قراءة في كتاب

أزمة كتاب "أزمة التنوير العراقي" (2)

علي المرهجخصص فلاح رحيم الفصل من كتابه عن سعيد الغانمي بوصفه أنموذجاً لحل مشكلة أزمة التنوير، أو أن ما كتبه الغانمي يُعد بمثابة خلق "فجوةً ثقافيةً" بين المثقف والجمهور!، ورغم أهمية ما كتبه وترجمه سعيد الغانمي ونيله لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2017 عن كتابه "فاعلية الخيال" إلَا أنه لا ينظوي ضمن إطار حركة التنوير إن كانت موجودة في العراق، لأن حركة التنوير هي من نتاج مرحلة الحداثة التي روَجت لقيمة العقل الإنساني في اجتراح قيَم الحياة بعيداً عن هيمنة الميثولوجيا، وسعيد الغانمي يُدافع عن الميثولوجيا ويدعو إلى ضرورة تخليصها من هيمنة التاريخي والواقعي العقلاني سواء في كتابه "خزانة الحكايات" أو في كتابه "الكنز والتأويل" أو كتاب "ينابيع اللغة الأولى"، بل يسعى إلى "الكشف عن الخفي اللاتاريخي اللازماني المطمور في كتابات الأولين من معان" (ص134) ولا أعرف بأي معنى يكون الغانمي قد "واجه ميراث التنوير المأزوم"!!، الذي وصفه فلاح رحيم على أنه مرتبط بالسياق الأوربي لظهوره. ويبقى السؤال هو هل يكون التنوير تنويراً حينما يغيب تأثيره في حركية ودينامكية الواقع المتغير لحياة المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب؟!، فخُذ (كانت) مثال التنوير لتجد المفارقة، ولك في فولتير ومنتسكيو وديدرو وجان جاك روسو مثالاً يُحتذى في فهم المفكر لديناميكية الواقع وصياغته للنظرية بما يجعلها فاعلة ومؤثرة في إحداث النُقلة الحضارية والفكرية وتغيير نمط الوعي السائد، فما هو تأثير كتابات الغانمي لا أقول في المجتمع، بل في الوسط الثقافي الذي هو جزء منه؟!. وأنا هنا لا أقلل من أهمية نتاج الغانمي الثقافي، ولكن تأثير هذا النتاج يبقى محدوداً أو محصوراً في أطر ثقافية ضيقة تكاد تقتصر على النُخبة المُهتمة التي تشتغل بمنطقة قريبة من اهتمامات الغانمي. وإن كان فلاح رحيم قد تناول الغانمي بوصفه مثالاً للمثقف الذي بقي نُخبوياً يعيش الفجوة بينه وبين المُجتمع، فذلك مما لا أظنه ينطبق على كتابات الغانمي التي في أغلبها تُحاكي المجتمع في تنوع تمظهراته العقلانية واللاعقلانية، فهو ينهل من الأسطورة ومن غرائبية وسحرية بورخيس أنوذجه الأنسني الذي يخترق أفق التنوير الحداثي بمنطقه العقلاني الصارم، بل حتى في ترجماته إنما ينهل من فضاء التأويل بوصفه إثراء للمعنى وخروج عن ضبط المنطق العقلاني بطابعه الأرسطي القياس أو بطابعه الاستنباطي الرياضي عند فلاسفة المدرسة العقلية، ليلجأ لترجمة بعض من مؤلفات بول ريكور "الزمان والسرد" وبواعث الإيمان" لبول تيليش، بل وحتى حينما ذهب لترجمة بعض نتاج الفلسفة الكانتية، نجده يذهب لترجمة كتاب "نقد ملكة الحُكم"، وهو كتاب في فلسفة القيم، ومن ثم ترجم كتاب أرنست كاسيرر "اللغة والأسطورة"، وجُلَ هذه الكتابات، إن لم تكن جميعها، إنما هي سعي من سعيد الغانمي لردم أو سد "الفجوة الثقافية" بين ما هو نُخبوي وبين ما هو اجتماعي شعبي سائد.

