قراءة في كتاب

النص والواقع: قراءة في كتابات طيب تيزيني

صالح الرزوقلم يكن المرحوم طيب تيزيني مولعا بمشاكل الدين، ولكن اهتمامه بتجديد العقل العربي وتثويره قاده بالضرورة للدخول في حقل ألغام إسلامي. وفي المقدمة مشكلة النص وعلاقته بالتاريخ والروح. وضمن مشروعه الطموح لإعادة كتابة تاريخ الأفكار وتطورها من متبوع إلى تابع، أو من نص إلى عقل، تكبد عناء قراءة متأنية وجريئة لجملة النصوص التي وضعت حدودا ثابتة ونهائية لفضاء المقدس عند المسلمين. وهذا هو موضوع كتابه “النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة”*. وقد افتتحه بإعادة النظر بمصطلحين هما: الأصولية والسلفية. واقترح استبدالهما بالأصولوية والسلفوية على أساس أن التنسيب بالعربية مع الفرد وليس الجمع. ص 25.  ثم انتقل للتأكيد على أولوية الجانب الواقعي للقرآن، وابتعاده عن الخوارق واللامعقول ولا سيما كل ما يمس سيرة النبي. وكان يفسر معجزاته على أساس أنها تجري بالمنام وتأخذ شكل رؤيا تعبر عن واقع يمكن للمنطق أن يفهمه. ويمكن القول إن القرآن شكل وجها من أوجه تاريخ الأفكار والمعتقدات عند العرب، وتحول في مرحلة لاحقة لمحفز لها على نحو مباشر أو بوجود وسيط ص 6.  ولكن لم ينفرد القرآن بقيادة السفينة وتآزر معه الحديث النبوي ومأثور علي. وأضيف من عندياتي بندا رابعا هو السيرة التي تداولها الصحابة وتضمنت الأفعال والأخلاق النبوية التي لم يرد بها قول أو لفظ. فقد كانت أفعاله مشروطة وموضع متابعة بمنتهى الدقة والاهتمام انطلاقا من افتراض أنها تلبية لأوامر المشيئة الإلهية أو الوحي.

ومن هنا تبدأ المشكلة.

فالسلفوية، على حد تعبير الدكتور تيزيني، حولت الواقع إلى نص له بنية مغلقة باتجاه ذاتها وكل ما يقع خارجها. وفي مرحلة تالية أجبرت الواقع على أن يكون من إنتاج نص سابق عليه، ص 12. حتى أنها في خاتمة المطاف وصلت لاستئصال مضمون الوحي ذاته. وإذا كانت الدعوة أساسا قراءة موضوعية لتبدل عضوي في الواقع، تحولت في الوقت الراهن، لافتراضات من النص وبعزلة تامة عن شروط تكوينه. ويأخذ الدكتور تيزيني على السلفوية أنها تنكر احتمال وجود علاقة بين النص والواقع من طرف، وتنكر دور الواقع بإنتاج النصوص. ويسوق للتوضيح قاعدة الشاطبي المعروفة “أنه لا اجتهاد بما ورد فيه نص”. مثل هذه القاعدة تجعل المدونة مصدرا فعليا للحياة، وتهمل دور الجزئي والكلي، أو ما يسميه المفكر الإسلامي ماجد الغرباوي “فعلية النص”. فعمل أي قاعدة فقهية ينتهي بنهاية فعليتها كما في آية السيف مثلا. وبمجرد زوال الخطر عن المسلمين لا يكون للجهاد مبرر بل بالعكس يتحول لغزو واستعمار. وربما لهدف اقتصادي وهو إغناء بيت المال بالثروات. ولا يوجد، كما يضيف لاحقا، آية واحدة في القرآن تحض على المباشرة بالحرب. وكان موضوع القتال محددا وهناك أكثر من إشارة على عدم جواز القتال الابتدائي لنفي شبهة العدوان عنه ص 55 (1).    

