قراءة في كتاب

استعراض كتاب: وعي الذات العربي والبحث عن البدائل

ميثم الجنابيإن كتاب (وعي الذات العربي والبحث عن البدائل)، الذي صدر قبل فترة وجيزة عن دار (المركز الاكاديمي للأبحاث) هو القسم الأول منه. وسوف يليه القسم الثاني. وسبب تقسميه إلى قسمين يعود لأسباب فنية متعلقة بطباعة الكتاب، وثقله بالمعنى المباشر للكلمة. فالكتاب يحتوي على خمس وعشرين بابا، وبحدود 1200 صفحة من القطع الكبير. من هنا ظهرت مهمة تقسيمه بالتساوي، ومن ثم اختيار عنوان لكل منهما، مع أنهما كل واحد وكتاب واحد. من هنا الإبقاء على تسلسل الأبواب والصفحات في طباعته.

وقد كان العنوان الأول للكتاب هو (الفكرة العربية المعاصرة. فلسفة وعي الذات العربي). غير أن العنوان أثار بعض الالتباس بسبب "غموضه" بالنسبة للقارئ. وهذه، كما يقال، قضية أخرى. لهذا اعطيت للكتاب عنوانا آخر ولكل قسم منه عنوانه الفرعي. والقسم الأول منه هو تحت عنوان (وعي الذات العربي والبحث عن البدائل)، وعنوان فرعي (دهاليز المرحلة التأسيسية)، الذي اتناول فيه من الناحية التاريخية بداية ظهور أو صيرورة الاجنة الأولية للفكرة العربية، أي لوعي الذات العربي بمختلف المعايير والأساليب والمستويات. وتناولته ضمن عنوان (عقل الذات العربية بأطوار الملة والأدلة) وانتهاء بالباب الخامس عشر (عقلانية الشك واليقين والنقد والتطمين). وما تبعه هو من "حظ" القسم الثاني.

إن خصوصية هذا الكتاب تقوم أولا وقبل كل شيئ في كونه كتاب فلسفي صرف في تناول إشكاليات وعي الذات العربي. فالفكر العربي والثقافة العربية الحديثة لم تتناول إشكالية وعيها الذاتي. وهذا يعود لأسباب عديدة من بين أهمها هو ضعف أو شبه انعدام لوعي الذات العربي بوصفه وعيا تلقائيا في التأسيس والإبداع، وثانيا ضعف التقاليد الفلسفية بشكل عام، والمنظومية منها بشكل خاص. بل انعدامها. وثالثا ضعف التقاليد العلمية والمنهجية الدقيقة. من هنا البقاء ضمن حدود الرؤية الجزئية في تناول تاريخ الفكر العربي والثقافة العربية ككل. الأمر الذي حدد ضعف الرؤية الفلسفية للتاريخ والإبداع الفكري، وانعدام التأسيس الفلسفي للتاريخ العربي الحديث والمعاصر ورؤية إشكالاته بمعايير وعي الذات القومي والثقافي والتاريخي.

وضمن هذا السياق يمكن القول، بأنه الكتاب الأول والأكبر والأعمق والوحيد في هذا المجال. وهي المهمة الأعقد بالنسبة للفلسفة العربية الحديثة. من هنا كثافته المركزة جدا. إذ انني لم اترك شخصية وتيار ومدرسة على امتداد القرون الثلاثة الاخيرة.دون تناوله بالدراسة والنقد. غير انني لم ابق فيه إلا على ما هو نموذج أو عينة من عينات الفكر والتأمل الفكري الذي يحتوي على قدر معقول من وعي الذات العربي. ومن ثم سعيه بوعي أو دون وعي على أرساء وتعميق عناصر "الفكرة العربية". وهي عميلة شاقة وصعبه ومليئة بالعقد والتعقيدات والإشكالات. من هنا عنوان (دهاليز المرحلة التأسيسية). فيما لو أردت وضع كل ما قمت به (على مدار اكثر من ثلاثة عقود من الزمن في دراسة هذه القضية وتأسيسها النظري) لاقتضى ذلك مني تسطير ما لا يقل عن عشر مجلدات كبيرة. وهو امر لا ضرورة فيه، على الأقل بالنسبة للبحث الفلسفي النظري.

1540 ميثم الجنابي

وأدناه عناوين الأبواب والفصول.

