قراءة في كتاب

علم المِلَل والنِّحَل.. فلسفة المقالات والأحكام في الثقافة الإسلامية

ميثم الجنابيصدر حديثا عن دار المركز الاكاديمي للأبحاث (العراق-كندا) في طبعته البيروتية (2019) كتابي تحت عنوان (علم المِلَل والنِّحَل) (فلسفة المقالات والأحكام في الثقافة الإسلامية). وتتميز الطبعة بمستواها الفني الرفيع.  وعدد صفحات الكتاب 329 من القطع الوسط.

 يحتوي الكتاب على مقدمة وستة أبواب بأربعة عشر فصلا تتناول مختلف الجوانب المتعلقة بتقاليد علم المِلَل والنِّحَل الإسلامي، بوصفه علم الموسوعات الدينية والفلسفية. ويبدأ الكتاب بدراسة المقدمات السياسية والفكرية والدينية القائمة وراء ظهور الفرق الإسلامية، ولاحقا ظهور العلم نفسه بوصفه تأريخا وتصنيفا للمدارس الفكرية الدينية. ولاحقا يجري استكماله بالمدارس الفلسفية. ومن ثم تحوله إلى علم خاص قائم بذاته. وحالما اكتمل بهذه الهيئة، أخذت تتوسع وتتعمق تجاربه المنهجية في النظر إلى الفرق الدينية والمدارس الفلسفية من خلال التحليل والدراسة والتدقيق والتحقيق والتصنيف. وفي ذروتها بدأت تتراكم الرؤية النقدية من خلال بروز قواعد ومنظومات التقييم الفكري والسياسي والديني. واستطاع هذا العلم الإسلامي الارتقاء إلى مصاف الرؤية العلمية والثقافية في بعض مناهجه، بحيث يمكننا النظر إليه باعتباره العلم الذي أرسى للمرة الأولى في التاريخ الثقافي العالمي الأسس الدقيقة لمفهوم ووظيفة الموسوعات العلمية.

وينحو الكتاب من حيث الاستعراض والتحليل والمقارنة والأحكام منحا فلسفيا ونظريا في التعامل مع كافة القضايا التي يجري تناولها. من هنا احتلت الفلسفة وعلم الكلام، والصراع التاريخي الفكري والعقائدي بينهما، بوصفه صراعا ثقافيا أيضا، موقعهما الكبير في الكتاب. إضافة إلى تخصيص مساحة واسعة في النظر إلى التصوف وتقييمه في هذا العلم. وكذلك تحليل وإبراز النقد العقلي للدين في الثقافة الإسلامية. وأخيرا البحث في إشكالية ومضمون "وحدة الأديان"، بوصفها إحدى النتائج العقلية والعقلانية والنزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية، التي عمل عليها علم المِلَل والنِحل الإسلامي.

1158 علم الملل والنحل

ان علم المِلَل والنِحَل الإسلامي يعادل معنى علم الموسوعات الدينية والفلسفية. من هنا قيمته الموسوعية بالنسبة لفهم الماضي والحاضر. بمعنى أهميته بالنسبة لتدقيق وتحقيق المعارف السليمة على الأقل في ما يخص التراث العربي الإسلامي وجوهريته بالنسبة لتمتين مقومات ومكونات الوعي الثقافي والعلمي الدقيق.

فالموسوعة تعمل على تحويل المعلومات إلى معرفة، والمعرفة إلى رؤية نظرية، والرؤية النظرية إلى منهج في التحليل والمواقف والتقييم، وهذه بدورها إلى علم ثقافي يحتوي بقدر واحد على تعميم التجارب النظرية والعملية.

والحضارة الإسلامية هي الأولى في تاريخ الحضارات القديمة من رفع فكرة الموسوعة إلى مصاف العلم الخاص. وأعطت لها بعدا شاملا تجاه كافة أنواع المعارف الإنسانية (الدينية والدنيوية بمختلف اختصاصاتهما من أديان ولاهوت وفِرق، وعلوم التاريخ مثل تاريخ وطبقات الفقهاء والشعراء والأدباء والمؤرخين والمفسرين والفلاسفة والصوفية والأطباء وغيرها).

