قراءة في كتاب

الدين والحداثة.. جدل أم تحاور؟

محمود محمد عليلا شك في أن الإسلام والحداثة عنوانا حمل صراعا استمر طيلة قرن من الزمن ؛ حيث أفضى الصراع والتفاعل بين الدين وتأويلاته وبين الحداثة وتجلّياتها العلمانية والسياسية والعلمية (كما قال صلاح سالم في كتابه جدل الدين والحداثة)، إلى موجات متلاحقة من المغالاة والتطرف المستند إلى أسس فلسفية ومادية معادية للدين وداعية إلى انزوائه وإنهاء سيطرته على حياة البشر، فيما وجد التطرف الديني طريقه لاستعادة «مركزية المقدس» عبر الإرهاب والممارسات الإجرامية باسم "المقدس".

ولما كان الدين بطبيعة الحال هو الإسلام بموجب قوله سبحانه " إن الدين عند الله الإسلام"، والحداثة هي التحول الذي نقل المجتمعات الغربية من طور الظلام والتخلف إلي طور الحضارة الغربية التي نعيش سطوتها في هذا العصر، والذي يزعم البعض أنها لم تعد حضارة غربية بل كونية لكل البشر وفي كل زمانا ومكان باعتبارها نهاية التاريخ كما يري فوكوياما لأنها تشكل خلاصات لتجارب البشر وخبراتهم والمتمثلة في العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني إلي آخر تلك المنتجات الغربية، وفي المقابل لدينا نحن المسلمين إرث حضاري كبير يمثل الدين نقطة ارتكازه بكل ما يحمله من قيم وتشريعات وتصورات عن الكون والحياة وهنا يقع الصدام بين حضارة راهنة نعيشها بكل تفاصيلها أو نستفيد من كل منتجاتها وبين إرث حضاري ضاغط علي آذاننا وتفكيرنا وآمالنا، كيف نتصرف؟ وماذا نفعل؟ ومن أين نبدأ؟ هل نستسلم أمام الحداثة الغربية المعاصرة نعتبرها النموذج الذي نسير في ظلاله؟ أم ندافع ونقاوم الحداثة ونعلي من شأن هويتنا وخصوصيتنا؟ أم نحاول الدمج والتوفيق؟ أو التلفيق بين الحداثة الغربية والمشروع الإسلامي الفكري أو الحركي المعاصر؟ هل يمكن استيعاب الحداثة كجزء من المنجز الحداثي الغربي داخل نموذجنا الحضاري العربي والإسلامي . موضوعنا هو علاقة الدين أي الإسلام بالحداثة التي هي خلاصة التجربة الغربية في مختلف المجالات ويمكن توضيح كلامنا بتمعن علي النحو التالي :

الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وصوم رمضان وإيتاء الزكاة وحج البيت والانحياز الكامل لما بعد ذلك كله من روئ وتصورات وأحكام، أما الحداثة فهي مصطلح يشير إلي جملة التحولات العميقة التي مر بها المجتمع الغربي فنقلته من عصر قديم إلي آخر يختلف عن سابقه في كل شئ . بدأ الإسلام مع بعثة النبي محمد صلي الله عليه وسلم وتشكلت مفاهيمه وأنظمته السياسية والمعرفية علي امتداد خمسة قرون تالية قبل أن تتوقف حركة الابداع والاجتهاد وتصبح استثناءا تاريخيا بكُتابِ أو مفكر  فالإسلام الذي نحياه الآن هو الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة العظام حتي القرن الخامس الهجري . أما الحداثة فقد شرع المجتمع الغربي في التأسيس لها ابتداءا من القرن السادس عشر الميلادي وقد استطاعت الحضارة الغربية في غياب المنافس أن تخلق زمانها الخاص كما استطاعت أن تعمم نموذجها الثقافي والحضاري ما شكل تحيات حقيقية للشخصية العربية علي كافة الأصعدة والمستويات وليجد العربي نفسه منحصرا بأسئلة زمانه وعليه أن يجيب . واجه البعض المأزق الحداثي بالعداء الكامل لكل ما هو حديث وعصري ومحاولة تجريحه بالإسلام تارة وباستخدام المفاهيم النقدية الغربية تارة أخري، فضلا عن وسمه في الخطاب المحافظ بالفكر الدخيل والمستورد وثقافة المحتل أو الغرب الكافر، والبعض الآخر لتبع مسلكا تبريريا بالتوفيق بين العلم والدين وفق فهمه القديم تارة بإسقاط مفاهيم الحداثة الغربية علي مصطلحات الفقهاء وتارة أخري بالبحث في تاريخ المسلمين وتراثهم عن أصول للحداثة الغربية ونسبتها إلينا، فالمنجزات العلمية مذكورة في القرآن والعقلانية الغربية استجابة للأمر الإلهي بالتعقل والتفكر والديمقراطية هي هدي النبي صلي الله وعليه وسلم وخلفائه الراشدين المهديين من بعده واسمها الأصلي الشوري . أما المواطنة فهي مجرد صياغة عصرانية لعقد الذمة – كل ما استحدثه الغرب من أنظمة ما هي إلا بضاعتنا ردت إلينا . كانت مأساة تبرير العقل المسلم لاغترابه عن واقعه أكبر من مأساة الاغتراب نفسه وهو ما دفع تيارا ثالثا أن يتجاوز أسلمة الحداثة إلي محاولة تحديث الإسلام وذلك بالتفريق بين الوحي الإلهي والفهم البشري القديم ومحاولة استثمار ممكنات اللغة القرآنية وإمكاناتها التأويلية الضخمة في إنتاج قراءة جديدة وبعقل جديد وفي زمنا جديد، محاولات فردية لا ينظمها رابط ولا تتبناها مؤسسة أو دولة أخفقت مرارا في الوصول للجماهير، ولم تزل إلي اليوم محل اتهام وتخوينا من أصحاب القراءات القديمة ومؤسساتهم الرسمية وهنا يكمن جوهر المشكل بين التقليد والحداثة، ميت دون تصريح دفن، وحي دون شهادة ميلاد .

