود "الفجوة" بين المُثقفين والمُجتمع؟. وسأبقى أصر على تساؤلي لاختياره غير المُبرر لنماذجه دون غيرهم في متن الكتاب.

لماذا جعل من الانتقاء سبيلاً لتأليفه لهذا الكتاب؟.

ولماذا اقتصر جهده البحثي على نماذجه الأساسية ممن تجمعهم به صداقة أوعلاقة طيبة، مثل: الأستاذ سعيد الغانمي، ود.حسن ناظم، ود.علي حاكم، ود.عبدالجبار الرفاعي؟!. ربما لمعرفته الوثيقة بهم، وتواصله المعرفي والإنساني المستمر معهم، ولكن هذا مُبرر لا يليق بنهج كاتب يرنو للموضوعية في معالجة موضوع خطير مثل التنوير!.

 هذه أسئلة تُثار عند قارئ الكتاب، أو دارت في ذهني أنا حينما قرأت الكتاب، ولم أجد إجابة كافية عنها.

فلا يعني التنوير فقط مُمارسة البعض لفعل الكتابة الحُر، وإن كانت هذه من مُتطلبات السعي لايقاد شُعلة التنوير، ولا يعني التنوير تبني النزعة النقدية في الكتابة، وإن كان النقد أيضاً من مُتطلبات التنوير ولكن التنوير كما فهمناه، هو نتاج حركة عقلانية حُرَة ظهرت في الغرب على جميع الصُعد وأولها الفلسفة والعلوم الإنسانية، وهي لم تكن فعل كتابة ونشر لمقالات وبحوث وكتب وترجمات فقط، إنما هي حركة تأثير وتغيير في نمط التفكير السائد واحداث قطيعة "أبستيمولوجية" معه، فلم يكن تأثير كانت أو فولتير أو مونتسكيو أو ديدرو مُقتصراً على فعل الكتابة، إنما كان التنوير عندهم فعل كتابة وتغيير لنمط التلقي المعرفي في "الما قبل والما بعد"، بل وفعل تأثير اجتماعي وتقويض لسلطة معرفية قائمة على الهيمنة الدينية والعقائدية "الدوغمائية" وردمها، وإعادة ترميم الذات الإنسانية بعيداً عن هيمنة العقل الديني السحري، وبناء قناعة فكرية ومعرفية جديدة قائمة على الثقة بقدرة العقل الإنساني على إحداث تغيير نوعي في تعاطيه مع الطبيعة والسيطرة عليها بعبارة (بيكون) بعيداً عن هيمنة الخطاب اللاهوتي الميتافيزيقي.

تعامل فلاح رحيم مثلما يقول مع مفهوم التنوير في الفكر العراقي وفق منهج انتقائي، و"انتقاء مفكرين عراقيين معاصرين أربعة واجهوا ميراث التنوير المتأزم في بلادهم وثقافتهم وتصدوا بصدق لحل مشكلة الفجوة التنويرية وما ترتب عليها من تعسف أيديولوجي واستبداد دموي وخسارات كبيرة على مستوى الفرد والمجتمع" (ص18)، ولا أعرف ما هي مُحددات التنوير التي استند عليها الكاتب؟ حتى نقول أن هؤلاء الكُتاب "واجهوا ميراث التنوير المُتأزم"، وهو عند دراسته لهم يضعهم ضمن هذا الميراث المتأزم لا ممن تصدوا له، أقصد على مُستوى تشريحه لنصوصهم، لا على مُستوى موقفهم من نقد سلطة الاستبداد، فأنا لا أنفي عن هذه النماذج الأربعة صفة المشاركة في تنمية الوعي الثقافي في المشهدية الثقافية والفكرية العراقية، بل وحتى العربية عند البعض منهم، وهم جميعاً من المقربين ليَ وأستطيع أن أقول عنهم أنهم كتاب معروفون: سعيد الغانمي، ود.حسن ناظم، ود.علي حاكم، وعبدالجبار الرفاعي، وإن أنعمت النظر تجد أن الغالب على نشاطهم الثقافي هو الجهد الترجمي، وهم كبار فيما قدموه لنا من ترجمات مهمة في الفلسفة، وأستثني الرفاعي في كتاباته المتأخرة الفكرية منها أو ما يصب في مجال "علم الكلام الجديد" أو"تجديد علم الكلام"، الذي يقترب ويبتعد عن فهمنا للتنوير بوصفه إعمالاً للعقل، وتنصيبه بوصفه الحاكم والقادر على اجتراح قوانين ودستور إدارة الحياة الوضعية، أما جهدهم البحثي فهم يُشاركون فيه كثير من مُجايليهم والذين سبقوهم من المُهتمين بالشأن الفلسفي والفكري.