ومن ثم تنوعها بين الجمع والاستعراض، والتحليل والتدقيق، والرؤية العلمية الدقيقة والمقارنة. كما استندت إلى المصادر الأصلية لمن جرى تناوله. إذ نعثر فيها على ما هو مميز للموسوعات المعاصرة. بل يمكننا النظر إلى الموسوعات المعاصرة على أنها صيغة حديثة لما ابدعته الحضارة الإسلامية وثقافتها العلمية والنظرية

فقد كان ظهور الموسوعة، من الناحية التاريخية، مرتبطا أولا وقبل كل شيئ بموسوعية الثقافة وأهل العلم. وقد تميزت الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها بهيمنة الروح الموسوعي. بحيث يمكننا القول، بأن الثقافة الإسلامية هي إمبراطورية ثقافة. وظهورها وتطورها كان مرتبطا بتوسع واتساع وعمق ابداعها العلمي والعملي. وهذا بدوره مرتبط بجوهرية المعرفة في الثقافة الإسلامية. إنها ثقافة الكتابة والمكتبية. إذ ارتقت الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها إلى مصاف الثقافة الكونية والمنفتحة على علوم "الأوائل" و"الأواخر"، أي على الجميع بغض النظر عن أصول هذه الثقافات وعقائدها. وقد يكون مثال (رسائل إخوان الصفا) أحد النماذج الحية الكبرى بهذا الصدد. إذ نعثر فيها على موسوعية التوليف الثقافي لإبداع الامم والثقافات المتنوعة.

لقد فسح علم الموسوعات الإسلامي المجال لما ندعوه الآن بحوار الحضارات والثقافات. كما انعكس فيه أولا وقبل كل شيئ أسلوب وعي الذات والآخر. فالموسوعية هي نتاج التوسع الكمي والنوعي للمعارف. ونعثر على كافة هذه الجوانب في علوم الموسوعات الإسلامية.

وقد كان علم المِلَل والنِحَل أحد النماذج الرفيعة للموسوعة الدينية والفلسفية. فهو العلم المتخصص بدراسة الفِرق الإسلامية والمدارس الفلسفية. انه كان وما يزال يحتل حيزا كبيرا في المباحث التاريخية والعقائدية والسياسية. أما الفراغ الوحيد بهذا الصدد فيقوم في افتقادها للبحث فيه بمعايير الفكرة الثقافية والفلسفية. ويعمل هذا الكتاب على سد هذا الفرغ. كما يدرس هذا الكتاب، من حيث الجوهر، ويحلل وينتقد المسار المعقد لظهور المناهج في مواقفها وتقييمها للفرق الدينية والمدارس الفلسفية. ومن ثم الكشف عن الحوافز الدفينة للأثر السياسي والعقائدي من جهة، وكشف قيمة كل ذلك بمعايير الفكرة الثقافية التاريخية، من جهة أخرى.

لقد رفع العلم التاريخي عن الفرق (الدينية) والمدارس (الفلسفية) الذي حصل في الثقافة الإسلامية الكلاسيكية على عنوان (علم المِلَل والنِحَل) مهمة البحث المحترف بدراسة الأديان وفِرقِها، والفلسفة ومدارسها إلى مصاف المهمة العلمية والعقائدية والثقافية. بمعنى انه تمّثل، بصورة التدقيق والتحقيق والنقد، الإشكالية الكبرى المميزة للثقافة الإسلامية والتي بلورتها الفلسفة الإسلامية عن علاقة الفلسفة بالدين، والفلسفة بالكلام، والحكمة بالشريعة. غير انه جرى تناولها ضمن هذا العلم بمعايير البحث التاريخي بمناهج مختلفة ومتباينة ومتضادة. بمعنى إننا نعثر فيه على أغلب أصناف الرؤية المنهجية.

إن الثقافة الإسلامية الكلاسيكية هي نتاج بحث ومعاناة وصراع صهرت في كل واحد إشكاليات ومشاكل المعقول والمنقول، والرواية والدراية، والعقلي والوجداني، والروحي والمادي، والديني والدنيوي، أي كل المكونات المتصارعة والمتآلفة في الوعي الثقافي آنذاك. من هنا القيمة العلمية والثقافية لعلم المِلَل والنِحَل التي كانت تكمن في تنظيمه وترتيبه لآراء مختلف التيارات الفكرية عبر تصنيفها وتقييمها وتحديد ماهيتها ووظيفتها وأثرها. كما انه أرتقى في رؤيته إلى مستوى الرؤية الكونية، أي إدخال مدارس الفكر الفلسفي والديني لمختلف الحضارات القديمة، أو ما يسمى "بعلوم الأوائل" ودمجه في "علوم الأواخر"، أي دمج الماضي بالحاضر، والثقافات القديمة بالمعاصرة. مع ما يترتب عليه من إرساء أسس الانفتاح الروحي والعقلي والثقافي.

لقد كان علم المِلَل والنِحَل أحد النماذج الرفيعة والحية للانفتاح الثقافي بما في ذلك في بعض مناهجه السلفية والعقائدية والمتشنجة. إذ نرى فيه نموذج للاضداد. وهي السمة المميزة لحيوية الثقافة وروح البحث فيها. بمعنى انه يحتوي بالضرورة، بما في ذلك من خلال صراع مناهجه، على انفتاح عقلي، يتسم أحيانا بالهجوم والدفاع، وآخر بالانفتاح العلمي كما هو بوصفه الأسلوب الحقيقي لما دعته المتصوفة بعبارة "بذل الروح".