 المقدمة        9

الباب الأول: عقل الذات العربية في أطوار الملة والأدلة   21

الفصل الأول: الخروج الصعب للذهنية العربية من دهاليز الصعاليك والمماليك 21

الفصل الثاني: التصوف الفاعل والتشّخص التاريخي للرمز الثقافي       35

الباب الثاني: عقلانية الضمير - الوحدة الحية لطلاقة اللسان وتحصين الأركان وإنعتاق الوجدان.         47

الفصل الأول : ضمير اللغة ولغة الضمير الثقافي.  47

الفصل الثاني: طلاقة اللسان – الإفشاء الأخرس للعقل الناطق     57

الفصل الثالث: "تحصين الأركان" وانعتاق الوجدان – المناعة الثقافية لوعي الذات العربي    75

الباب الثالث: إصلاحية الجهاد والاجتهاد الإسلامية         91

الفصل الأول: فكرة الجهاد والاجتهاد الإسلامية     91

الفصل الثاني: صيرورة الفكرة النقدية العملية - وعي الذات النقدي        121

الفصل الثالث: الأبعاد العملية والعقلانية في الفكرة الإصلاحية     129

الفصل الرابع: فكرة التأسيس التلقائي للإصلاح العملي الشامل    139

الباب الرابع: الإسلام الثقافي للإصلاحية الإسلامية         149

الفصل الأول:فكرة الأنا الثقافية الحرة       149

الفصل الثاني: الكينونة الإسلامية والأصالة الثقافية 163

الفصل الثالث: الفكرة الثقافية الإسلامية والإصلاحية الحديثة      174

الباب الخامس: الإصلاح الثقافي والقومي   184

الفصل الأول: توليف الفكرة الإسلامية والقومية     184

الفصل الثاني: توليف الفكرة الإسلامية والعربية    198

الباب السادس: المفترق التاريخي للبدائل السياسية والثقافية في الإصلاحية الإسلامية.  216

الفصل الأول: المآثر التاريخية للإصلاحية الإسلامية في مفترق البدائل السياسية والثقافية.     216

الفصل الثاني: المصير التاريخي للفكرة الإصلاحية عند محمد عبده         226

الباب السابع: الإصلاحية الثقافية لمحمد عبده       240

الفصل الأول: العقل الثقافي وتلقائية الإصلاح الذاتي        240

الفصل الثاني: المصير الشخصي والروحي للفكرة الإصلاحية عند محمد عبده     252

الباب الثامن: إشراق وأفول الاجتهاد الإصلاحي   260

الفصل الأول: إشراق الاجتهاد الحر في الفكرة الإصلاحية الإسلامية     260

الفصل الثاني: إرهاصات الاجتهاد المخذول         276

الباب التاسع: المآل الفكري والسياسي للفكرة الإصلاحية  294

الفصل الأول: أفول الاجتهاد الحر في الفكرة الإصلاحية الإسلامية        294

الفصل الثاني: النفي المبتور للروح الإصلاحي     312

الباب العاشر: لغة الحرية ووجدان الذات الثقافية   322

الفصل الأول: لسان الأدب الذاتي    322

الفصل الثاني: لغة التاريخ والوجدان         332

الفصل الثالث: لغة الوجدان الذاتي   364

الباب الحادي عشر:الشعر وإشكالية وعي الذات العربي   390

الفصل الأول: الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي   390

الفصل الثاني: الشعر ولغة التحرر الذاتي   402

الفصل الثالث: الشعر والحرية       414

الباب الثاني عشر: الفكرة العربية وفلسفة الوعي القومي الذاتي   426

الفصل الأول: بزوغ الفكرة العربية الجديدة 426

الفصل الثاني: الفكرة العربية السياسية.     440

الباب الثالث عشر: المعاناة التاريخية لفلسفة الفكرة العربية الجديدة       470

الفصل الأول: الفكرة العربية الصاعدة وفلسفة الوعي القومي الذاتي       470

الفصل الثاني: الفكرة العربية والوعي القومي الذاتي        478

الفصل الثالث: فلسفة الفكرة القومية العربية ووعيها الذاتي         508

الفصل الرابع: الرؤية الحضارية للفكرة القومية    532

الباب الرابع عشر: المنسوخ والممسوخ في العقلانيات المبتورة   552

الفصل الأول: عقلانية الفطام والفصام التاريخي    552

الفصل الثاني: عقلانية الجديد والتجديد      566

الفصل الثالث: عقلانية الاغتراب الثقافي    578

الباب الخامس عشر: عقلانية الشك واليقين والنقد والتطمين       599

الفصل الأول: عقلانية الشك واليقين المبتورة       600

الفصل الثاني: عقلانية الشك واليقين المنخورة      643

الباب السادس عشر: عصر الأيديولوجيات الدينية (الإسلامية)   661

الفصل الأول: أيديولوجيا الانقطاع التاريخي وعقيدة البديل الشامل للإخوان المسلمين   661