بعد كل هذا هل الغانمي يُمثل أنموذجاً "لمواجه ميراث التنوير المأزوم"؟، أم هو أنموذج أمثل لوجود الفجوة بين المُثقف والمجتمع في كتاباته!. لا هذا ولا هذه، فالغانمي يختط لنفسه مشروعاً في الترجمة والتأليف كي يكون منطقة وسطى بين ميراث التنوير العقلاني بنزعته الصارمة ومُتبنيات المجتمع التخيلية والأسطورية التي تخترق أفق هذه العقلانية الصارمة لتكشف لنا عن عوالم جمالية في الأسطورة والحكايات الشعبية تخترق أفق المنطق العقلاني البرهاني لتكشف لنا عن مكامن الوجدان الذي يتجاوز حسابات المنطق وعقلانية التنوير بتقييدها للعقل في حدود الواقع وفق تصوراتنا العقلية أو التجريبة.

ولك أن تختار من مفكري النهضة العربية والفكر العربي المعاصر أمثلة كان لها دورها الفاعل في رسم خارطة جديدة للوعي العربي ما قبل احتلال فرنسا لمصر وما بعدها، وما قبل هزيمة حزيران وما بعدها، فخذ شاهداً على قولنا ما كتبه الطهطاوي أو الأفغاني أو الكواكبي، أو محمد عبده أو فرح أنطون، أو اسماعيل مظهر، أو سلامة موسى، أو طه حسين، أو أركون، أو الجابري، أو نصر حامد أبو زيد...إلخ.

هل يمكن لنا أن نجعل من مقولة الغانمي بفاعلية الخيال الأدبي مشروع رؤية لتنوير عراقي؟ أم أنموذج لتوسيع الفجوة الثقافي، أو ربما ردمها لتجسير العلاقة بين المثقف والمجتمع؟ لا جواب عندي لهذا السؤال وفق ما طرحه فلاح رحيم في كتابه هذا، وما يسعى له الغانمي.

لقد أرَقنا الخطاب البياني، وجعلنا سحر اللفظ وهيامنا بموسيقاه ورؤاه الشاعرية نعود القهقري. وهل يمكن لنا نحن الذين غيًب عقولنا فعل المخيال الأسطوري أن نكون مأخوذين بسحره ولا ننتقده طالما كان نقدنا له من خارجه كما يدعو لذلك الغانمي؟ هل يُريدنا الغانمي أن نعيش وفق مُقتضيات العقل الأسطوري كي نتمكن من نقده؟ وهل فعلاً أن من يهيم عشقاً ووثوقية بالفكر الأسطوري يستطيع أن يُمارس فعل النقد؟!. فالغانمي يرفض بأي حال من الأحوال فهم الفكر الأسطوري وفق الرؤية العقلانية والتاريخية!. أنا أعتقد أن هذا الأمر ممكن لو مررنا بما مر به الغرب من نقد تاريخي وعقلاني لمنظومته الفكرية الدينية والأسطورية، فعاد في مرحلة "ما بعد الحداثة" بعد أن أعاد للعقل الإنساني هيبته ودوره وفاعليته في رسم قوانين حياته الدنيوية، عاد ليُتيح لبعض من رغبات الإنسان ونزواته بعض الحرية للخلاص من هيمنة وسطوة النظام العقلاني وصرامته. أما أن نسير نحن بركاب ما بعد الحداثة ونحن لم نعش أعطيات الحداثة في نقد الفكر الديني والميثولوجي، لنبحث في أطروحات ما بعد الحداثة عن دفاع شكلي كمالي عن نزوات ونزعات الإنسان للعيش وفق نمط الوعي الجامح للخيال، وهذا مما يُمكن تقبله إن كُنَا قد مللنا من هيمنة وسطوة "العقل البرهاني".

وهل يكفي أن يكون الكاتب قارئاً جيداً للمناهج الحديثة، وموظفاً لها في كتاباته، كما هو الحال مع الغانمي الذي وظف بنيوية شتراوس الذي أعطى للأسطورة أهمية كُبرى في كتاباته الأنثربولوجية توثيقاً لبدايات الإنسان الأولى، أن يكون تنويرياً أو خارج دائرة التنوير؟ فنحن في قرائتنا لكتاب فلاح رحيم وقعنا بين الـ "إما" و الـ "أو"، فإما أن يكون المُثقف تنويرياً، والتنوير يعني ردم الفجوة بين المُثقف والمُجتمع، أو يكون خارج دائرة التنوير لأنه لم يستطع ردم أو سد هذه "الفجوة"!.