1546  النص القرآني طيب تيزينيوبتعبير الدكتور طيب إن الجزئيات لا تدخل في نطاق وصلاحيات لحظة النزول، ولا يمكن أن نفسر نفس الأعراض بنفس السياق. فأسباب التأخر والتخلف في القرن السادس لها علل اجتماعية وطبيعية مختلفة عن الوقت الراهن، والطبيعة متغيرة والمعرفة افتراضية، ولا يجوز أن تكون الروح وإشكالاتها محدودة. باختصار كانت حركة  المسلمين الأوائل تتجه من الوضعية الاجتماعية إلى النص، ولكن الحركة الحالية تتجه من النص إلى الواقع. وهذا يشكل خيانة فادحة لمعنى الفكرة، فما نفترض أنه وعي للوعي أصبح مجرد وهم للوهم، ولم تعد الفكرة تفسر الواقع بل فكرة غيرها. ص 36.

وأعتقد أن طيب تيزيني أراد أن يقول إن المعرفة نشاط خارجي له علاقة بفهم وإدراك ما يجري حول العقل وليس داخله فقط. وعليه أصبح لدى المسلمين مرجعيتان: النص الديني من طرف ومصادره من طرف آخر، وتشكلت بين الاثنين مساحة رمادية تحولت إلى قضية بحد ذاتها، ص 56 . وترتب على ذلك صيغة مفروضة لها حدود تنتجها الحوامل الاجتماعية. و ما يزيد من إشكالية هذه الأطروحة أن للخطاب فيها أربعة أطراف وليس ثلاثة.  وهم المرسل (الوحي)، والمبلغ (الرسول) والرسالة (القرآن) والمتلقي (المؤمن). وأضيف من عندي طرفا خامسا بمنتهى الأهمية والالتباس وهو الله. فهو ليس كمثله شيء. ونحن لا نعرف كيف جرد الوحي منه وكيف حمله كلامه، وليس لدينا فكرة واضحة عن الصيغ والألسن التي استعملها الوحي سوى إشارات غامضة تدل على عدد لا متناه من اللهجات. ولا يعقل أن يحتمل مجتمع محدود الكثافة مثل مجتمع الحجاز ألف ألف لغة (بمعنى مليون لهجة). وينتبه طيب تيزيني لهذه المشكلة ويستنتج منها وجود مستويين من مستويات الإبلاغ. واحد مجهول وخاص بالوحي وما فوقه، وآخر سردي يقبل الإضافة والتكهن وهو خاص بالوحي وما بعده، والمقصود به الرسول. ويصطلح تيزيني لهذه البنية الهرمية اسم مستوى سرد إلهي وآخر نبوي. وطبعا بينهما تجليات القدرة الإلهية أو الوحي. ولا يسعنا هنا إلا  أن نرى في القرآن نصا مركبا من ناحية ومفتوحا من ناحية ثانية. ص 61.

ويصح هذا الكلام على الأحاديث أيضا وضمنا الصحيحة منها، فهي روايات منقولة أو موضوعة ويدخل في تحديد معناها الصياغة وطرائق التفكير، وهي عرضة للاختراقات الايديولوجية والسياسية، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بأصل الرواة ومصادرهم. بمعنى أنه لكل حديث قراءة احتمالية مفتوحة. غير أن السياسة لعبت دورا أساسيا في اعتماد حلقة من الرواة واستبعاد حلقة تفننوا في أساليب إلحاق الأذى والضرر بها كالشيعة والمعتزلة أو ما يسميهم ابن سيرين أصحاب البدع ص 70. ولذلك إن تثبيت أي حديث، ومنها ما ورد في الصحاح هو في الواقع تثبيت لاجتهادات وفلسفة سلطة معينة كما قال تيزيني نقلا عن نصر حامد أبو زيد. ص 72. وبتعبير رشيد إيلال كان تجريح الرجال أو تثبيتهم أهم لدى الرواة من مضمون الحديث نفسه (2). وهذا ينسف قاعدة أساسية لها علاقة بعلم الألسن (لو احتكمنا لمصطلحات شومسكي) وهي أنه إذا صحت القاعدة وبطل المنطق يسقط الخطاب. وقد فرق أبو جعفر الهاشمي المدني بين أحاديث كلام حق (مقبولة) وأحاديث النبي (منقولة). ص 72. ولذلك يجوز لنا أن نعتقد أن الأحاديث نصوص مركبة بعضها صحيح بالمعنى والمبنى وبعضها صحيح بالمعنى فقط. وينجم من هذه القضية سؤال آخر: هل ننسب معنى الأحاديث القدسية للرسول باعتبار أنها جزء من خطاب الذات الإلهية بعينها أم ننسبه لحاملها فقط؟. لقد أسهمت هذه الخلافات في بلورة تيارين فاعلين هما أهل الحديث وأهل الرأي ص 73. ومهدت الطريق أمام دور هام لمؤثرات خارجية تصب في النص وتأتي من الواقع بأبعاده الروحية والأدبية والنفسية. وحتى لو سلمنا أن النص حد مستقر وثابت ولا لبس فيه، يبقى المعول على طريقة فهمه أو معناه. ولك أن تتصور مرونة ومطاطية المعاني في ظل سلطات أبوية تحتكم للسيف وحده. في ظل هذا الظرف المأساوي يكون النص مشلولا وقليل الأهمية.