عرفت سعيد الغانمي مُترجماً وكاتباً شغوفاً بالقصة والرواية والشعر والنقد ودراسة الأسطورة وترجمة ما هو جميل من قصص بورخيس، فضلاً عن ترجماته في مجال الفلسفة والنقد الأدبي وتحقيق التراث، واهتمامه بفكر وفلسفة أبو الحسن العامري.

أما د.حسن ناظم، فهو ناقد أدبي وأكاديمي ومُترجم اختارته الغربة بعيداً عن الوطن، ثم عاد ليعمل أستاذاً جامعياً في جامعة الكوفة. والحال ذاته ينطبق على الغانمي، ود.علي حاكم، والرفاعي، لكنها غربة تروم إعادة ترميم الذات عبر الوعي بالآخر، عربي كان أم غربي، فجميع هؤلاء هاموا في فيافي الأرض بحثاً عن الذات، لا ذاتهم هم، بل عن وطن شكل هويتهم وذاتهم التي عشقت ترانيم وطن وترسيمات مُخيلة مُحملة بعبق التاريخ وفعل المحبة الراكس في طيَات عقولهم النابضة في الاعتراض على كل تاريخ السياسة الرعناء التي حكمت بلاد الرافدين.

أما الرفاعي الذي عشق وهام في سردية "الإسلام هو الحل" في بداياته، فقد تنبه وعاد لذاته الإنسانية، مُتماهياً مع بعض آراء "علي شريعتي" في "العودة إلى الذات" ولكن بعد نقد له وتخليص لرؤاه من نزوعها "الراديكالي" ودمجها بروح صوفية مُستوحياً من ابن عربي رؤاه في "دين الحب"، والرومي ب "دين العشق"، مُقترباً بآرائه من أطروحات سروش وملكيان وشبستري.

يقول المؤلف أن الكتاب يُحدد "الخطط السردية في كتابة تاريخ العراق الحديث"، وهي جملة جميلة فيها من الحقيقة بقدر ما فيها من الإيهام، فلم ينظر فلاح رحيم لعلي الوردي عالم الاجتماع العراقي، إلَا عبر كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" أي بصفته مؤرخاً، وهذا الأمر يشمل حنا بطاطو المؤرخ الفلسطيني الذي كتب عن التاريخ الاجتماعي في العراق بموسوعته "العراق" التي ترجمها عفيف الرزاز بثلاثة أجزاء، والغريب أنه جعل فالح عبدالجبار عالم الاجتماع العراقي الذي نشر مؤلفات عدة عن تاريخ العراق الجتماعي، وعباس كاظم الباحث في السياسة الدولية بجامعة "هوبكنز" االعراقي الذي نشر كتاباً عن ثورة العشرين في العراق، بوصفهما مؤرخيَن لتاريخ العراق الحديث، ولم تكن مساحة الوجود لهؤلاء الكُتَاب إلَا بالقدر الذي يروم به فلاح رحيم تصنيف المؤرخين لتاريخ العراق الحديث إلى صنفين: صنف يرى أن عُمر العراق يمتد إلى 6000 سنة، وصنف آخر لا يرى في العراق إلَا دولة حديثة العهد تأسست في عام 1920 بعد الاحتلال البريطاني، ويرى في هؤلاء المؤرخين أنهم من حددوا "خطط السردية في كتابة تاريخ العراق الحديث"، (ص75ـ 110) ولم يُشر لمؤرخين مُهمين من أمثال: عباس العزاوي وكتابه تاريخ العراق بين احتلالين بستة أجزاء، وعبدالرزاق الحسني في كتابه (تاريخ العراق السياسي الحديث) أو رسائل ميس بيل، وكتاب عبدالجليل الطاهر: العشائر والسياسة، أ لم تكن هذه الكتب وغيرها قد شاركت في رسم "الخطط السردية في كتابة تاريخ العراق الحديث"؟، فلماذا تجاوزها فلاح رحيم؟.

ركز فلاح رحيم في كتابه على العلاقة بين "المثقف والسلطة والمجتمع"، لم يخلو الكتاب من نقد لنماذجه.

يستخدم فلاح رحيم مصطلح "المثقف المتدين" (ص30) ولا أعرف بأي مقدار يُمكن أن يتلاقى هذا المُصطلح مع ما هو شائع عن مفوم المُثقف، وهل بمستطاعنا أن نُطلق صفة المثقف على الأيديولوجي والعقائدي والمُتدين؟، فذلك مما حار به المفكرون، ولنا في الوردي مثالاً في استخدامه لمفهوم المثقف، الذي لا يجد مُسوغاً لربطه مع مفهوم "المُتفقه" في العلوم الدينية، ولا مع المتعلم للعلوم العملية والعلمية.

ولكن لفلاح رحيم في أطروحات غرامشي حول "المثقف العضوي" بوصفه هو العقل النابض داخل الجماعة التي ينتمي إليها عذر في استخدام مفهوم "المُثقف المُتدين" فهناك كثير من رجال الدين هم عقل نابض داخل الجماعة التي ينتمون إليها، فهم بهذا الوصف "مُثقفون عضويون".