ولكن ألا يُمكن للكتابة أن تكون فعل ذاتي، أو تعبير عن ملاذات الذات ووجدها ووجدانها، وهي بذلك تعبير عن إنفعالات ذاتية وتفريغ لطاقات "قراءة" مُتراكمة وعقل مشحون، يروم تفريغ هذه الطاقة تعبيراً عن الوجد والوجود الذاتي، فهل من تصنيف لهكذا نوع من الكتابة عند فلاح رحيم؟ هل هي كتابة تردم أو تسد الفجوة" أم تُزيد في توسعتها؟!.

إن قيمة وأهمية الكتابة "التنويرية " هي في طرح المفكر لمُنتجه الفلسفي والثقافي على أنه سعي لتحقيق وظيفة اجتماعية، وهذه الوظيفة إنما تتحقق حينما يتخذها المجتمع أنوذجاً له في التغيير الثقافي أو الفلسفي، والاجتماعي، فتكون قيمة مثل هكذا فكر مُقترن بمقدار ما يُحدثه من تجديد أو تغيير في نمط التفكير الثقافي أو الفكري أو الديني أو الاجتماعي السائد، وبأقل الأحوال بما تُحدثه الكتابة من إضافة تُغير مسار الرؤية الثقافية أو الاجتماعية السائدة، لنقلها من طابعها السكوني الستاتيكي القار إلى طابع آخر أكثر حركية وديناميكية، لهدم المنظومة المعرفية السائدة أو تقويضها، عبر رؤية نقدية لإشكالية التخلف التي يُعاني منها المجتمع العربي على وجه العموم والمجتمع العراقي على وجه الخصوص، ولك في كتابات محمد عابد الجابري مثال تقتدي به، فعلى الرغم من كل ما أثارته وما تُثيره كتاباته من نقد، إلَا أنها بشهادة كبار المفكرين العرب أنها قد حركت العقل العربي بعد ركود طال أمده.

عُرف الدكتور حسن ناظم بوصفه ناقداً ومُترجماً، ومن كتاباته بوصفه ناقداً كتب مثل: البنى الأسلوبية ـ دراسة في قصيدة أنشودة المطر للسياب، ومفاهيم الشعرية ـ دراسة في الأصول والمفاهيم، وأنسنة الشعر، والنص والحياة.

ولست بناقد حتى يتسنى الحُكم على جهود حسن ناظم النقدية، ولكنه من النُقاد العراقيين الذين لهم حضورهم وتأثيرهم في النقد العراقي المعاصر، من أمثال:      د. حاتم الصكر، ود. ناظم عودة، ود. يوسف إسكندر، ود. سعيد عبدالهادي، ود. حيدر سعيد، ود.عصام العسل، وآخرون كُثر.

د. حسن ناظم اليوم هو مُدير كُرسي اليونسكو لتطوير دراسات الحوار في العالم الإسلامي، ورئيس تحرير مجلة "الكوفة" الأكاديمية، ومُدير سلسلة "دراسات فكرية"، وهي سلسلة تصدرها جامعة الكوفة التي تميزت بإصداراتها ودقة إختياراتها للمنشورات الصادرة منها.

أما ترجماته فكان الدكتور علي حاكم مُشاركاً له فعاشوا مصاعبها في تحويل المعنى من مجال تداولي مجال تداولي آخر، فاختارا نصوصاً فلسفية وفكرية مهمة قدماها هدية معرفية للثقافة العربية.

عُرف بترجماته أكثر مما عُرف بدراساته في النقد الأدبي، فقد ترجم وبمعيته د.علي حاكم كُتب فلسفية وفكرية عدة، أهمها كُتب غادامير: (بداية الفلسفة)، و (الحقيقة والمنهج) و(طُرق هيدغر) و(التلمذة الفلسفية) اللذي مثل نتاجه الفلسفي ردَ فعل على أفاعيل عصر التنوير في هيامه بالعقل وثقته بالنظرية العلمية، وتغييبه لدور الفن ومناحي الحياة القيمية في الأخلاق والجمال، وتلم من تجليات الحضور الإنساني في الحياة، ولكن التنوير غيًبها بفعل تسارع تأثيره.