الفصل الثاني: أيديولوجيا الدعوة الجديدة وتناقض البعد الإسلامي والثقافي .     675

الفصل الثالث: العقيدة الإخوانية وعقدة البديل الشامل.      685

الفصل الرابع: السلفية الفعالة - العقيدة الإخوانية وعقدة البديل الشامل    697

الباب السابع عشر: الأيدولوجية القومية     707

الفصل الأول: الأيديولوجية القومية الجزئية 707

الفصل الثاني:أيديولوجية الفكرة القومية الشاملة    749

الباب الثامن عشر: نيازك الفكرة القومية    797

الفصل الأول: أيديولوجية الثورة القومية    797

الفصل الثاني: حدس القومية الثقافية 807

الباب التاسع عشر:  أيديولوجيات الدمى المتحركة والاغتراب الشامل   818

الفصل الأول: "الشيوعية العربية"  818

الفصل الثاني: نيازك التقليد "المبدع" -  البوصلة المرتعشة لولع التقليد  834

الباب العشرون: نهاية الأيديولوجية وأزمة البدائل  842

الفصل الأول: معضلة القومي والثقافي في وعي الذات العربي     842

الفصل الثاني: فلسفة الأزمة – من تراث الأزمة إلى أزمة التراث 850

الفصل الثالث: الموقف من التراث   860

الباب الحادي والعشرون:  أزمة الهوية الثقافية وانتكاس "العقل العربي" 866

الفصل الأول: من الدعوة للعقل إلى نقد العقل        866

الفصل الثاني: حصيلة العقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث    886

الفصل الثالث: العقلانية العربية الحديثة وآفاقها     894

الباب الثاني العشرون: الموجة السياسية للمركزية الإسلامية الحديثة     906

الفصل الأول: المركزية الإسلامية قوانين التاريخ ومنطق الثقافة  906

المركزية الإسلامية الحديثة وإشكالية الزمن والتاريخ      906

المركزية الإسلامية الجديدة وصيرورة الفكرة السياسية    911

الفصل الثاني: التقاليد الإسلامية السياسية ووعي الذات السياسي الحديث 922

الباب الثالث والعشرون: الموجة الأخيرة للفكرة السياسية الإسلامية      954

الفصل الأول: الفكرة السياسية للسلفية الدينية        955

الفصل الثاني: الفكرة اللاهوتية السياسية    966

الفصل الثالث: الفكرة السياسية للإصلاحية الإسلامية      972

الفصل الرابع: الفكرة السياسية للإسلامية الثقافية   984

الباب الرابع والعشرون: البديل الإسلامي الحضاري المعاصر    1016

الفصل الأول: الفكرة الحضارية للسلفية الدينية     1017

الفصل الثاني: الفكرة الحضارية اللاهوتية  1028

الفصل الثالث: الفكرة الحضارية للإصلاحية الإسلامية    1058

الفصل الرابع: الفكرة الحضارية للإسلامية الثقافية 1066

الباب الخامس والعشرون: البحث عن البدائل.      1082

الفصل الأول: حكمة العقل التاريخي ونقمة الاستلاب الثقافي       1082

الفصل الثاني: تأصيل العقل والعقلانية وتلقائية الإبداع التاريخي  1090

الخاتمة         1098

 إن هذا الكتاب هو الأول والأوسع في مجال دراسة وتحليل صيرورة الفكرة العربية الحديثة والمعاصرة ووعيها الذاتي. فهو كتاب لا يتعلق بدراسة تاريخ الأفكار والاتجاهات والشخصيات الفكرية. إن موضوعه هو فلسفة الفكرة العربية، وغايته حدّ وتحديد معالم ومفاصل ونماذج ومستويات وعي الذات العربي، والدهاليز التي مر بها  في مجرى القرون الثلاثة الأخيرة، وحصيلة كل ذلك بالنسبة للحاضر والمستقبل.

وبالتالي، فإن غايته النظرية والعملية تقوم في التأسيس لفكرة المرجعية التاريخية الثقافية الخاصة، وتنظيم مبادئها المتسامية المافوق تاريخية، أي العاملة على صنع الاجماع النظري والعملي على المبادئ الأكثر أهمية وجوهرية وضرورية وعملية بالنسبة لبناء النظام العقلاني الإنساني الشرعي في كل مفاصل الدولة، ونظامها السياسي، وتربية الروح الثقافي العربي العام. ويتطابق هذا مع ما ادعوه ببناء وإرساء أسس المرجعية الثقافية والواحدية الثقافية وليست العقائدية. إذ لا يمكن للوعي الذاتي أن يبلغ استقامته الذاتية ما لم يؤسس في مجرى تطوره التلقائي منظومة المرجعيات الكبرى ومبادئها المتسامية عن كل ما هو عرضي أيا كانت ضرورته العابرة.

ذلك يعني، إنني ادرس تاريخ الفكرة العربية من اجل رؤية مسارها المجرّد، بوصفه مقياسا لقياس حرارة الوعي الذاتي (العربي)، ومن ثم معرفة ما إذا كانت هذه الحرارة تعبير عن صداع عقلي أم عن طاقة حيوية للخيال المبدع والرؤية المستقبلية. من هنا أهمية رؤية المسار العام والخاص للتيارات الكبرى التي شاطرت مسار الوعي النظري والعملي للفكرة العربية الحديثة والمعاصرة. وأقصد بذلك التيارات الأساسية (الدنيوي والإسلامي والقومي) بمختلف مدارسها وفرقها وشخصياتها التأسيسية.

 ففيما يخص الفكرة الاسلامية، فانها ابتدأت بالإصلاحية وانتهت بالسلفية المتشددة وانحطاطها المعنوي والفكري الشامل. فإذا كانت الفكرة الاصلاحية الاسلامية تهدف الى تحقيق الاصلاح الديني الشامل، فان السلفية المتشددة بمختلف تياراتها وشخصياتها هي التعبير الملموس عن دخول الفكرة الإسلامية بشكل عام والسياسية بشكل خاص مأزقها التاريخي، بوصفها خاتمة المرحلة الممهدة للانتقال من المرحلة الدينية السياسية في الوعي الثقافي الى المرحلة السياسية الاقتصادية.  

إن الفكرة الإصلاحية من حيث الجوهر هي دعوة وتأسيس لضرورة تقويم وتعديل "الاعوجاج" في حياة الأمم والعقائد (الدينية والدنيوية). بمعنى أنها تتطابق مع مضمون "الاستقامة" و"الطريق القويم" بوصفها الصيغة الرمزية والبيانية لإصلاح "الانحراف" و"الزيغ والضلال" عن "الأفكار الأولى" و"المثل السامية" و"الأصول". وبالتالي، فإن ظهور فكرة الاستقامة والطريق المستقيم تعادل معنى الثبات في طريق الحق والحقيقة. ومن ثم لا يعني الطريق المستقيم سوى طريق الحق وتاريخه. الأمر الذي جعل من "تاريخ الحق" على الدوام اشد أنواع الاستقامة اعوجاجا، لأنه يحتوي على كافة الممكنات والاحتمالات. وذلك لأن استقامة الحق والحقيقة متعرجة بسبب تعرجهما في مسار التاريخ الإنساني، بوصفه تاريخ المغامرة الحية للجبر والاختيار، او الإرادة الحرة والقدر الغائب في مشاريع المستقبل. وليس مصادفة أن يتوصل ابن سينا إلى القول، بأن كل ما هو عصي على البرهان يمكن رميه في حيز الإمكان، وأن يقول ابن عربي، بأن الاعوجاج في القوس هو عين الاستقامة فيه. وفيهما ومن خلالهما يمكن الوصول إلى ما يمكن دعوته بفكرة الاحتمال العقلي وفكرة البحث عن نسب تستجيب لحقائق الوجود كما هو، بوصفها الصيغة المثلى والأصل الثابت في وجود الأشياء كلها. فالجمال والحق والحقيقة هو بسبب ما فيهم من تناسق النسب الذاتية المثلى. ولكل نسبة مستوى يعادل معنى الاعتدال. والإصلاح في جوهره هو بحث عن الاعتدال الأمثل. من هنا نفوره من "الاعوجاج" وبحثه عن الأصول المثلى والمثل المتسامية، أي كل ما يمكنه تجاوز "الواقع السيئ" وتذليل مختلف أشكاله وألوانه.