ويلاحظ الدكتور طيب أن عملية التحول الذهني في عصر البعثة تبدلت لتحول نوعي بصيغة عسكرية مسلحة وأد إنجازات عصر الرسول في مجال الحقوق العامة. ص 94. ولا يمكن لأحد أن يفهم التناقض المخيف في إجماعنا على عصر الخلفاء الراشدين. كيف نوفق بين مفهومنا عن نظافته وطهارته مع بشاعة ودموية ما جرى لعثمان ثم علي. وكيف نبرر اختلاف صحابة من الصف الأول حول أحكام آيات القرآن وتعاليم الرسول.

وبمحاولة للإجابة يعزو تيزيني ما حصل لأسبقية الواقع المشخص على النص ص 95، وقسوة الواقع وضرورته أمام الخاصرة الطرية للنصوص. فالتأويل من صناعة أهواء البشر وليس النمط أو العقل البشري. فالواقع يطرح أسئلة تستفز النص وتحوله من كتلة منتهية إلى خطاب ذاتي. وبلغة تيزيني أيضا: النص هو آخر من يتكلم بذاته ص 98. ويستعير من كونديرا  عبارته المعروفة: إن الواقع غادر والنص مغدور، ص 101. وهذا كلام يذكرنا برأي لسعد محمد رحيم عن العلاقة بين تسلسل الأفكار والأحداث حيث أن أسلوب التدوين متعمد غالبا وتنقصه الموضوعية.

وهذه العلاقة الإشكالية بين المكتوب والحياة أو المدونة والوقائع هي المسؤول الأول عن نشوء المذاهب والاختلاف في أساليب القراءة.  وقادنا ذلك إلى قاعدة فقهية معروفة مفادها أن تغير الأحكام يكون بتبدل الأزمان، ويسميها تيزيني مطابقة النص للواقع، ص 108. ولكن ما هو دور علاقة النص بالنص ولا سيما القرآن بالحديث. لا يوجد رد جازم. وهناك من يرى أن السنة حاكمة على الكتاب (بمعنى أنها تفسره) أو أنها تنسخه (تبطل مسائل مثبتة فيه). ويستند تيزبني لهذا الرأي على قول للرسول ينص أن الناس أعرف بشؤون دنياهم بينما هو أعرف بأحكام دينهم. ص 108. وربما هذه واحدة من مواضع نادرة يفصل فيها النص نفسه عن مصادره. لكن هذا لا ينفي وضع السنة بجانب القرآن فهي أكثر تشخيصا وتخصيصا . ص 109. ويقودنا ذلك إلى نفس المشكلة: أنه على النص أن يكون حكرا على نص مثله، أو أن تخصيص الغائب لا يمكن أن يلغيه غير تخصيص الحاضر. وهذا منبع أساسي لظاهرة اغتراب النصوص عن واقعها، ص 110.

ويبدو أن الحساسية التاريخية التي فهمها الرسول في حينه أعطت للنص دورا وظيفيا، بينما موت هذه الحساسية عند الجهاديين المعاصرين خلق ظرفا خارجا عن سياقه. فالحلول المتخيلة لم تكن مناسبة لواقع الأحوال، وفشلت في ردم الهوة الروحية، وأصبحت أدوات الإسلام المعرفية لا تترجم أدواته الروحية. وعوضا عن أن تسرع التحول الاجتماعي من اقتصاد الندرة والفوضى وقفت عند حدود الإجراءات المحلية والمؤقتة. وغني عن القول أن هذه الحالة تفرض علينا التمييز بين نص إسلامي أول /أصلي وفكر إسلامي/تفرع عنه ص 131 . وهذا يسمح لنا باكتشاف التحول الذي طرأ على الروح تمهيدا لعدة صيغ كان آخرها تفكير عصابي مصاب بالشيزوفرانيا ومنقسم على نفسه إلى تيارات سلفية مع الكفاح المسلح وتيارات أصولية تؤمن بعمل المجتمع المدني أو لعبة السياسة المقيدة. ويسميه أتباع الموجة الثالثة للتنوير بالإسلام الحركي. وهو اصطلاح يشمل كافة الجماعات الإسلامية سواء كانت تؤمن بالتنظيم السياسي أو تكتفي بالجهاد.