وقد بذلت الثقافة الإسلامية أرواحها في هذا المجال أيضا من أجل استكناه نفسها أولا وقبل كل شيئ. ومن ثم نعثر فيه على ملامح قوية لوعي الذات الثقافي. وقد كانت هذه العملية الحية جزءا مهما وجوهريا في صيرورة الثقافة الإسلامية وعالمها المتميز. فالثقافة الكبرى هي على الدوام نتاج صراع وحروب وفتن بما في ذلك في مجال الفكر. مع ما يترتب عليه في نهاية المطاف من صنع مرجعياتها الثقافية الخاصة ومبادئها الكبرى الضرورية للعلم والعمل.

وإذا كان الوعي الإسلامي وثقافة التوليف الضرورية الملازمة لكل إبداع ثقافي عظيم قد بذل جهوده الكبيرة من أجل ترسيخ مبدأ الرحمة والاعتذار من أجل استغفار ما مضى، وكذلك صياغة براهين الرحمة الميتافيزيقية الساعية لتفنيد أسس ومناهج الاتهام المذهبي والتكفير والتحريم والتجريم، فإنها لم تنف قيمة "العقاب الإلهي". وإذ ظلت الثقافة عاجزة عن طي الخلاف، وهو ما لا يمكن توقعه في ثقافة حية ونشطة، فإنها أسست لأحد المبادئ المتسامية القائلة، بأن الخلاف هو "سنّة الله في الوجود"، أي انه قانون وجودي وطبيعي دائم. ووجد ذلك انعكاسه في ابتداع الحديث القائل، بافتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة الناجية منها واحدة، و"إختلاف أمتي رحمة" و"لا تجتمع أمتي على ضلالة". وهذه جميعا ليست إلا صيغ متنوعة تحتوي على ما يمكن دعوته بالأيديولوجية المفتعلة، وآخر بالفكرية العقلية والعقلانية في مواقفها ومناهجها من تاريخ وحالة الصراع الفكري والسياسي والعقائدي.

إننا نعثر في كل ذلك على توازي نماذج العقل والنقل، والمواقف السياسية والعقائدية، والمواقف العقلانية واللاعقلانية، أي على مختلف نماذج الصراع والمواجهة الخفية والمستترة مثل صراع الاختلاف والوحدة، والمجرد والملموس، والغاية والوسيلة، والأهداف البعيدة والآنية، إضافة إلى إبراز وتحقيق قضايا العلم والجهل، والحقيقة والضلال، والهلاك والنجاة. باختصار مختلف ظواهر وبواطن الحياة الفكرية. وهي ظاهرة معقدة مرت بمراحل وقرون من الزمن، لازمت تطور وعي الذات الثقافي والإسلامي. بحيث اشترك فيها الجميع من شيعة وسنّة وخوارج ومرجئة ومعتزلة وأشعرية وفلاسفة ومؤرخين وأدباء ومتصوفة. وفي كلها كانت الهموم تدور من حيث الجوهر حول واحدية الحقيقة وتنوع الضلال. وهي فكرة فلسفية ثقافية عميقة. بمعنى أنها افرزت المبدأ القائل، بأن الحقيقة واحدة، وما عداها مختلف أشكال وأصناف ومستويات الضلال، أي الابتعاد أو الزيغ عن الحقيقة كما هي. ومن خلالها كانت تتكشف معالم التأثير والنقد في الوقت نفسه تجاه علاقة العلم بالعمل، والمعرفة بالسياسة، والعقائد بالأخلاق وكثير غيرها.

لقد ساهم علم المِلَل والنِحَل أو علم الموسوعات الدينة والفلسفية في تثوير وتنظيم صراع الأرواح الثقافية والفكرية. ولم تكن هذه الظاهرة معزولة في بعض جوانبها عن مآرب السياسة، لكن تيارها العام كان يسير صوب رؤية معالم النفس الثقافية وتقييمها في ميدان الفكر النظري. إذ تضّمن علم المِلَل والنِحَل على بعدين مترادفين على الدوام ألا وهما التصنيف والتنظيم للفرق والمدارس، والتحليل والنقد والتقييم. وفيهما نعثر على إنتاج كافة التيارات الفكرية في الثقافة الإسلامية الكلاسيكية.

كل ذلك يكشف عن أهمية وقيمة الروح الموسوعي بالنسبة للعالم المعاصر. وما يترتب عليه من مهمات تتعلق ببلورة رؤية خاصة علمية وثقافية عن العلوم، والتي تنعكس فيها مستويات الاحتراف العلمي الدقيق. وهو عمل يشكل معيار ومحك الاحتراف العامل على بلورة وعي الذات العلمي والثقافي بمعايير التجارب الذاتية.

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم