قراءة في كتاب

كتابان جديدان بالروسية لميثم الجنابي

1283 مطهريالأول وهو كتاب (الحضارة الإسلامية والثقافة الفلسفية)

وطبع الكتاب في دار نشر الجامعة الروسية قبل بضعة اسابيع، أي نهاية عام 2019. ويبلغ عدد صفحاته 242 صفحة.

والكتاب يكمل ما سبق وان نشرته عن تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية الكلاسيكية. وهو كتاب مدرسي، مهمته تقديم صورة شافية لطلبة الفلسفة اساسا حول موضوع الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية. بمعنى انه كتاب اضافي يكمل ما لا لم يجر تناوله بإسهاب في الكتاب الأول. من هنا تأكيده على أبعاد الثقافة الفلسفية في الحضارة الإسلامية.

ويتألف الكتاب من ستة أبواب تتناول قضايا الحضارة الإسلامية وخصوصيتها، بوصفها "امبراطورية ثقافة". وهو موضوع الباب الأول. بينما اتناول في الباب الثاني القضايا المتعلقة في البحث عن الاعتدال الفكري والعملي، أو ما اسميته بالبحث عن الوسط الذهبي في مدارس الفكر الإسلامي الكلاسيكي، أي في مجال الكلام والفلسفة والتصوف. وخصصت الباب الثالث لإشكاليات البحث الفلسفي والحكمة عند كل من ابن سينا والسهروردي المقتول وابن طفيل.

اما الباب الرابع فقد خصصته لفلسفة عبد الكريم الجيلي الصوفية. وجرى التركيز فيه على اشكاليات وجوانب فلسفته عن الإنسان الكامل.

أما الباب الخامس فقد تناولت فيه قضايا العقل والإيمان في الثقافة الإسلامية. وأتممته في الباب السادس عن اشكالية العقل النظري والعملي في فلسفة الغزالي.

وقد كان هذا الكتاب وما سبقه جزءا من مشروع علمي فلسفي كنت اخطط له، ويتألف من خمسة كتب تتناول كافة جوانب الحضارة الإسلامية وتقديمها للقارئ الروسي بشكل عام وطلبة كليات الفلسفة والاستشراق وأقسام الثقافة والحضارة، إلا انني لم استطع إنجازه، لأسباب فنية في بداية الامر. بينما تحولت الآن إلى قضية ومعضلة يصعب تذليلها بالنسبة لي بسبب حجم المهمة وظروف العمل وكثرة الالتزامات وغيرها من اسباب وجيهة تحيل دون ذلك. ولا اعرف ان كان بامكاني الرجوعه الى هذه المهمة.

لكنني اعمل عليها بالصيغة العربية. فقد كنت اخطط لثلاثة مجلدات عن "فلسفة الحضارة الإسلامية". وقط طبعت المجلد الاول. اما الثاني والثالث، فقد حورتهما بطريقة اخرى بحيث تكون اجزاء من أعمال فلسفية اخرى. فقد وضعت المجلد الثاني الذي كنت قد خططت له في كتابي الذي اعمل عليه الان تحت عنوان (الحضارة الاسلامية والمثقف الكوني)، والمجلد الثالث في القسيم الاول من كتابي التأسيسي الفلسفي والذي اعمل عليه الان أيضا تحت عنوان (فلسفة البدائل المستقبلية). وهو عملي الاساسي او الاكبر. وأملي في ان انتهي منه قريبا. والكتب جميعا مترابطة من حيث الاسلوب والغاية. والفرق الوحيد الذي يميز (فلسفة البدائل المستقبلية) هو انه الكتاب الذي اعمل عليه في مجرى العقود الثلاثة الاخيرة. وزفيه اضع فلسفتي الخاصة، وبالاخص عن التاريخ والثقافة والبدائل المستقبلية. وهو كتاب كبير الحجم.

اما الكتاب الثاني فهو الذي صدر قبل أيام، أي في آخر أيام العام المنصرم (2019). ويحمل عنوان:

(مرتضى مطهري- العالم العامل)

1283 مرتضى مطهري والكتاب هو السادس من سلسلة الكتب التي اشرفت على اختيار النصوص وترتيبها وهيكلتها بالطريقة التي يمكن اخراجها على شكل كتب مستقلة، إضافة الى تدقيقها وكتابة الشروح والتعليقات العلمية عليها والتقديم لكل منها بدراسة موسعة. باختصار انها مهمة التحرير العلمي. وكان ذلك ضمن سلسلتين، الاولى وطبعت تحت عنوان عام هو (الخطاب الثقافي الإيراني المعاصر). وظهرت خمسة كتب منها. اما كتاب مطهري، فقد كان المشروع الذي انيط بي مهمة انجازه فيقوم في ترجمة مختارات من اهم اعلام الفكر الايراني الحدديث والمعاصر. وكنت اخطط لعشرة كتب، الا انني لم انجز سوى هذا الكتاب الاول. واعتذرت عن اتمام البقية الباقية، بسبب زحمة الاعمال ومشقات الجسد. 

ويحتوي هذا الكتاب على مختارات من مؤلفات مرتضى مطهري والتي تتناول مختلف جوانب ابداعه الفكري (الديني والدنيوي، وقضايا اللاهوت والفلسفة والسياسة، والقضايا الاجتماعية والأخلاقية، وقضايا الحياة الإيرانية التاريخية والثقافية).

واكتفي هنا بنشر المقدمة التي عرّبتها. وبما انها كبيرة، لهذا سوف انشرها بحلقتين أو ثلاث.

مطهري: العالم العامل وفلسفة العمل (1919-1979)

حياته وإبداعه النظري

إن الشخصيات الكبرى، أي المؤثرة في تاريخ الأمم، شانها شأن كل ما سواها بمعايير الوجود والعدم، بمعنى أنها تولد وتموت. وفيما بينهما تتجسد ما تدعوه لغة اللاهوت بالقضاء والقدر، ولغة الشعر بأسرار الوجود، ولغة الفلسفة بقدر الشخصية ومآثرها الفعلية في تاريخ الأمم.

وتنطبق هذه الأوصاف على قدر مطهري، وسرّ وجوده، ومآثره الفعلية بالنسبة لتاريخ الأمة الإيرانية الحديث والفكرة الإسلامية بشكل عام والشيعية بشكل خاص. فقد تراوحت حياته ومماته بين مفصلين دراميين هائلين في التاريخ الإيراني الحديث، أي بين خضوعه للهيمنة الكولونيالية بأثر تقسم العالم الآسيوي من جانب الكولونيالية الأوربية (البريطانية) وبين انتصار الثورة الإسلامية التي وضعت حدا فاصلا مع تقاليد وتراث الشاهنشاهية والكولونيالية الغربية. وما بينهما ترعرعت ونمت وتهذبت وتكاملت آرائه الفكرية ومواقف العملية، أي كل ما ارتبط بشخصيته التي جعلت منه الصيغة الظاهرية للخميني. وليس مصادفة أن يصفه الخميني في ندائه بمناسبة استشهاده "بالشهيد الجليل، والمفكر الفيلسوف، والفقيه الكبير". بل نراه يصفه بأوصاف جميلة وجليلة لا تقال إلا في القلة، واختتمها بعبارة وجدانية مؤثرة يقول فيها: "فقدتُ ولداً عزيزاً وقد فُجعت بوفاته فكان من الشخصيات التي أعدّها ثمرة حياتي".

وليس المقصود بالصيغة الظاهرية سوى الصيغة التي تعكس تقاليد الظاهر والباطن في الفكر الفلسفي والصوفي. بمعنى إنهما كلّ واحد من حيث الحقيقة. فقد تتلمذ مطهري ودرس الفلسفة والفقه على يد الخميني، إضافة إلى كوكبة أخرى من الأساتذة مثل علماء الدين أمثال البروجردي والميرزا أغا علي الشيرازي والطباطبائي. وبعد إكمال دراسته التقليدية انتقل للعمل بطلب من الخميني نفسه للتدريس في جامعة طهران حيث كان يدرس فيها الفلسفة في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية لمدة 22 عاما. ووجد ذلك انعكاسه اللاحق في شخصيته العلمية والعملية. فمن بين أهم مميزاته بيان الفكر الاسلامي وتقاليد ومدارسه وقضاياه بعبارات سهلة، واضحة وسهلة ومناسبة من حيث أمثلتها لوعي الجيل الحديث وإشكاليات المعاصرة والبدائل المستقبلية.

لقد كان مرتضى مطهري، حسب وصف الخميني ممن "قلّ له مثيل في طهارة الروح وصلابة الإيمان وقوة البيان". فقد كان من بين أولئك الذين شاركوا في إرساء أسس وتقاليد "حسينية الإرشاد" التي تعدّ من أهم مراكز نشر المعارف الإسلامية قبل الثورة الإسلامية في إيران، و"جمعية رجال الدين المناضلين" بعد الثورة الإسلامية. وما بينهما ترامى نشاطه النظري - العلمي والعملي – السياسي. فقد أعتقل سنة 1963 مع مجموعة من أساتذة وطلبة الحوزة العلمية، بسبب الاعتراضات والمظاهرات التي خرجت للتنديد باعتقال الخميني. وفي سنة 1964 قام بتأسيس حسينية الإرشاد وإلقاء المحاضرات فيها. واستمر بعمله هذا حتى عام 1970. واعتقال مرة ثالثة عام 1969 بسبب مشاركته في جمع التبرعات للشعب الفلسطيني. واعتقل مرة أخرى عام 1972 بسبب نشاطه في مسجد الجواد. كما كان مطهري وبطلب من الخميني يذهب للتدريس في مدينة قم لمدة يومين في الأسبوع، ويقض الأيام الأخرى للتدريس في بيته أو المراكز العلمية في طهران. وفي عام 1976 فصل من عمله كمدرس في كلية الإلهيات التابعة لجامعة طهران. وفي عام 1977 شارك مع مجموعة من رجال الدين في طهران في تأسيس جمعية رجال الدين المناضلين. وفي عام 1978 ذهب إلى باريس للقاء الخميني، الذي كان في طريقه للعودة إلى إيران في مجرى الثورة المتفاقمة آنذاك، بعد إخراجه من العراق بأثر الضغط المعنوي والسياسي من جانب الدكتاتورية الصدامية آنذاك. حينذاك كلفه الخميني بمهمة تشكيل مجلس قيادة الثورة الإسلامية. وبعد الرجوع إلى إيران سنة 1979 كلفه الخميني بمسؤولية لجنة استقباله في مجرى قيادة الثورة الشعبية الهائلة التي أسقطت نظام الشاه. بعدها ترأس مجلس قيادة الثورة الإسلامية. وبعد اغتياله في نفس العام جعلت الحكومة الإيرانية يوم شهادته يوم المعلم في إيران.

ترك مطهري ما يقارب الخمسين كتابا في مختلف مجالات المعرفة والفكر من فلسفة ولاهوت إسلامي وسياسة واقتصاد وثقافة وغيرها. ففي مجال الفلسفة يمكن الإشارة إلى كتابه الكبير (بخمسة أجزاء) عن (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي)، و(شرح منظومة السبزواري) بأربعة أجزاء، و(الحركة والزمان) وغيرها. وفي اللاهوت كتب رسائل وكتب عديدة مثل (معرفة القرآن) بأربعة أجزاء و(العدل الإلهي) و(الإنسان والمصير) و(مقدمة حول الرؤية الكونية الإسلامية) و(الإمامة والقيادة). و(قصص الأبرار) بجزأين و(الملحمة الحسينية) بثلاثة أجزاء و(نهضة المهدي). وفي مجال الفكر الأخلاقي كتب (الإنسان الكامل) و(التربية والتعليم في الإسلام)، كما تناول مختلف القضايا الاجتماعية في بعض كتبه مثل (نظام حقوق المرأة في الإسلام) و(قضية الحجاب). أما في مجال الثقافة والحضارة فقد كتب (الإسلام وإيران) بثلاثة أجزاء و(الإسلام ومتطلبات العصر) بجزأين. كما كتب عن مختلف القضايا المتعلقة بالثورة والسياسية مثل (الحركات الإسلامية في القرن الأخير) و(حول الثورة الإسلامية). كما وضع الكثير من الكتب والرسائل في مجال الفقه وعلم الكلام مثل (علم الكلام والحكمة العملية) و(الفقه وأصوله). وفي الاقتصاد وضع كتاب (النظام الاقتصادي في الإسلام) و(الربا والمصرف والضمان) إضافة إلى الكثير من المقالات والمحاضرات التي جرى جمعها في كتب منفردة.

 العالم العامل- التقاليد والمعاصرة

لقد استمدت وتأثرت التيارات الإسلامية الكبرى، والشخصيات المؤثرة في التاريخ الفعلي للشعوب والأمم الإسلامية بالشخصية المحمدية. غير أن هذا الاستمداد والتأثر يختلف فيما بين التيارات والمدارس الكبرى. وذلك لان هذا التأثير كان دوما يجري عبر موشور وعيها الذاتي. ومن ثم كان يتلون بعقائدها وتراثها الخاص ضمن الكلّ الاسلامي. فالمتصوفة، على سبيل المثال، نظروا إلى النبوة نظرتهم إلى مصدر الإبداع الحر ولم ينظروا إليها بمعايير نبوة التشريع. بمعنى أن الأولوية عندهم كانت لما يمكن دعوته بنبوة المعاناة المعرفية والأخلاقية. من هنا فكرة ومفهوم "مشكاة النبوة". ومن ثم العمل بمعايير الروح الأخلاقي. بينما حوّلت التيارات السنية النبوة المحمدية إلى مجموعة شعائر وطقوس. ومن ثم جرى تحويل محمد إلى صنم التقليد الجسدي المجوّف والخال من معاني الروح العملي. بينما نظر التشيع إلى النبي محمد من خلال "الأئمة الأطهار". من هنا فكرة الطهارة والاستشهاد التي توجت بفكرة المهدي. ومع أن فكرة المهدي فكرة إسلامية عامة ومقبولة عند الجميع، إلا أن التشيع جعل منها فكرة جوهرية بالنسبة للعقائد والسلوك. واكتنزت هذه الفكرة وتوسعت في مجرى قرون من الزمن لتتحول إلى بوصلة الرؤية العملية تجاه الواقع والمستقبل.

وقد تعرضت هذه التقاليد الإسلامية العامة في مجرى الزمن إلى تشذيب وتهذيب متنوع لكنها بقت من حيث الجوهر بدون تغير نوعي حتى بداية القرن العشرين، أي حالما جرى انتقال الزمن الاسلامي إلى تاريخ المعاصرة الأوربية. حينذاك اتخذت علاقة العلم بالعمل، والنبوة بالإصلاح، والدين بالسياسة صيغا جديدة تجسدت مع مرور الزمن في "ظاهرة إسلامية" كبرى هي بدورها جزء من المركزية الإسلامية الحديثة.

وحصلت هذه "الظاهرة الإسلامية" في إيران على أنماطها الخاصة العامة، بمعنى أنها تراوحت أيضا بين تيارات مختلفة ومتنوعة من تقليدية وإصلاحية وثقافية، لكن ما يميزها هو خصوصية انتمائها لتقاليد التشيع الاسلامي. ومن ثم تأثرها المباشر وغير المباشر بتقاليد التفلسف والعرفان (التصوف النظري). من هنا ميزتها الكبرى القائمة فيما يمكن دعوته بوحدة العقل والوجدان. فقد كان هو الحد الأدنى أو الأساس الذي ارتكزت عليه كافة الحركات والشخصيات الفكرية الإسلامية في إيران على امتداد قرون، وبالأخص منذ القرن السادس عشر. اذ تحولت إيران منذ ذاك الزمن إلى ملجأ الفكر الفلسفي الاسلامي المطارد في حواضره الأخرى. الأمر الذي طبع تقاليد النظرية بمسحة فلسفية وعرفانية خاصة، سرعان ما كانت تنقل وهجها العقلي الوجداني إلى ميدان الفكرة السياسية عند أول التحام محرق لهما! وهي السمة المميزة في الواقع لكل الشخصيات الفكرية الكبرى اللامعة في سماء إيران القرن العشرين.

غير أن هذه المقدمة النظرية العامة تقف على الدوام أمام امتحانها الذاتي القائل، بأنه ما لم يجري التأسيس النظري العقلاني للفكرة، فانه لا يمكن للفكرة أن تكون عملية ونافعة. اذ أنها سوف تبقى في أفضل الأحوال مجرد نصيحة عابرة، أو كلمة مأثورة، أو حدس للخواص. 

لاهوت العمل

أما في شخصية مرتضى مطهري فأنها استطاعت تذليل البون القائم بين العقل والوجدان من خلال صهرهما في مختلف نماذج ومستويات التأسيس النظري للفكرة العملية. وبهذا يكون مطهري من بين النماذج الكبرى للفكر الاسلامي الإيراني الحديث الذي جسّد احد النماذج الحية للمرجعية الإسلامية القائلة بان العلم الذي لا يراد به العمل لا فائدة فيه ولا طائل. بمعنى ضرورة السعي لغايات عملية ذات فائدة، والسعي لتطبيق النتائج النظرية في النفس ومن خلالها ، وأخيرا أن الأنا العالمة هي الأنا العاملة. 

وشكلت هذه المقدمة الذائبة في صيرورة الشخصية العلمية والعملي لمطهري اساس ما يمكن دعوته ب "لاهوت العمل"، أي ذاك الذي يرتقي إلى مصاف الأيديولوجية العملية دون أن يتحجر في قواعدها. من هنا وحدة الرؤية النقدية الواقعية والإصلاحية المستقبلية.

وقد حدد ذلك موقفه النقدي من كل مفاصل الفكر والثقافة والماضي والحاضر والمستقبل، إضافة إلى كل ما له علاقة بالوجود الفعلي للإنسان والمجتمع والدولة. كما انه استكملها دوما برؤية البديل المستقبلي.

وشأن كل فكرة نقدية واقعية مؤسسة بمعايير العقل والوجدان، أي بمعايير العقلانية المنتمية لتراثها الخاص، عادة ما تبدأ بنقد العلم لتنتهي بنقد العمل. ومن خلالهما تبلور الفكرة العلمية - العملية في موقفها من البدائل. من هنا موقفه النقدي من العلماء والعلم في الحوزات الدينية في إيران وتقاليدها الشيعية بشكل عام. اذ توصل في رؤيته النقدية هذه إلى ما يمكن دعوته بالخلل الذي اخذ يخترق أصولها وأساليبها، والذي جعل منها في نهاية المطاف مؤسسات مغلقة ونفعية وضيقة. بحيث نراها تهمل تعليم القرآن وما يرتبط به، بينما نراهما شديدة الاهتمام بالفقه وتفريعاته. بمعنى أنها بقيت ضمن نفسية وتقاليد "إرضاء العامة". اذ لم يتعد الفقه هنا أكثر من اجترار ما هو موجود مع إضافات جزئية صغيرة متعلقة بمتطلبات الجسد. بل حتى الاستقلال المالي الذي ميز تقاليد ووجود العلماء الشيعة وحوزاتها العلمية، والذي أعطى لهم إمكانية اتخاذ المواقف الحرة والمستقلة تجاه السلطة ، قد احتوى على نقيضه. بمعنى أن هذا الاستقلال المالي جعلهم أكثر ميلا لنفسية وذهنية العوام والممولين. وينطبق هذا على مختلف الجوانب بما في ذلك العقائد وأساليب العمل. ففكرة التقية التي عادة ما يجري مطابقتها مع مضمون السلوك الباطني للتشيع، قد جرى تحريف معناها الروحي والعملي. بحيث تحولت في نهاية المطاف إلى أسلوب للتخاذل والجدل الأجوف. وبالمقابل افتقدت هذه الحوزات إلى الاهتمام الجدي بدراسة اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة.

إن هيمنة الذهنية التقليدية وأساليبها قد مسّ كل شي بما في ذلك قضايا الدعوة والتبليغ. اذ نراه ينتقد مختلف مظاهرها وأساليبها وكذلك التوظيف السيئ للإمكانات والقدرات، إضافة إلى الجهل والوصولية ومختلف الرذائل المنتشرة بين علماء الدين والمدارس. وقد أوصله ذلك إلى استنتاج يقول بضرورة الإصلاح العميق والمنظومي لهذا الخلل من خلال رفع شعار "لا عصمة للعلماء" من جهة، وضرورة دراسة حالة وتفكير ونفسية الأجيال الحديثة والاستجابة لها من جهة أخرى. 

وقد كان اجتهاده النظري جهادا متواصلا ضمن هذا السياق، بمعنى تذليل فكرة العصمة للعلماء ومن ثم تذليل نفسية وذهنية التقليد دون أن يعني ذلك إلغاء التقاليد بحد ذاتها، والسير ضمن سياق الحضارة المعاصرة والحداثة دون أن يعني الانصهار فيها بوصفها تجارب غربية.