قدم لنا فلاح رحيم مدخلاً مميزاً لشرح علاقة المثقف بالسلطة عبر تناوله لمجموعة من آراء المفكرين مثل ماثيو أرلوند (1822ـ 1888) ونقده للطبقة الوسطى في كتابه "الثقافة والفوضى (1869)" التي وجدها مُنغمسة في الثقافة الاستهلاكية الضيقة" (ص33) ودعوته لها للتشبع بالثقافة الكلاسيكية كي يستطيعوا الارتقاء بوعي المجتمع، والتخلص من "فخ الأيديولوجيات وضيق الأفق السجالي" وتغليب المصلحة الإنسانية على المصلحة الفردية. وإلى ذلك ذهب فلاح رحيم في توصيفه لموقف هابرماس (1929ـ ) الذي "ينتهي إلى مثالية فلسفية تدمج بين الوعي الفردي بوعي إنساني شامل مُشترك يكون مطمح التواصل في المجال العام ويكمن قاراً في مُحيط يقع خارج المُحيطين الاقتصادي والحكومي" (ص35).

مع الفلسفة الماركسية وجد فلاح رحيم أن مفهوم "النخبة الثقافية" صار أكثر حضوراً، لأنها هي التي بمقدورها احداث "الانعطافة الثورية" (ص38)، وقد ظهر ذلك جلياً في كتاب "جورج لوكاتش 1885ـ 1971) "التاريخ والوعي الطبقي"، وغرامشي (1891ـ 1937) الذي ركز على دور "النخبة الثورية" من المثقفين المُنخرطين في التنظيم الحزبي، قادرة على التأثير في الجماهير، أو هم "المثقفون العضويون" الملتحمين بالجماهير من الطبقة العمالية، العارفين بمقدار الانتاج وفائض القيمة، ولكنهم حسب رؤية الماركسية البلشفية صارت "الإنتلجسيا" تميل للحفاظ على مصالحها الخاصة، الأمر الذي جعلها طبقة مستقلة مُنفصلة عن طموحات طبقة "البروليتاريا".

في تيار ما بعد الحداثة يتحدث فلاح رحيم عن رؤية "إدوارد سعيد 1935ـ 2003" لمفهوم المثقف، الذي شبهه بالبدوي المُرتحل عن المجتمع، وليس شرطاً أن يكون مُرتحلاً في المكان، بل هو يقطن المكان، وفي الوقت ذاته هو "خارج المكان" "إنه منفي يُقيم في لا مكان اليوتوبيا" (ص43) وهذا أمر يحمل في طياته "خيانة المثقف"، والخيانة تظهر حينما يجعل المثقف من نفسه ناطقاً أو ممثلاً لآمال وطموحات الجماهير، الأمر الذي يجعل الخطاب خليطاً بين الخاص والعام، بمعنى أن المثقف هنا من الممكن أن يجعل من مُتطلباته الخاصة تبدو وكأنها هي ذات مطالب عامة الناس، حينذاك يكون خطاب المثقفين خيانة، من خلالها يستحوذون على أصوات الجماهير وقوتهم.

في الفكر العربي تعامل المثقف مع الجماهير على أنها جموع من الحشد تفتقد للوعي، ودور المثقف هو "غرس ما يشاء" ولا يُنتظر منه كشفاً جديداً، فالمفكرون الإسلاميون وجدوا في ميل الجمهور إليهم فرصة تاريخية تقترب من إقامة الدولة الإسلامية، وبدلاً من تركيزهم على مطال الجمهور الدنيوية بوصفها محك الولاء، صيروا ولاء الناس هذا على أنه رغبة في تأمين خلاص آخر قادم من الآخرة (ص57). المثقفون العلمانيون من جهتهم خابت آمالهم بالجماهير وتأكدت في نفوسهم أن هذه الحشود تُصفق لكل مُستبد قوي قاهر، ومنذ إفلاطون إلى مُنتصف القرن التاسع عشر كانت النظرة الفكرية السائدة تُناصب العداء للفكر الديموقراطي وتصفه بأنه حكم الغوغاء، سوى بعض استثناءات بسيطة وجدناها في فكر السوفسطائيين، الذين هم أقرب معرفياً في الدفاع عن الحكم الديموقراطي، الذي يؤمن أصحابه بنسبية المعرفة الإنسانية.

إن إخفاق المثقف في ضبط الفجوة الفاصلة بينه وبين الناس وهمومهم يُهدده باتخاذ مواقف خطرة ومُضللة سياسياً ولا أخلاقي إنسانياً كما يذهب إلى ذلك "بتلر ييتس 1865ـ 1939" (ص67).

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم