قراءة في كتاب

غواية القراءة وهمَ الاستفاقة

666 غوايات القراءةسأل أخي د. سعيد المرهج بعض من أخوتي الذين يحارون بنقل كُتبه من مكان إلى آخر لأنه كان كثير التنقل في السكن لملل أحاق بهم لا بسبب نقل آثاث البيت، إنما بسبب نقل الكتب لكثرتها، هل قرأت كُل هذه الكُتب؟ فأجاب: أخواني: "ترى واهسي بالكتب واهس مطيرجي يحب الطيور، هسه مو شرط كلها يطيرها، ولا شرط يوميه يتأمل بكل طيوره ويفحصها واحد واحد"..وأكمل كما ذكر علي حسين في كتابه "غوايات القراءة" على لسان (جبرا ابراهيم جبرا) "لم أقرأها كُلها إنما اطلعت عليه".

أغنية الدلوعة (صباح) شمس الغنية وهي بالأصل مثل مصري شائع يقول "الغاوي ينقط بطاقيته، الغاوي، تسلملي عينو وعافيتو الغاوي".

وعلي حسين غاوٍ للفكر والثقافة، وهو يُخرج من جعبته بحسب مكنته المعرفية ما لا يبخل به على جعل القراءة عُرساً ثقافياً.

استغرقت الكُتب جُلَ حياة علي حسين، ومن يعرفه عن قُرب يعرف صدق هذه العبارة، تمنحه القراءة القُدرة على رؤية العالم رؤية أكثر عُمقاً وتجدداً ودرايةً.

القراءة مكمن المعرفة، فلا قُدرة على الفهم من دون تمكن ومواصلة على القراءة، ولا وجود لـ "لغة تعبيرية" تختزل القول عن الحال والمآل خارج تأمل العالم عبر اللغة المُحتواة في القراءة.

لا يستطيع علي حسين وأمثاله تصور العالم بلا كُتب، مثلما لا يستطيع غيره تصور العالم من دون العيش وسط هوايته أو غوايته.

القراءة لذَة واستراق للمعرفة، فأنت لا تُنتج لُغتك الخاصة إن كُنت شاعراً أو سارداً أو ناقداً أو مُفكراً إذا لم تستمر بالقراءة، وليست القراءة في مسك كتاب ومحاولة استكمال قراءته من أجل أن نقول أننا نقرأ، إنما القراءة هي هضم لرؤى الكُتَاب الكبار واعادة صبها بلغة يصهرها القارئ المُميز أو الـ (super Reader) بلغة آيزر.

الكُتب تجارب وحياة تُعاش مرة في عوالم القراءة، وأخرى في عوالم التجربة والحياة.

رغم أن القراءة عند علي حسين غواية أو مُتعة إلَا أنه لا تقف عند هذه الحدود، بل تقفز عليها لتُحيل المقروء إلى نص آخر من نتاج قارئه.

في القراءة إنقاذ للعقل من الركود والوقوع رهينة لهيمنة العقل السحري والغيبي والنزعة الاتباعية.

في القراءة اختيار لمن تبتغي الحوار معهم، وعقدٌ لصداقات مجانية مع المفكرين والمُبدعين،ولك أن تختار أميَزهم حسب ذائقتك لتعيش معهم مُحاوراً لهم تشعر بنبض تحولاتهم المعرفية والثقافي وحتى الحياتية.

في القراءة تختار أن تُصادق الكبار وتنهل من معارفهم.

من خلال القراءة تعرف الكيفية التي تُخاطب بها خصومك وأصحابك، فلك أن تغرف من فضاءات المعنى المُتاحة فيها المفردات التي تُمكنك من الاطاحة بالخصوم، وكسب الأصحاب عبر فيوضات اللغة ومفاهيمها المُكتزة تعبيراً نقدياً لا فضاضة فيه بقدر ما فيه من تعجيز لخصومك لعقم ما هُم فيه من جدبَ ثقافي، وكسب أنسني لمن هُم لفضاء محبتك وتعابيرك اللغوية يعشقون. إن "القراءة الذكية تُنقذ الإنسان من كُل شيء، حتى من نفسه" كما يقول (دانيال بيناك)، وتُكسبه أصحاباً يهيمون في بيان ألفاظ الكاتب ووقدرته على بناء الأفكار والمعاني.

لا تستطيع وإن كُنت قارئاً حصيفاً أن تلم بكل ما يُتيح لك علي حسين من فضاءات الحوار مع الكُتاب والمُفكرين الكبار.

علي حسين شغوف كما هو حال (فوكو) بتقديم الفكر والفلسفة للقارئ بكتاب "يحمل الكثير من المُتعة والتشويق".

الكُتب حدائق غنَاء تُقدم لك ما لا تجده في الواقع، فكل كاتب كبير يصنع حديقته ويُنسق أزهارها بذكاء يُحيلك لهندسة بساتين الورد الهولندية أو اليابانية أو اختر ما تشاء من جمال ما يصنعه مهندسوا الحدائق في الزمن الجميل، وكما قال الإمام علي (ع)"الكُتب بساتين العُلماء".

النصوص العظيمة المقروءة هي فضاءات للمعرفة والتماعات أناس خبروا الحياة فصاغوها قلائداً تُزين صدور القارئين في باطنها وما يخرج من دررالكلام على شفاهها. "مهمتي أن أستعين بقوة الكلمة لكي أجعلك تسمع، وأن أجعلك تشعر، وقبل ذلك أجعلك ترى"، تلك هي عبارة (جوزيف كونراد) ليضع القارئ أمام الكاتب بوصف الكتابة مسؤولية على الكاتب الألمعي أن يُصيغها كما الصائغ الماهر الذي يُجيد صياغة الحُلي من الذهب والماس أو الأحجار الكريمة، والمفردات منثورة في المعاجم والقواميس وفي تداولنا الشفاهي العام، ولكن آتني بمن يستطيع أن يصنع من هذه المُفردات جُملاً تسكن المُخيلة وتخترق الزمن لتعيش خالدة...إنهم هؤلاء الكُتاب الكبار الذين يصنعون من المُفردات اللغوية جُملاً بهيةً كعقود اللؤلؤ أو الماس، لتعلم منهم كيف يُمكن لنا مُجاهدة النفس والتصارع مع اللغة لعلنا نستطيع نظمها، وإن تمكنا من صناعة عقد من اللغة بهي إن كان بلغة شعرية جمالية أو بلغة استدلالية فلسفية برهانية فذلك هو الفوز العظيم!.

"إذا الكتاب الذي نقرأه لا يُوقظنا بضربة على الرأس، فلماذا نقرأه إذاً، فالكُتب التي تجعلنا سُعداء هي نوع من الخديعة" كما يقول (فرانز كافكا)، فـ "كُل الكُتب تتحدث، لكن الكتاب الجيد هو الذي يُصغي أيضاً" بعبارة (مارك هودن)، فصحيح أن مهمة الكاتب الانتاج النصيَ الابداعي، ولكنها لا تكتمل إلَا بوجود قارئ غاوٍ يُجيد الكاتب الحيَ سماع صوته وحواريته في القبول أو الرفض، فالقراءة مشروع كتابة لم يكتمل بعد، واستكماله ما سيتركه هذا المشروع من أثر في نفوس وعقول القُرَاء.

"معرفة القراءة هي أفضل شيء حدث ليَ" هكذا يقول (ماريو فارغاس بوسا)، وهذه جُملة في غاية الاكتناز، فلا يقصد (بوسا) تعلمنا للقراءة، إنما الذي يقصده من قوله هذا هو قُدرتنا على اختيار ما نقرأ، وتحديد المجال الذي نستطيع أن نفهم به ما نقرأ، فليس المهم أن تقرأ، إنما المهم هو أن تعرف ماذا تقرأ؟ وكيف تقرأ، ولماذا تقرأ؟.

هناك من يقول أنني أقرأ من أجل القراءة، ولكن هذا ليس صحيحاً بالمرة، فالمكتوب ملايين والمهم آلافاً مؤلفة منه، فعليك أن تُحسن الاختيار لما يهمك من عوالم القراءة كما الرياضي، فهو يعرف بالتأكيد أنواع الرياضيات، وينهل من تنوعاتها بحسب الحاجة، ولكنه يختار مجالاً له كي يكون أكثر اتقاناً له وحرفية به ودراية، وهكذا هي القراءة، وبغيرها ستشعر أنك تائه تشعر بالضياع إن لم تصل إلى درك أحط ألا وهو الجنون، فليس الهمَ الأقصى هو أن تقرأ، إنما الهمَ الأقصى أنك تعرف ماذا تقرأ ولماذا تقرأ.

القارئ القارئ يعيش أكثر من حياة، فمع كل كتاب جديد لكاتب جديد عبقري يعيش حياة جديدة، أما الذي لا يقرأ فلا يعيش حتى حياته الخاصة. القراءة تمنحك الأمل وتُشعرك بأن ستعيش حياةً بهيةً أبديةً. ولا تظننَ أن البهاء في السعادة من دون معرفة، فلربما هُناك بهاء في المعرفة يُشعرك بقيمة الحياة وبيقيمتك في هذا الوجود فيه لذة ولكنها لذة لا يُفارقها الألم، فلا أشعر بالوجود الحقيقي فقط في "تحصيل السعادة" بعبارة الفارابي، وإن كانت هذه من المُتمنى، ولكن لذة الألم فيها شعور بالوجد أمضى أثر وأبقى. وفي القراءة ستختلط عليك وفيك المشاعر بين اللذة بوصفها بهجة ووجود وإنوجاد وبين "الألم" من كثر ما ينقلك الكاتب الكبير لعوالمه بما فيها الاحساس بالإلم، وهو كينونة وجودية وانتاج لمعنى آخر تشعر فيه بوجودك المُغاير، لأن القراءة تُوفر للعقل مواد المعرفة، ولكن التفكير هو الذي سيجعل ما نقرأه خاصاً بنا" كما يقول (جون لوك).

إن القراءة لمن يفقه أهميتها تُمكننا من الدفاع عن أنفسنا والمحافظة على وجودنا المؤنسن من "الزوال والنسيان".

ليست كُل الكُتب تستحق القراءة، لذلك فالقراءة ليست فقط غواية من أجل الغواية، إنما هي غواية تحتاج لـ "حرفنة" وإن لم تكن لديك دراية بعوالم القراءة، فعليك أن تُحدد مجال غوايتك أولاً، ولا بأس أن تُصاحب من هو مُحترف بهذه الغواية في المجال الذي أنت تعشقه ليدلك بالحوار على ما لم تكن لك معرفة به من كتابات تكتنز المعرفة وتُبحر بك بسفينة الأفكار ربانها الغاوي من أمثال علي حسين.

القراءة الواعية ضربَ من ضروب السعي الجاد للحُرية، "فالذين يقرؤون فقط هُم الأحرار، لأن القراءة هي التي تُعلمنا كيف يُمكن لنا أن نطرد الجهل والخُرافة" كما يرى (توماس جيفرسن).

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم