قراءة في كتاب

الجذور الإيرلندية العميقة والمعقدة عند آيريس مردوخ

صالح الرزوقبيتر ج. كونرادي

ترجمة: صالح الرزوق

نشرت آيريس مردوخ، المولودة قبل 100 عام في شارع بليسيتون غير المألوف في شمال دبلن، 26 رواية رائعة وبعض الأعمال الفلسفية الأخلاقية الرائدة. وتصور لنا رواياتها عالمنا الدنيوي في ضوء نظرة جديدة، غريبة وساحرة. ولا يزال تأثير فلسفتها ينمو، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث يشهد الكثيرون على شجاعتها في مناصرة أخلاق الفضيلة والحياة الفردية. وعلى الرغم من أنها ووالدتها غادرتا إلى لندن قبل أن تبلغ عمر سنتين، قالت إنها تعتز بصلتها مع إيرلندا، ووصفت نفسها دائما بأنها إيرلندية، وكتبت عن ايرلندا  روايتين – “حصان وحيد القرن” و”الأحمر والأخضر” – وكذلك هو الحال في قصصها القصيرة فقد تركت إيرلندا طابعا خاصا عليها.

ترى مردوخ أن أيرلندا في الخمسينات كانت "أقرب ما يكون لبلد الأحلام حيث كل شيء له طعم مختلف".

لم تندمج عائلة مردوخ  في الحياة الإنجليزية. وقسمت إيريس ووالديها عطلتهم الصيفية بين دبلن وبيت أبناء عم والدها الموظف في إيرلندا الشمالية.  وقد غلب على والديها الطبع الإيرلندي: كان لرينيه لهجة دبلنية “صافية”، أما هيوز فقد احتفظ بنغمة سكان أولستر سواء من ناحية النبرة والتعابير. مثل قوله:"انتظر ريثما أنتهي من كلامي!". وهي عبارة إيرلندية مألوفة.  وحملت آيريس الشابة هذه الروح الخفيفة من والديها ولذلك انتبه دينيس هيلي، الذي التقى بها في أكسفورد، مباشرة أنها من دبلن.     

في عام 1938، في أول سنة لها في الجامعة، في مقال نشرته في شيرويل بعنوان: “الإيرلنديون، هل هم بشر؟” أشارت مردوخ إلى أن الشعب الأنجلو-إيرلندي هم "سلالة خاصة". كان المقال هجوما ساخرا وخشنا إلى حد ما  -- وربما هو مقال فظ --  يهدف للنيل من الروح الذاتية المغرورة التي تجدها عند الإنكليز، وفي نفس الوقت للدفاع عن كل صفات الشعب الإيرلندي والسلتي. وتذكر في سياق المقال إن شكسبير إيرلندي قطعا، لأن الإنجليز أغبياء جداً لدرجة أنه لا يمكنهم تحمل أي مسؤولية!.

وفي عامها الثاني، بعد أن أعلن الجيش الجمهوري الايرلندي الحرب على بريطانيا في كانون الثاني 1939، كانت أمينة صندوق النادي الإيرلندي، واستمعت إلى فرانك باكينهام يتحدث عن "الحوار مع دي فاليرا"، وهناك قدمت ورقة عن جيمس كونولي، بطل ثورة 1916، الذي أشاد به لينين لأنه دمج الصراع الطبقي بالروح الوطنية الثورية.

وبعد عطلة قصيرة في غلينغاريف عام 1954، كتبت قصتها القصيرة “شيء خاص”، وتدور أحداثها حول إيفون غيري الشابة التي تعيش في مكتبة تبيع القرطاسية في شارع أبير جورج “جورج الفوقاني”، وكانت ملكية المكتبة لأمها البروتستانتية التي تنتمي للطبقة العاملة. ويشير العنوان ضمنا لرغبة إيفون في الهرب من المجاعة والفقر، بواسطة الزواج من مساعد خياط يهودي. وكانت مشاويرها في أرجاء البلدة تؤكد الطابع البروتستانتي للمكان من خلال علامات لها معنى مثل فندق روس ونادي القوارب وكنيسة البحارة. وهو جو تعرفه منذ أول نظرة.

وطن الأحلام

كانت مردوخ تنظر إلى إيرلندا في فترة الخمسينات كأنها “شيء من عالم الأحلام حيث كل شيء له طعم مختلف”.

جرت أحداث  المسودة الأولى من رواية  “رأس مقطوعة” (1961) في غرب أيرلندا، مع الحرص على عدم  ذكر منطقة غابرييل كونروي، المذكورة في “المرحوم” لجويس.  وألهمتها مقاطعة كلير روايتها الرومانسية القوطية “حصان وحيد القرن” (1963).  سكاسن في تلك الرواية تدل في الحقيقة على بارين، أما المنحدرات الشديدة فهي صورة عن موهر. وكميات الويسكي التي يتم استهلاكها شيء قد لاحظته إيريس عندما أقامت في بيت بوينز عام 1956. والأسماء هي من أسماء عائلة إيريس: إيفينغهام كوبر هو جد إيريس؛ وكنية دينيس نولان من جدة آيريس.  “حصان وحيد القرن”  رواية تتابع الموضوع المفضل عند مردوخ:  أن الحياة  بحث روحي أو رحلة حج أو أنه ينبغي أن تكون كذلك.  وإن القول أن أيرلندا تبدو هنا "بيتها الروحي" المفضل  ليس استعارة خاملة.