اهتم د. حسن ناظم بدراسة الشعر، ومنه شعر السياب، وشعر فوزي كريم، جادل وحاور عبدالله الغذامي في كتابه "النقد الثقافي" لينحاز لشعر فوزي كريم الذي تخلص فيه من التبعية والتقليد للنتج الشعري الغربي في حداثته، عبر العودة للتراث والتجربة الإنسانية الحرة النابعة من الذات نفسها، من قلقها وفرحها، من هيامها وضياعها،من وجودها وعدمها.

لم يتخلص حسن ناظم من هيمنة المناهج الغربية في قراءته للشعر العراقي ونقده أو تشريحه، سواء في دراسته الأسلوبية لشعر السياب، أو في دراسته لشعر فوزي كريم، وإن لم يستخدم في قراءته لشعر فوزي ذات الأدوات التي استخدمها في قراءته لقصيدة السياب "أنشودة المطر".

ما ركز عليه فلاح رحيم في كتابه "أزمة التنوير العراقي" في قراءته لنتاج د. حسن ناظم هو ربط الأخير لتجربته النقدية في قراءة الشعر بمُهيمنات أيديولوجية حكمت أشكال نمطية من الشعر العراقي، تجاوزها السياب وفوزي كريم، كل على طريقته، وهذا لا يعني خروج شعر هذين الشاعرين عن هيمنة الأيديولوجيا وتأثيراتها في صياغة صورهما الشعرية، ولكنها لا تُدرج ضمن نسقية النمط السائد من الشعر المُتفاعل "دوغمائياً" مع السلطة، كما هو الحال في شعر عبدارلزاق عبدالواحد، أو ضدها، كما هو الحال في شعر سعدي يوسف ضد سلطة البعث وصدام، أو في موقفه الآخر المُناهض للسلطة الحالية التي يعدَها نتاج أمريكي.

هناك بعض تأثير وحضور للرؤية الماركسية في شعر السياب، وكثير من التأثير والحضور للوجودية في نزوعها الصوفي في شعر فوزي كريم، وانحياز حسن ناظم لتجربة فوزي كريم الشعرية لا سيما في الفصل الثالث من كتابه "أنسنة الشعر" الموسوم "الذات ينبوعاً للتجربة الشعرية"، بحسب ما يرى فلاح رحيم (ص190)

ولكن هل يجعل كل ما كتبه حسن ناظم من نقد يندرج ضمن مشروع يُمكن أن يُقال عنه أنه "تنوير عراقي"، أو أن هذا التنوير قد مرَ بأزمة، لأن حسن ناظم قدَم "بديلاً تأويلياً عن المنهجية النقدية الاختزالية (ص187) في قراءته النقدية لشعر فوزي كريم!. وفي كتابه "النص والحياة" الذي خصصه لقراءة نتاج "سعيد الغانمي النقدي"، وإن كان فلاح رحيم يرى أن في كلا النتاجين، نتاج الغانمي وحسن ناظم "دلالة على أزمة يُكابدها التنوير العراقي في يومنا هذا" (ص173)، ولم أعرف هل يقصد أن كتابات الغانمي وحسن ناظم هي بذاتها مثال عن هذه الأزمة وتكريس أمثل للـ "الفجوة الثقافية"؟! أم أن كتاباتهم عن الآخرين وتشريحهم لها يعني أنهما كشفا عن هذه الأزمة؟!.

سأعود لأقول أن فكر التنوير مُرتبط بقدار ما يُحدثه من تأثير في تغيير نمط الوعي الثقافي أو المُجتمعي، وإحداث ثورة وقب للـ "البرادغيم" السائد، لتقويضه، وإيجاد "برادغيم" آخر (جديد يحل محله بعبارة (توماس كون). إنه قلب لنظام القيم سواء أ كان هذا الإنقلاب معرفياً أو كان قيمياً، ولربما كلاهما معاً.  

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ الفلسفة

 

في المثقف اليوم