فقد أبدع التاريخ الإسلامي مدارسه وأنماطه ونماذجه المتنوعة عن فكرة الإصلاح. وهذه جميعا بدورها وثيقة الارتباط بالعقائد الإسلامية الكبرى المتعلقة بالوحدانية والأمة والجماعة. الأمر الذي جعل من العقيدة الإسلامية الأولية العامة مصدر الفكرة النظرية والعملية للسلطة والدولة والمجتمع والأمة. مع ما ترتب عليه من بلورة تقاليد خاصة عن فقه الدولة والمجتمع والفرد.

إذ كان الدور والأثر الكامن للإسلام الأول يقترب، بمعايير التاريخ الواقعي آنذاك، من فكرة "الإصلاح الثوري" أو "الثورة الإصلاحية" الشاملة. وفي هذا تكمن خصوصيته بهذا الصدد. فقد احتوى بقدر واحد على إدراك قيمة الإصلاح الشامل، وفي الوقت نفسه بقي ضمن إطار الرؤية المعتدلة. بحيث تحولت فكرة الاعتدال إلى عصب العقيدة الإسلامية الأولى سواء بمعناها الإيماني (الديني) أو السياسي. وبهذا يكون قد وضع أسس الفكرة الإصلاحية (العملية) بوصفها حقا وواجبا بقدر واحد. وبلور بصورة أولية مبادئها الكبرى وغاياتها في مفاهيم وحدة الجماعة والأمة حول أركان الإيمان الإسلامي (العقيدة الإسلامية). وبهذا يكون قد أرسى أسس الوحدة الاجتماعية والأخلاقية والروحية والمادية الشاملة، بوصفها واحدية إسلامية، مبدأها الأول وغايتها:الوحدانية. أما نموذجها العملي ففي فكرة "الأمة الوسط".

وإذا كانت هذه العقائد العامة تكمن في أعماق الفكرة الإسلامية الأولى (المحمدية)، فإنها برزت للوجود بوصفها احتمالا تاريخيا وواقعا جديدا بعد موت النبي محمد. بعبارة أخرى، إن انتهاء مرحلة النبوة كانت البداية الأولية للتاريخ السياسي. مع ما ترتب عليه من حالة الانتقال من نموذج "الوحي المقدس" إلى نموذج الاجتهاد الواقعي. ووجد ذلك انعكاسه الأولي في ظهور فكرة الخلافة ونماذجها العملية من حيث الأسلوب والإدارة والنتائج، بما في ذلك في ما اصطلح عليه لاحقا بعبارة "خلافة الراشدين". لقد كشف ذلك عن أن فكرة الخلافة كانت تعادل ما يمكن دعوته بديناميكية الإصلاح وحدودها في الاجتهاد السياسي الجديد، أي فكرة الاجتهاد في بناء الدولة ومؤسساتها، بوصفها صيغة واعية لإشكاليات العقائد العملية ودراما التاريخ الفعلي.

أما المسار اللاحق "للعالم الإسلامي" بعد سقوط مراكزه السياسية الثقافية المستقلة (وبالأخص بالنسبة للعالم العربي) قد كان في اغلبه نتاجا للهيمنة الخارجية (الكولونيالية)، أي انه ليس مسارا تلقائيا. من هنا طابعه التقليدي. بينما يفترض الإصلاح الحقيقي والفعلي أن يكون "طبيعيا" بالضرورة، أي نتاج المسار الطبيعي لتطور الأمم وإنتاج خيالها المبدع.

إن "خاتمة" الإصلاحية الإسلامية لم تنته بعد! ومن ثم فهي تبقى جزء من الاحتمال التاريخي الأكبر للفكرة الإصلاحية (الدينية والدنيوية) في العالم العربي والإسلامي ككل. بمعنى أنها مازالت تحتمل إمكانية التوليف النظري والعملي بغيرها من تجارب الإصلاح الحديث. غير أن لهذا الخاتمة المنطقية منطقها المعقد في الروح والجسد الفردي والاجتماعي والقومي و"الإسلامي". والقيمة الحيوية للفكرة الإصلاحية الإسلامية الحديثة بهذا الصدد تقوم في أنها حاولت التدليل، متأثرة بتيارات الفكر العقلاني والإنساني الإسلامي والعالمي، على أن الإدراك الخالص للحقيقة يفترض الإخلاص لها، أي التجرد المادي والمعنوي والروحي والأخلاقي، بمعنى الارتقاء على الجسد ورميه تحت أقدام الحدس الروحي، بوصفها المقدمة الضرورية لكل إبداع حق. غير إن تجربة ما يقارب القرن ونصف القرن على تاريخ الإصلاحية الإسلامية كشفت عن هبوطها المتزايد وضمورها التدريجي، وذلك لأنها لم تتغلغل في صلب البنية السياسية للدولة ولم تجد من يجعل منها أيديولوجية أو فلسفة الإصلاح التدريجي.

أما الفكرة القومية العربية فقد كشفت تجربة قرنين مريرين من تاريخها عن بأس الكينونة العربية وبؤس صيرورتها الفعلية. بمعنى بقاء الإشكالية الكبرى للفكرة القومية كما هي، أي أنها لم تتجسد في بنية الدولة والمجتمع والثقافة، ولم تتحقق في الوعي الاجتماعي بهيئة منظومة من المرجعيات المتسامية. وفي هذا يكمن خلل الصيرورة العربية الحديثة على مستوى الدولة والأمة والنظام السياسي، وما يستتبعه بالضرورة من خلل في مواجهة التحديات الكبرى الداخلية والخارجية. باختصار كل الخلل المميز للكينونة العربية الحديثة، بوصفها كيانا مهلهلا تابعا خربا ومنحطا، رغم إمكانياتها الهائلة.

إننا نقف أمام تناقض مثير للدهشة والحيرة والتشاؤم يقوم في تعايش كينونة تاريخية ثقافية بشرية هائلة من حيث إمكانياتها، وأخرى بائسة وضعيفة وهشة في واقعها الحالي. وليس هذا التناقض بدوره سوى الصيغة الأكثر إثارة لطبيعة ونوعية الانفصام بين كينونة واقعية وأخرى وهمية. وغرابة القضية تقوم في أن صيغتها الواقعية (الحالية) هي وهمية، بينما صيغتها الحقيقية مجرد مثال. ومصدر هذه الغرابة يقوم في ما ادعوه بحالة التناقض الفعلي بين الزمن والتاريخ. فالكينونة العربية المعاصرة هي صيرورة زمنية لا تاريخ فيها، بينما الكينونة العربية "الأصيلة" هي المثال المتراكم في جذور الوجود التاريخي للعرب، أي في صلب وجودهم الذاتي. ومصدر هذا التناقض وهذه الغرابة يقوم في طبيعة ونوعية الانقطاع السياسي الثقافي للتاريخ العربي. مع ما ترتب عليه من تلاش تدريجي واندثار التاريخ الذاتي وهيمنة زمن الاغيار من صليبين ومغول ومماليك وأتراك عثمانيين، أي كل تلك القوى التي أدت إلى سحق الترابط والتراكم الضروري في الصيرورة التاريخية للكينونة العربية وانحلال مراكزها السياسية الثقافية الكبرى (بغداد ودمشق والقاهرة والأندلس). وتحليل كل هذه الجوانب هو جزء من مهمة البحث في التاريخ السياسي للعالم العربي. وهذا بدوره جزء من التاريخ العربي العام.

اما التيار الدنيوي فهو الميدان الذي يكشف عن ظهور وتراكم الصراع العقلاني وغير العقلاني، وظاهرة الاستلاب والتقليد التي كبّلت الكينونة العربية في صيرورة بائسة في وعيها النظري وسلوكها العملي.

إن إحدى الحقائق الجوهرية الملازمة لمنظومة الفكرة العقلانية وفلسفتها تقوم في ترابطهما الضروري بحالة الصعود والازدهار الثقافي. وهذا بدوره محدد بصعود الدولة والأمة. ذلك يعني أن كل منهما يحدد الآخر من حيث الكمية والنوعية والوظيفة، أو ما يمكن دعوته بمهمتها أو رسالتها التاريخية.

فقد كان صعود وأزهار الثقافة الإسلامية الأولى وثيق الارتباط باستتباب دولة الخلافة والأمة الإسلامية التي بلغت ذروتها الأولية في الخلافة العباسية. وهو السرّ الذي يفسر صعود واستتباب العقلانية الإسلامية بهيئة منظومة فكرية وثقافية عامة وجدت تعبيرها النموذجي في المعتزلة والفلسفة الإسلامية إضافة إلى علوم اللغة والأدب والمعرفة والعلوم. من هنا أصالتها وإبداعها العميق في كافة نواحي الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للدولة والأمة والثقافة. ذلك يعني أن العقلانية الحقيقية هي نتاج التطور التلقائي للفكر والأمة والثقافة والدولة في مواجهة وحل إشكاليات الوجود الذاتي. الأمر الذي يجعل من العقلانية الحقيقية والفاعلة بالضرورة منظومة تشمل العلم والعمل وبالتالي تتغلغل في كل مسام الوجود الاجتماعي.

ولكل مرحلة عقلانيتها أو عقلانياتها الخاصة. والحالة الأشد تعقيدا في بلورة حدود العقلانية ومعالمها وفلسفاتها في تاريخ الأمم هي حالة الانتقال إلى المرحلة الدينية السياسية والخروج منها إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. فالنموذج التاريخي الجلي للانتقال إلى المرحلة السياسية الاقتصادية يمكن رؤيته على مثال التجارب الأوربية التي استغرق استتبابها الأول ما يقارب ثلاثة قرون من التحدي والبحث عن بدائل وتأسيس العقلانية الحديثة.

إن العقلانية الشاملة ممكنة فقط في مجرى تذليل المرحلة الدينية السياسية ومرجعياتها ببدائل سياسية اقتصادية قادرة على صنع وحدة جديدة على أنقاض الوحدة الدينية العقائدية القديمة وأصولها، بحيث يكون النظام السياسي أولها، والنظام الاقتصادي أوسطها، وأعلاها منظومة التربية والتعليم والعلوم والثقافة.

ولا يمكن أن يحدث ذلك بمعايير التجربة التاريخية للأمم دون المرور بمرحلة الإصلاح الديني العميق، بوصفه الفكرة والطاقة المؤسسة للانتقال التدريجي والعميق والواقعي والمستقبلي من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. إذ لا بمكن للعقلانية الحديثة، أي عقلانية الفكرة السياسية الاقتصادية أن تستتب ما لم يجر تذليل مرجعيات وأصول المرحلة الدينية السياسية. من هنا ضرورة الإصلاح الديني. ومن ثم توسيع مداه وتعميق جذوره من خلال التجارب النقدية والتأسيسية للفكرة العقلانية. من هنا يمكن فهم نجاح التجارب الأوربية وفشل التجارب العربية.

كل ذلك يكشف عن أن المسار الوحيد والواقعي لإرساء أسس العقلانية في العالم العربي تفترض تأسيس فكرة الانتقال من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية من خلال نفي أصول الأولى وتأسيس أصول الثانية في الموقف من كل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للعالم العربي المعاصر ومستقبله.

كل ذلك حدد المهمة الأساسية لهذا الكتاب والقائمة في رسم حدود الفكرة العربية في الفكر العربي الحديث من اجل رؤية انجازاته وضعفه. ووضع حصيلة الدراسة والتحليل والنقد وتذويبها في رؤية فلسفية مستقبلية للفكرة العربية بوصفها فكرة قومية ثقافية.

إن كل مظاهر العصر الحديث والحداثة، والمقامرة والمغامرة، والمؤامرات والانقلابات، والثورات والثورات المضادة، لم تفلح بعد في إقامة نظام اجتماعي سياسي ثقافي يستند إلى قواه الذاتية، سواء في مسار الاكتفاء الذاتي أو التحديات الممكنة. فالأزمة التي تولدت عن ضعف المناعة الحضارية، التي واجهها العالم العربي في بداية القرن العشرين مازالت سارية المفعول بقوة تبدو الآن أضعاف ما كانت عليه حينذاك. حيث نقف أمام حالة أشبه بالانهيار التام للكينونة العربية.

وإذا كان لكل انهيار مقدماته، فانه أيضا ميدان البحث عن البدائل ومثار التفاؤل المغري بالنسبة للعقل والضمير في بحثهما وتأسيسهما لحقائق النفس وآفاق تطورها. فالحياة ليست تجربة خالصة. لكنها تحتوي في طابعها "التجريبي" على عناصر اليقين المتراكمة في تاريخ الانتصارات والهزائم والصعود والهبوط. ومن العبث البحث عن عناصر اليقين التاريخية في الكيان العربي دون تأمل وحدته العميقة، التي تحتوي على العناصر الجوهرية للتاريخ الواقعي والمثالي بوصفها مكونات فعالة في وجودنا الحالي. ولا يعني ذلك النظر إلى "وجودنا الحالي" كما لو أنها مقدمة مادية تبرهن على عناصر اليقين المذكورة أعلاه. فالجميع أقوام وأمم تتمتع بهذا القدر أو ذاك من هذا "الإثبات الوجودي". وبالتالي، لا يشكل هذا الوجود بحد ذاته دليلا على الوجود الثقافي الحي.