ففي مجال العقائد الكبرى نراه يتناول قضايا الله والعالم،الله والإنسان، والدين والإيمان وكثير غيرها عبر موشور التحديد النظري والعملي الجديد لفكرة التوحيد. فهو لا يتناول قضية التوحيد ضمن مقولات ومفاهيم اللاهوت الاسلامي التقليدي، بل يتعداها إلى ميدان التفلسف والأدلة العقلية. بحيث نراه يناقشها بدأ من أرسطو وانتهاء بمالتوس، مرورا بابن سينا وكانط وانسيلم وصدر الدين الشيرازي ولامارك ودارون وغيرهم. بمعنى انه يتناولها ضمن حلقة أوسع وتستجيب في الإطار العام إلى مستويات الفكر النظري المعاصرة له.

غير أن الجديد الذي يقدمه مطهري بهذا الصدد هو تناول إشكاليات الوجود الاجتماعي والأخلاقي المعاصر والمستقبلي من خلال قضية وفكر التوحيد. من هنا تركيز على ما اسماه بالتوحيد ومسألة الشر. ومن حيث الظاهر تبدو إجابته على هذه المسالة كما لو أنها ترديد لما سبق وان وضعه أوغسطين والغزالي، إلا أن الجوهري فيها هو وضعها في صلب تناوله لإشكاليات الحياة المعاصرة، من خلال الإجابة على السؤال المحير، ضمن سياق الرؤية الدينية، ألا وهو: إذا كان العالم بنظامه يكشف عن انه تعبير ودليل على حكمة الخالق، إذن كيف يمكن توفيق ذلك مع الشر السائد في العالم؟ وأجاب على هذه الإشكالية بالشكل التالي: إن الشر يعادل العدم من حيث مساره وتأثيره على الخير. فالأشياء "الشريرة" ليست شريرة بذاتها، بل بالارتباط مع أشياء أخرى. وان المسار التاريخي والتطور الإنساني يكشف عن أن وجود الشر أمر ملازم للوجود الإنساني بوصفه قوة دافعة لاجتهاد الخير. ومن ثم فان البديل الاسلامي يفترض العمل من اجل حل هذه الإشكالية الدائمة بمعايير الرؤية الإسلامية عن الخير الأسمى، والذي يشكل التوحيد (الاسلامي) إطاره النظري والعملي. وضمن هذه الرؤية تناول مختلف المسائل التقليدية المتراكمة في جدل الكلام والفلسفة والفقه والحياة العادية، بمعنى تناوله إياها بمعايير التفسير العقلي والتنوير الروحي والأخلاقي.

ففي الموقف من القرآن، على سبيل المثال، ينطلق من السؤال المتعلق بتأسيس الفكرة العملية البديلة، ألا وهو: هل القران معجزة؟ وبعد انتقاده لمختلف الأفكار عن المعجزة، وعما إذا كان القرآن معجزة، نراه ينتقل صوب الأبعاد العملية لهذه القضية من خلال دعوته لما اسماه بهجران القرآن. بينما الرجوع إليه ضرورة لفهم معنى المعجزة في الظروف المعاصرة. بحيث نراه يعتبر حقيقة إعجاز القرآن الآن تقوم في الرجوع إليه. اذ وجد في ذلك البديل الضروري للاهتمام المفرط بكتب الأصول والفقه عوضا عن الاهتمام بالقرآن. بل نراه يعتبر هذا "الهجران" انتكاسة للفهم الاسلامي السليم. وإذا كانت هذه الصيغة تبدو في ظاهرها كما لو أنها سلفية تقليدية إلا أن مضمونها الواقعي يقوم في مزاوجته للرؤية النقدية والإصلاحية. اذ أراد الخروج من شرنقة التقاليد السائدة للفقه والفقهاء عبر الرجوع إلى القرآن من جهة، وقراءة الوجود المعاصر بحقائق القرآن الكبرى من جهة أخرى. ومن ثم تحرير الفكر من إسار التقليد أيا كان مصدره للمدارس والفرق، وتوجيهه صوب إبداعه الذاتي بالشكل الذي يحرره من الاغتراب أمام "الغرب" و"الشرق". بعبارة أخرى، إن معجزة القرآن تقوم في استعادة قدرته وطاقته على تثوير الإبداع الذاتي وتحقيق الأصالة الثقافية. (يتبع).

***

 

 

في المثقف اليوم