ولمعالجة هذه القضية الشائكة للإسلام والحداثة يبدأ الكاتب صلاح سالم كتابه "جدل الدين والحداثة" بسؤال هو: هل الدين متواجد في عصرنا الحالي في العالم الغربي والعالم العربي؟ ويجيب أن حضور الدين أو غيابه مرتبط بمدى قدرته على تكريس روحانية مؤمنة ينمو معها الشعور بالتواصل مع المقدس على نحو يكفل طمأنينة للنفس وتسامياً على الغرائز وتناغماً مع المبادئ الأساسية للوجود. وهكذا تنمو العوالم الداخلية للإنسان إذا ارتبط المؤمن رأسياً بعالم الغيب على نحو يذكره بمآله ومصيره ويستخرج منه أنبل ما فيه كالضمير الأخلاقي، المريد للخير والرافض للشر، المدفوع إلى الحق والرافض للظلم. كما يرتبط أفقياً بعالم الشهادة، حيث البشر الآخرون، ربطاً يقوم على المحبة والتراحم ويناهض القسوة والعنف.

يقول الكاتب إنه في عالم اليوم غابت الروحانية مرة بفعل التطرف الوضعي النازع إلى فصم عرى العلاقة بين الله والإنسان بالإفراط في المركزية الإنسانية على حساب المركزية الإلهية حيث جرى تقديس العقل وتمجيد الإرادة إلى حد الادعاء بموت الله على مذبح الإنسان (السوبر مان). كما غاب مرة أخرى بفعل الإرهاب العدمي الذى أمعن في القسوة والإيذاء وفي قتل الإنسان على مذبح الله كمسلك عدمي يعكس ردة فعل هوجاء على التطرف الوضعي. وهكذا أخذ الجميع يضلون الطريق إلى الله بفعل العجز عن صوغ علاقة توازنية بين السماء والأرض.

ويعتبر الكاتب كتابه هذا نداء استغاثة يصدر عن المؤلف من سفينة الإنسانية إلى الفريقين الذين أشرفا على الغرق في تطرفاتهما في اتجاه نفي الله أو الإنسان بغية إعادة تأسيس مشروع التنوير الغربي في ذروته النقدية وصيغته الكانطية وحسه الإنساني في عالم القرن الحادي والعشرين.

ويخلص الكاتب إلي أن لكل من الدين والحداثة مفهوم جدلي، فالدين التوحيدي ينطوي على الشرائع الثلاث كل منها يعتبر مرحلة في تطوره. وتنبع وحدة الدين من وحدة المعبود المطلق، فيهوه ليس الرب تماماً والرب ليس الله. فثمة تباين في درجة التنزيه التي تصل إلى الحد الأدنى في المسيحية، مروراً باليهودية، وصولاً إلى الحد الأقصى في الإسلام. والأخير نفسه يبدو جدليا ًإذ يمكن فهمه باعتباره الشريعة الخاصة بالمسلمين وحدهم. كما يمكن فهمه بإعتباره الدين الجامع بين أرباب التوحيد الذين أسلموا وجوههم لله أي معتنقو الدين الإبراهيمي في العموم.

أما الحداثة فيمكن فهمها على وجهين: الأول تعريف بسيط - كما ذهب إليه بودلير – وهو تلك الحساسية الجمالية الجديدة التي ذاعت بين التيارات الأدبية والمذاهب الفنية. والتعريف الثاني جدلي يؤكد امتدادها بطول الحقبة المسماة بالحديثة على تعدد عصورها: عصر النهضة والإصلاح الديني، والثورة الصناعية، ثم التنوير والعلمنة، باعتبارها جميعاً مراحل تصاعدية في التجربة نفسها تحمل قيمها وتمثل منطقها العام ورؤيتها للوجود وتصوراتها الديناميكية عن الكون الذي نعيش فيه.

 

د. محمود محمد علي 

 

 

في المثقف اليوم