ومثلما هناك خلاف حول ماضي هذه النصوص ونظافتها يوجد خلاف حول ما تبقى منها نشيطا وفعالا في الوقت الحاضر، ليس من ناحية التأويل فقط وإنما في أساليب التطبيق أيضا. وبالأخص فيما يتعلق بجانب الحقوق المدنية وتوزيع الثروات العامة.

ويحتل ترتيل القرآن مكانة أساسية في تحديد المعنى، لذلك إن دور الإنشاد والاستماع ليس مسألة تتعلق بالحواس فقط وإنما لها قيمة معنمية بتعبير تيزيني، ص 139. وبهذا الخصوص يكون للتسكين والمد نفس الدور الذي تلعبه الحروف. فهي تؤسس لعلاقة أساسها الحوار الموضوعي مع الذات أو الخشوع. وإن كان الإنصات يسهم بشكل معنمي في توسيع وتوجيه المعنى، وهو مبدأ قريب من الفسحة المضيئة للمعاني (بتعبير سامي أدهم) فهو لا يختلف كثيرا عن اندماج محارف النص في قيمة جوهرية واحدة تؤسس لحوار بين أطراف متساوية (الله المتعالي، والمنصت والمنشد المجسدين لمبنى ومعنى كلام الله). وهنا يتحول القرآن إلى نشاط مزدوج أو سلاح له حدان: الكلام بسياقه والنص بخلفياته التاريخية.

وللأسف مثلما تمنح هذه الحقيقة القرآن قيمة حركية غير سكونية وبعدا إنسانويا يعيد ربط العقل الجماغي بمصلحة الأفراد وعلى أساس ديمقراطي يشرط التنفيذ بالفهم والاقتناع والتجسد فإنه أيضا يمكن أن يقود لإسدال حجاب يحجز الفعل الخارجي عن الفضائل. وبالتالي يلغي أي دور للبشر أو يخنق بذرة الشروع بحوار مع الشروط. وهو ما يحرم المستمع من الفهم العفوي للنص ص 142. ولذلك علينا أن نقر إن التحول من الحقل البنيوي إلى الحقل القرائي الوظيفي يخلق شبكة من الخيوط التي تنقطع وتنفصل وتضعنا حيال ما يجوز لنا أن نسميه كلام الآخر ص 156. وربما هذا ما يعنيه لاكان بالآخر الأساسي (ألف كبيرة) ويشير به لنقلة راديكالية في المعنى. وهو الحقل الذي ينتمي إلى اللغة والقانون أو عالم الرموز. وبلغة أبسط هو كل شيء مفروض علينا ونتقبله على أنه جزء من مكوناتنا الشخصية. ولذلك يجوز النظر إليه على أنه تتيجة تراكم تخيلات رموزية تصنع لنا عالما وهميا نحتمي به.

ويمكن القول إن الإسلام الأول آل بعد جملة التحولات المعقدة إلى الإسلام الشعبي الذي انطوى على عادات وتقاليد إثنية واجتماعية وضعت حواجز بين المسلمين، بحيث أنهم تحولوا لمجتمعات إسلامية لها تطبيقات وعبادات متباينة. وقاد ذلك فيما قاد إليه لتشكيل المذاهب (الجانب الثقافي من الدين) والجماعات (الجانب الحركي والعسكري منه). وبرأيي قاد ذلك بدوره لتكوين ذراع ضاربة للمجتمعات الإسلامية أخذ شكلا بيروقراطيا في أوقات الشدة وشكلا براغماتيا في أوقات الرخاء.  وساعد على هذه الظاهرة ما يسميه تيزيني الطبيعة المركبة للمصادر، أو التمييز النظري بين الكتاب واللوح المحفوظ. فالأول بمتناول اليد والآخر تصور وله قيمة شمولية يجب أن تحيط بكل شيء لدرجة أنه يتناهى مع الماهية الغامضة والمستحيلة للخالق نفسه. وإذا كان الكتاب دستورا للمسلمين فإن اللوح المحفوظ هو الحاكم على هذا الدستور لما يتضمنه من نظام معرفة على وجه المطلق كالله نفسه، وبالتالي يحوله لشيء تعجز التصورات عن الإحاطة به منطقيا و يتطلب منا التسليم به.

وأعتقد أن موجة التنوير الأولى عولت كثيرا على هذه الثنائية كي لا تكسر علاقتها مع الجانب الغائب من الهوية الإسلامية الأمر الذي تسبب بإجهاضها وابتلاع الدكتاتوريات لها مجددا. ويمكن القول إن الفرق والمذاهب في الإسلام لا تدين بوجودها لخلافات في العقيدة، ولا بطريقة فهمها لأن الفهم يأتي من اتجاه النص وليس من خصوصية معناه. بتعبير آخر التشابه مثل الاختلاف من ناحية استحالة التكرار وحتمية التحول. فالقرآن والحديث كلاهما يحمل صفة إجمالية وكلاهما له هوية جوهر كلي. أما الإشكالية فهي مفروضة عليهما من خارج الخطاب وتحمل بصمات الحياة الدينية العامة التي تنتسب لما يسميه ماجد الغرباوي قبليات النص. ويفهمها تيزيني بمعنى شيء يعمل من داخل البيئة المنتجة لنظام القراءة أو من تحت النص وهي تحديدا: الخصائص أو ما نسميه حاليا  الانتماء والهوية ومنها الأصل العرقي والاجتماعي وطريقة التفكير والشريحة ثم أخيرا الاتجاه السياسي ص 236.

ولكن ما لم يلتفت تيزيني لأهميته هو تناحر الخطاب مع نفسه. فمع أن التعاليم تتجه نحو العمومية ومن المفروض أنها موجهة إلى كل البشر، أخذت المسائل المتعلقة بالخلافة اتجاها خصوصيا حصرته في قريش. ومن البديهي والمنطقي أن تقود هذه الإشكالية النص إلى حدود يجد نفسه في نهايتها مع التشخيص بصيغة مقفلة  ص 245. وبذلك نكون قد ألغينا قاعدة فقهية أساسية في القرآن وهي دور المحكم وأبقينا على دورالمتشابه القابل لتعدد القراءات والتفاسير. وعليه أمامنا سمة ثالثة لا بد من العناية بها وهي التأويل.  ص264. ولا شك أن اقتحام النص بالتأويل يخضع لمقتضيات وضعية أو وضعيات اجتماعية  ص264. وقد دشن الانتقال من الرواية إلى الدراية مرحلة أحاط بها الكثير من الالتباسات، وفي المقدمة ظرف الانحطاط التاريخي الذي استهان بشرط الحرية في الاجتهاد والتوسيع في العقل، وأسقط التفاصيل والجزئيات فوق العام  والكلي وكأن الرسول لم يذكر أن التأويل بمرتبة التنزيل كما ورد على لسانه في حديث له عن علي بن أبي طالب. ص 276.

هذه الإشكالية زودت النص بثلاثة سطوح: ظاهر وواضح وباطن. والواضح هو ما لا اختلاف عليه. ولكنه جزء من وعي تأويلي يقبل الإجماع  مثل أداء الشهادتين. ويبقى كيفية هذا الأداء ونسبيته محط أخذ ورد، وهو موضوع الباطن أو كل ما ورد به نص. فهو بتعبير الغزالي غير جامد ووراءه مرقى ص 302. وبتعبيره أيضا هو كل ما فوقه أسرار. ص 302. وهذا الجزء هو المقصود بالعلوم الإلهية. وبرأي تيزيني من هذه الحقيقة نشأت ثلاثة مستويات للإسلام: الأول للسلطة. والثاني لنظام المعرفة (إسلام نظري) والثالث للطقوس (المعروف بالدين الإسمي وبلغة تيزيني الإسلام الشعبي) ص 304. وبمصطلحات النفري هذه المستويات هي تعبير موضوعي عن الهداية بالقلب أو السمع أو التعلم. ص 329. ومن هنا تفرعت فئة الإسلام الفردي. ص 322  أو دين الإنسان الإلهي الذي لا يحتاج لتوسط بينه وبين معارف خالقه. وبذلك ضمن الإسلام لنفسه أن يكون دينا رحمانيا يحرص على واقع التوسيع لا التضييق والتأزيم، وأن يضع حدا لعنصر التعالي والمفارقة. و هي الغاية الحقيقية لأي دين: أن يحل المشاكل لا أن يخلقها، وأن يصالح بين الإنسان وحياته ولا أن يعمل على بتر علاقته بواقعه. وعليه يمكن القول إن أساس الفكرة الإسلامية هي في تصعيد الروح لتكون مرشدا للمجتمع. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف بمعزل عن الأساليب الديمقراطية. فالروح لا تفهم القسر ولا الضغط. والإجبار  يجرحها ولا يداويها. ويتضح ذلك في البنية المنطقية للقرآن التي أخذت شكل عملية متتالية من التكون والفعل والاستجابة وفي إطار حواري بين الرسول وخصومه. وهذه الحوارات كما يرى تيزيني بعيدة المدى وغير موضعية ولها بعد كوني، ص 355. بتعبير آخر كانت تتحلى بوعي تاريخي وبصيغ مضمنة وغير مباشرة ص 356. وما يؤكد الطبيعة الديمقراطية للقرآن أنه نزل بسبعة حروف، كل منها يحفظ شكلا من أشكال لغات العرب ولهجاتها، ولم يدفن هذه الظاهرة إلا الإيذان بعودة الأوتوقراطية التي أسس لها عثمان بخلافته. ويجد تيزيني نفسه مضطرا للإشارة إلى وجود مصحف أموي عثماتي يبرر موقف أنصاره خلال الاضطرابات كما ورد في تاريخ الطبري، ومصحف للمعارضة الإيديولوجية. ص 404. ولا ينسى أن يشير للخلاف السياسي بين عثمان وبين واحد من الرواة الموثوقين وهو عبد الله بن مسعود والذي كان يحك المعوذتين من مصاحفه، ويقول إنهما ليستا من كلام الله كما روى أحمد في مسنده ص 397، ناهيك أنه هدد بحرق مصحف عثمان لو واتته الظروف وامتلك السلطة حسب رواية موثوقة للطبري . ص 407.  وهذا ما حدا بالإمام أبي الحسن الأشعري لأن ينفي عن القرآن المكتوب صفة الألوهية، وذلك استتادا لمقولة فلسفية، والتعبير لطيب تيزيني، ترى أن الله مقولة مطلقة يمنع تجزيئها، وهو غير مشروط بحدود العقل البشري، ولا يجوز تجسيده بكلام منفصل عن ذاته. ص 410.

تبقى عدة ملاحظات لا مندوحة لأي قارئ من الانتباه لها.

أولا- ما هي ماهية هذا الوحي الذي تكلمنا عنه كثيرا. ما طبيعته. وكيف يتصل بالنبي. وهل هو مجاز أم رمز. لا يقدم الدكتور تيزيني أي إيضاح، ويقفز من فوق المسألة كأنها غير موجودة. وربما لم يرغب بتكرار ما سبقه إليه  هشام جعيط الذي يرى أن أصل الاسم عبراني وهو جبر - إيل. ويعني حرفيا قوة الله، ويأتي بمنزلة إدراك ما لا يدرك عامة وعادة ص 57(3).

ثانيا - لا يوجد أي مساس لدور تضارب الهويات العربية في صياغة نسخ متعددة من الإسلام الديني. لقد أثرت  شخصنة الهوية على أنسنة الدين وتحويله من أفكار متعالية إلى عبادات. ويمكن أن تفهم أن حركة الأفكار باتجاه تخصيص علاقاتها أدى إلى انتاج أديان إسلامية متجاورة، ولنأخذ لبنان على سبيل المثال. هناك علاقة عضوية بين المجتمع الجزئي الحاضن والمفهوم الروحي للعبادة. ويمكن أن تلاحظ بسهولة أن التجاور محكوم بحدود محسوسة تقسم المجتمع إلى جيوب بشرية لها مرجعيات متناحرة في السياسة والاقتصاد والولاءات أيضا. وأعتقد أن المشكلة ليست في تفسير الدين وتأويل النص بقدر ما هي نتيجة واقع اجتماعي تقوده مصالح وجودية. وإذا كان الإجماع على الهوية الوطنية هو الحكم في هذا المضمار لكن حتى هذه الهوية تبدو ممزقة، وتعاني من التشرذم ببن سلم الأولويات.. هل فكرة السيادة تأتي قبل المقاومة، وهل مبدأ المقاومة يتنافى مع حرية الحكومة باتخاذ قرار سيادي. ومن هو الصديق فعلا والعدو فعلا؟؟؟. إنها جملة إشكاليات تضع مشكلة الحدود بين المذاهب تحت مشاكل ساخنة وأكثر إلحاحا وهي مشاكل وجودية تعيد خلط الأوراق وتحول الحياة في بلد واحد إلى أمنية صعبة يحيط بها التحسس والشك.

وحتى لا نبتعد عن موضوعنا أعيد صياغة كلامي بلغة أوضح: الخلافات الخارجية لم تساعد على ردم الخلافات الروحية وإنما ألهبت مصادر النزاع القديمة، وكشفت عنها الغطاء وقدمت لها أرضا واقعية لتجعل من الوحي الواحد اثنين، ومن الإسلام الإجمالي عدة صيغ بينها ما صنع الحداد. وقد ساعد ذلك عمليا على خلق كونتونات وغيتوات ضمن دويلة صغيرة واحدة. ويبدو أن النزاع على السلطة دفن الأبعاد الروحية لهذه الجماعات وحولها إلى أبعاد احتماعية فعلا. وتكتشف سوريا والعراق هذا الطريق نحو واقع اجتماعي لا سياسي ولا ديني، وربما تحركه مصالح دولية واقتصادية ستعطي الإسلام والتصورات الوطنية تذكرة عبور لعالم أو تاريخ غريب تكتب له السيناريو حاليا حركة تهجير الأفكار وصناعة الهويات. وربما ستكون النتائج موازية لما حصل مع لحظات مفصلية في تاريخ النوع البشري مثل لحظة إبادة كولومبوس لقارة وإحلال قارة بمكانها، ومثل لحظة إغراق كوك لأستراليا بمجتمع من الجناة والمذنبين. إن ما جرى في أستراليا يكاد يكون أغرب وأعجب مما حصل في مسرحية “في مستعمرة العقوبات” لكافكا. من هذا الألم تكونت حضارة صناعية وسعت من المدى المجدي لإمبريالية العقل الأنغلو ساكسوني الأبيض. وكل المؤشرات تدل أننا على وشك حفر صدع عميق في الهوية الإسلامية لعرب الألف الثالث بعد الميلاد.

ثالثا - كذلك لم يقارب تيزيني المشكلة لاقتصادية بوجهها التجاري والتي عبدت الطريق لتسويق شخصية محمد قبل أن تنقض عليها وتستأنسها في أوليغارشيتين رأسماليتين قامتا على أساس حكم العائلة، وهما بنو أمية ثم بنو العباس. ولا أستطيع أن أنكر أن الوجه الاقتصادي لإسلام المجتمعات هو الذي يعزل ويربط. فالاقتصاد الموحد والمتجانس في أسواق الخليج تغلب على الطببعة الكوزموبوليتانية للمجتمع، وساعد على تطويف هوية إسلامية تحمل شعارها أو استراتيجيتها الخاصة. وبلغة مباشرة لم يترك أي مجال لتنامي التضارب ببن الشعائر وإنما جعل لها قيمة تداولية متماثلة. في حين أن اختلال آليات الاقتصاد والنشاط التجاري في العراق بعد سقوط الحكم الدكتاتوري نجمت عنه عدة خطوط لكل منها ترجمة خاصة لمضمون وحتى شكل الإسلام. صحيح أن دولة العسكر هي غير دولة السوق لكن أيضا إن استراتيجيات السوق لا تشبه بأي حال من الأحوال سياسة الدكاكين المفتوحة التي تستبسل لكسب الأرض في حروب اقتصاد بطيء ومتخلف ومدين. ولا أريد التذكير أن النظام العسكري اعتمد على سياسة دكاكين الدولة، ولذلك لم تكن لديه تصورات اقتصادية وإنما برامج استوردها مثلما نستورد حاليا السوفت وير وحزمة أوفيس مايكروسوفت للحواسيب. لقد أسهم ذلك لحد بعيد في عزل الخطاب عن القوة المنتجة للعبادات وأدى لتطوير جيوب متجاورة لديها تصورات متناحرة بكل شيء ومن ضمنها التعبير الروحي عن رأسمالية الدين وتطبيقاته. وبلغة عملية سرع من فرز الكيانات إلى مستفيد من اقتصاد التشغيل الخارجي والتحويل، وإلى مستفيد من اقتصاد الجمعيات الإدخارية ،ولفئة محرومة من هذه الروافد.

