قراءة في كتاب

الأسس الفلسفية للعلمانية

1055 الاسس الفلسفية للعلمانيةعنوان كتاب لعادل ضاهر الذي يُجيد انتاج نصه الفلسفي بقدرة تُضاهي قدرة الفلاسفة التحليليين إن لم يكن واحداً منهم...

أظن أن صفة فيلسوف عربي تصح على عادل ضاهر لأنه لا يُعيد شرح النصوص، فهو ليس بشارح، ولكنه يُتقن اعادة انتاج الرؤى بما يجعلها متسقة وموظفة لصالح استنتاجاته.

عادل ضاهر ظاهرة فلسفية عربية بامتياز، يجيد طرح السؤال الفلسفي بما يجعل من الفلسفة منهجاً في النقد لا ينبني وفق سياقات الفكر العربي الحديث والمعاصر في السير وفق تقديس أنموذج ما واستنساخ الرؤية لآخر سواء أ كان هذا الأنموذج انموذجاً تراثياً أو حداثياً.

ما يجعلنا نصف عادل ضاهر بصفة فيلسوف أنه طرح رؤيته النقدية عبر الخلاص من هيمنة كل السلطات المعرفية والأيديولوجية والعقائدية.

هو أول من كتب عن فلسفة الدين في (الموسوعة الفلسفية العربية) التي حرر أجزائها الثلاث د.معن زيادة، وهو من كتب كتاباً مهماً في نقد المعرفة الدينية هو كتابه المعروف (المسألة الدينية)، ولم يخرج كتابه (الأسس الفلسفية للعلمانية) عن منهجيته التحليلية في نقد المعرفة الدينية، فهو كتاب في (فلسفة الدين) رغم ما في عنوانه مغايرة لاشتغالات فلاسفة الدين.

ينتقد عادل ضاهر لجوء كثير من المفكرين العلمانيين من أجل الدفاع عن صحة توجههم العلماني باللجوء إلى التراث ومحاولتهم دعم مقولاتهم بالاعتماد على أقوال في النص المقدس (القرآن) أو أحاديث النبي (ص) أو سيرته وبعض أقوال الصحابة والتابعين أو ما جاء على لسان مُفكرين أو فلاسفة مسلمين يستخرجونه من سياقاته التاريخية ليجعلوا منه أنموذجاً يُحتذى في مقبولية مقولة العلمانية.

حاول عادل ضاهر في كتابه (الأسس الفلسفية للعلمانية) تجاوز الخوض في شرح معنى العلمانية بوصفها حلاً لمشكلة العلاقة بين السلطة الدينية والمدنية، لأنها من قبيل تحصيل الحاصل، لذلك كرس جهده للبحث في طبيعة المعرفتين: الدينية والمدنية أو الزمنية، ليكشف عن المسوى "الأبستيمولوجي" بين الدين والقيم، ومحاولة تأكيد أن الفصل بين السلطتين إنما يقوم على فصل أعمق، فصل "أبستيمولوجي" ومنطقي بين الدين والسياسة، ليفكك مقولة القائلين أن (الإسلام دين ودولة) كونهم يخلطون بين ما هو شأن تاريخي وبين ما هو منطقي، بعبارته.

يطرح عادل ضاهر معالجته الفلسفية لهذه الموضوعة (الاشكالية) في الثقافة العربية والإسلامية يتجاوز فيها اللجوء للدفاع عن موقفه عبر الاستعانة بالنصوص الدينية والتراثية.

يطرح رؤيته عبر تساؤل خطير مفاده أن المجتمع لو لم تكن فيه نصوصاً مُقدسة ومعرفة دينية بُنيت على أساس هذه النصوص، هل يحتاج بالضرورة للمعرفة الدينية كي يُنظم الحياة؟.

يذهب عادل ضاهر لتبني الرأي الذي يقؤكد فيه على أن الله أعطى الإنسان القدرة على أن يحصل على المعرفة الطلوبة لتنظيم شؤون حياته دون اللجوء للدين.

إن القول بانتاج المعرفة العلمية وفقاً لمعطيات المعرفة الدينية لهو ضرب من ضروب الوهم ادعته الحركات الاسلامية الراديكالية في مجتمعاتنا، لأن المعرفة العلمية ليست بالضرورة مُتضمنة منطقياً في المعرفة الدينية، لأن هناك أناس أنتجوا معارفاً علمية وهم لا دينيون، ومن يعتقد أنه لا يستطيع انتاج المعرفة العلمية بمعزل عن المعرفة الدينية، فذا أمر مرتبط باحساسه بالعجز الذاتي، وليس لأسباب نظرية أو منطقية.