وتكشف التجربة التاريخية للأمم بأن الصعود الحضاري الأصيل والعمران الشامل يستند بالضرورة إلى نواة داخلية تشكل مصدر الإمداد الذاتي والنفي الحر للأفعال الاجتماعية والسياسية والثقافية والقومية. غير أن ذلك لا يعني وضع أو صياغة عقلانية ثابتة المبادئ والقواعد، بقدر ما يعني التأسيس لمنظومة البحث عن علاقة مرنة بالتاريخ تستند إلى قواها الذاتية. وهي منظومة لا يمكن تأسيسها بالنسبة للعالم العربي إلا عبر وحدته العميقة بتراثه الخاص، أي بتجاربه الذاتية المتنوعة والمختلفة ونتائجها العملية. ففي هذه الوحدة تتكشف حقائق التاريخ العربي، بوصفها الحلقات الضرورية لبناء وعيه الذاتي.

ويفترض بناء الوعي الذاتي بالضرورة تجاوز ربط التاريخ الحضاري للعالم العربي وآفاق تطوره بزمن غير زمنه الذاتي. فهو الزمن الوحيد القادر على التحرر من ثقل وأوهام المقارنات الشرطية بزمن الآخرين. وذلك لأن الزمن الثقافي زمن تاريخي مقترن بمنطق الحق والحقيقة لا بمنطق الضعف والقوة. فالأول هو مصدر التصيّر والاستمرار، بينما الثاني عرضة للتغير والزوال.

فالعالم المعاصر يصنع مقدمات جديدة ويضعنا أمام حوافز إضافية تجاه القضايا والإشكاليات الفلسفية الكبرى في التاريخ والثقافة والعقائد والسياسة، مثل قضايا وإشكاليات التطور والتقدم، والتاريخ والغائية، والقانون والصدفة، والتاريخ العالمي والقومي. كما استثارت هذه الظاهرة بقوة أكثر مما سبق إشكاليات البدائل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وقضايا الوحدة والتنوع الحضاري الإنساني.

ولا يقف العالم المعاصر أمام مفترقات طرق لابد منها، رغم أن المسار العام يبدوا أحديا في ما هو متعارف عليه "بطريق العولمة". أما في الواقع فإن العولمة المعاصرة مازالت بلا هوية ذاتية، وذلك لأنها حصيلة تطور ثقافي واحد واقتصاد معولم. بينما المسار التاريخي المستقبلي هو أولا وقبل كل شيء مسار الوعي الثقافي. الأمر الذي يستلزم بالضرورة تكامل مختلف مركزياته الثقافية العالمية. وعند اكتمال مساره "الطبيعي" أو "نهاية التاريخ" الطبيعي عندها يصبح من الممكن الحديث عن عولمة محكومة بمنظومة مرجعيات جديدة تمثل تجارب الكلّ الإنساني بمختلف ثقافاته الكبرى. وما قبل ذلك، أي مما يجري الآن هو مجرد صراع مستمر ومواجهات لن تنتهي ما لم تنته المواجهات الداخلية للمراكز الثقافية أو الحضارية الكبرى في وحدات متناغمة. ولا يمكن بلوغ ذلك خارج إطار الصيغة الفعلية لثنائيات المنطق الثقافي في كيفية حله لإشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي في مراحل التاريخ الذاتي، أي كل ما يستجيب لمسار التاريخ الفعلي ومنطق الثقافة.

إن العقلانية الشاملة ممكنة فقط في مجرى تذليل المرحلة الدينية السياسية ومرجعياتها ببدائل سياسية اقتصادية قادرة على صنع وحدة جديدة على أنقاض الوحدة الدينية العقائدية القديمة وأصولها، بحيث يكون النظام السياسي أولها، والنظام الاقتصادي أوسطها، وأعلاها منظومة التربية والتعليم والعلوم والثقافة.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

 

في المثقف اليوم