رابعا - وفي معرض متابعته المستفيضة واللماحة لمشكلات التحول من النص إلى الواقع ومن الكل للأجزاء لم تتوفر له الفرصة ليلتفت لفرق هام بين محورين في الإسلام، وهما الإسلام الثقافي والعملي. ولا أعتقد أنه يمكن أن نعزو للأول صفة نظرية وللثاني صفة تطبيقية، فكلاهما يعمل بالطول والعرض، أي لهما نشاط أفقي وعمودي بنفس اللحظة. غبر أن الأول ينشط في مجال طوعي ويحمل قدرا كبيرا من النزوع الذاتي. بمعنى أنه منزه عن الأهداف والغايات، وهو يلبي حاجة الإنسان للتحضر وليس استجابة لنداء أو غريزة الحياة، وعليه يمكن أن تقول إنه نظيف من النوازع. وطبعا هو غير التصوف. فحتى الصوفي لديه غاية فوق إدراكية وحاملة لدوافع تعمل في الوعي الباطن. ولعل هدفها الأساسي هو التعمية أو إسدال حجاب يمنع الإنسان من المعاناة المادية ويغطي عليها بالتراضي مع الروح والتصالح مع المبدأ الكلي. فالتصوف هو احتجاج للعقل بأسلوب الروح. ولعله تحريض وإطلاق لقوى المعارضة بطريقة معاكسة للحلول وللتجسد أو بالغمر الروحي للإمكانات. أما الثاني، الصورة العملية للإسلام، فهو يشمل دين الشعب والسلطات. ومهما كانت شدة النزاع بينهما، هناك اتفاق حول اغتنام قانون اللحظة واستغلالها لدفع الغايات إلى مصالح. وأعتقد أن كل أشكال التفكير الديني التي توقف عندها تيزيني تدخل في هذا المضمار باستثناء دين لحظة الرسول. فهي نقطة تبئير تنفصل منها المتشابهات لتخلق عقلا إسلاميا.

وختاما.

ماذا لو عكسنا طريقة طيب تيزيني في متابعة تأثير البنية على تأويل النص، وقرأنا دور التأويل في تشكل الصيغة النهائية للواقع. بتعبير آخر: ماذا لو نظرنا لكل من البداية والنهاية، كلا على حدة، وبالتركيز على النتائج. أكبر التحديات التي سنواجهها يمكن تلخيصه بسؤال مباشر وصريح: ما هو سبب نجاح الثورة الإسلامية في بواكيرها وفشل كل العمليات الدعوية والعسكرية التي يتوجها ما يسمى في الصحافة المعاصرة باسم “الشتاء العربي”؟.

وباعتبار أن القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه القرآن الذي كان موجودا قبل 14 قرنا، لا يمكن أن نقول إن الخلل كامن فيه،  ولكن في الطريقة غير الجدلية التي نقرأه بها خارج شرطه التاريخي والموضوعي. 

 

د. صالح الرزوق

......................

* النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة.. طيب تيزيني. دار الينابيع. دمشق 1997/  ص 443.

1- الهوية والفعل الحضاري. ماجد الغرباوي. دار أمل الجديدة. 2019.

2- مقالتي: السنة النبوية في صحيح البخاري. منشورة في المثقف عدد 4215. تاريخ 21 - 3 - 2018.

3- الوحي والقرآن والنبوة. هشام جعيط. دار الطليعة بيروت ط 2 ، 2000.

 

 

في المثقف اليوم