ناقش المتدينون وفندَ أطروحتهم بربط المعرفة العلمية بالمعرفة الدينية عبر الكشف عن الطبيعة المنطقية للقضايا التي تُشكل موضوعات ممكنة للمعرفة العلمية، ليُبين أن قضايا المعرفة العلمية هي قضايا ذات طبيعة منطقية مُغايرة لطبيعة القضايا التي هي من نوع قضايا المعرفة الدينية، لذلك فلا يُمكن لعاقل أن يقبل القول بتوافق القول العلمي مع القول الديني من جهة كون قضايا الأول احتمالية ظنية أو ممكنة وجائزة منطقياً، بينما قضايا المعرفة الدينية هي ضرورية تكون الضرورة فيها صفة وراثية منطقياً، بعبارة عادل ضاهر.

لا يُناقش عادل ضاهر القول بأن الله كلي الخير، ولكنه يفترض أن الله لا يأمرنا بأن نفعل ما يتعارض ما يستوجب القيام به، في الوضع المُعطى، أو المُعاش، أو ما أسماه عادل ضاهر"الاعتبارات الخُلقية الأقوى"، لذا فإن اللجوء إلى الاعتبارات الدينية لا يُمكن أن يُشكل نهاية المطاف كما يذهب إلى ذلك السلفيون والأصوليون، لأن الله ليس بمستغنٍ عن الاعتبارات العقلية، الأمر الذي يجعلنا أميل لقبول فرضية "أن الله لا يتصرف مُطلقاً على نحو مُغاير لمستلزمات العقل وأن العقل يستلزم اعطاء الأولوية للاعتبارت المعيارية (القيمية أو الأخلاقية) على الاعتبارات الدينية. إذن لا يُمكن أن يكون الله قد أمر الإنسان بتنظيم شؤون حياته وفق الاعتبارات الدينية، لا الاعتبارت المعيارية (الأخلاقية) المستقلة عن المعرفة الدينية.

يخلص عادل ضاهر لنتيجة مفادها القول بـ "الأسبقية الأبستيمولوجية (المعرفية) للأخلاق على الدين، يعني أن العقل الإنساني لا يُمكن أن يعرف ما الذي يُريده الله ، إلَا إذا كان الإنسان قادر أن يعرف ما الذي يُريده منَا الله فإن عقله مُزود بوظيفة معيارية ـ جوهرية". وهذا يعني أن الله هو الذي أعطى أو منح الإنسان هذه القدرة على أن يعرف ما الذي ينبغي عليه أن يفعله على صعيد تنظيم حياته سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا بدون العودة للدين.

انتقد عادل ضاهر فهم كلا التوجهين التراثي والحداثي للعلمانية في الفكر العربي الحديث والمعاصر لأن كلا التوجهين انشغلا بالسمات العامة للعلمانية وفق انتماءاتهم الأيديولوجية وفق المثل العراقي القائل (كلمن ايحوز النار لكرصته) وتلك هي أفاعيل الدوغمائيين الأيديولوجيين، لذلك نجد عادل ضاهر يشتغل على منطقة (التحليل الأبستيمولوجي) لشكلين من المعرفة وتحديد المنطلقات المعرفية لكلا الشكلين من دون الخوض في امكانية ردم الهوة بين هذين الشكلين على المستوى الأيديولوجي الظاهر للعيان.

لا ينفي عادل ضاهر ولا يُنكر الشروط التاريخية لنشوء العلمانية في الغرب، لكنه يُحاول أن يكشف لنا السمات الكامنة في مفهوم العلمانية أبستيمولوجياً أو معرفياً، ليركز لنا على مفصل مهم في الإسلام أل وهو (المصلحة)، فالإسلام يدعو لتقديم (المصلحة العامة) على الدين، وتلك من السمات الكامنة والمشتركة في الفكرين العلماني (المعرفي والديني (الإسلامي)، وقد تنبه لهذه الفكرة أيضاً محمد عابد الجابري في كتابيه (العقل السياسي العربي) و (الدين والدولة وتطبيق الشريعة).  

 

ا. د. علي المرهج   

 

في المثقف اليوم