ومنذ عام 1961 فصاعدا، بدأت أغلفة روايات مردوخ تحمل مع اسمها  علنا  لقب الكاتبة الأنجلو-إيرلندية.

وهذا دليل على خيال جامح إن كان المقصود حالة “صعود”.  صحيح أن عائلة ريتشاردسون – عائلة والدتها –  امتلكت عقارات في مقاطعة تايرون قبل ثلاثة قرون، ولكن هذا لا يمنع أنها تخلت عن ماضيها وانحدرت في عالم الواقع. فثلاثة من أبناء عمومة إيريس في دبلن عملوا بخدمة  كادبوري بصفة سائق شاحنة أو ملاحظ أو حارس، في حين أن والدهم،  وهو توماس بيل عم مردوخ، كان ميكانيكيا في شارع تالبوت. وفي حين وصفت رينيه والدها في شهادة زواجها بأنه محام، فإن الجمعية القانونية في دبلن لم تسجله لديها، وربما كان يعمل ككاتب عند أحد المحامين. وكانت آيريس أول من انتسب إلى الجامعة من بين أفراد عائلتها.

الاتحاد

وعائلة والدها عملت بالزراعة في بيت باليمولان، في هيل هول “صالة المرتفعات”، في مقاطعة داون، وعلى امتداد ثمانية أجيال.  هنا تقابل  ثلاثة أبناء عمومة آخرين من الدرجة الأولى – أقرب أقارب إيريس ممن هم على قيد الحياة بعد والديها – وكلهم تلقوا في بليموث تربية صارمة بعيدة عن الكحول. فقد احتوى منزل ابن عم آخر على 37 كتابا مقدسا، وكانت إيلا الشرسة، وهي عمة مردوخ، مبشرة معمدانية. وقد تكلمت عن ذلك عندما، كانت تخطط لرواية “الأحمر والأخضر” حوالي عام 1962. كما أنها تعلمت بعض اللغة الإيرلندية. تجري الأحداث خلال الأسبوع الذي يمهد لثورة إيستير. تخترع إيريس أبناء عمومة أنجلو إيرلنديين، مع تفرعات على جانبي البحر الايرلندي، وهم أنجليكانيون وكاثوليك، وداخل هذا الإطار تتطور الحبكة التاريخية. في حين أن آل مردوخ كانوا مناهضين للقومية ومؤيدين للاستقلال.

الفصل الثاني، وهو حلقة دراسية عن التاريخ الأيرلندي، يعتبر قانون الاتحاد لعام 1801 كارثة كبرى في التاريخ الأيرلندي، لأنه يضعف معنويات الطبقة الحاكمة في أيرلندا.  يقول أحد المتكلمين:” الماضي الحقيقي لأيرلندا هو في صعودها”وهو ما يذكرنا بأن العديد من الوطنيين الأيرلنديين العظماء كانوا من بين البروتستانت. وربما كان استعداد مردوخ لأسطرة أصولها إشارة على صلتها بـ “ييتس” وقناعتها أن إنكلترا دمرت إيرلندا. وتؤكد إحدى الشخصيات إنها فعلت ذلك "ببطء ودون لفت نظر، دون أن تخاطر بنفسها، ودون رحمة، عمليا دون تفكير، مثل شخص يدوس على حشرة، ولا ينتبه لها، وحين يراها ترتجف يدوس عليها مرة ثانية". كانت هذه الرواية هي الوحيدة التي ندمت على كتابتها. فسرعان ما بدلتها الاضطرابات من قومية رومنسية إلى وحدوية متشددة ومدافعة عن إيان بيزلي. كما أنها لم تسجل في أي مناسبة لاحقة جو الأقلية الكاثوليكية في أيرلندا الشمالية خلال أزمة عام 1968 و ما تخللها من مظالم واضحة وغير مشروعة. ومع تقدمها في السن أصبحت أكثر يمينية وأكثر بريطانية.

السحر البروتستانتي

ربما كان استعداد مردوخ لأسطرة أصولها الخاصة قد جعلها قريبة من ييتس. وكما أوضح المؤرخ الأيرلندي روي فوستر: إن طقوس “البيت المفقود” كانت في إيرلندا عنصرا مركزيا لا بد منه لاستكمال دائرة "السحر البروتستانتي"، الذي يتقاسمه ييتس وصديقة مردوخ العزيزة إليزابيث بوين: إن البروتستانتية الأيرلندية حتى لو أنها لا تحمل مزاجية أولستر، هي هوية اجتماعية وثقافية بقدر ما هي هوية دينية. وبعض عناصرها – الاهتمام بمحاسن الأخلاق جنبا إلى جنب مع حب الدراما وأحيانا العاطفة الملتهبة، التشاؤم والتطير من التعازيم والطقوس والسحر، عدم القدرة على النمو، الهاجس الذي يتلبس روح التاريخ، والعلاقة المضطربة التي تمزج عاطفة الكراهية والحب تجاه إيرلندا. ويمكن أن تجد ذلك عند مردوخ وبنفس الوقت عند بوين وييتس.

ومثلما كان ييتس، قادما من "طبقة وسطى غير آمنة لديها ذاكرة عرقية ونخبوية"، تذكر بمشاعر سكان البيوتات العريقة (ومنها كول بارك)، وهي مشاعر لا تخلو من “عذوبتها الخاصة وقوتها الاجتماعية التي تتجلى فنيا"، حرصت مردوخ أن تزور في وقت لاحق كلانديبوي، ومنزل أسلاف غينيس وقصر آل بوينس. رفع ييتس ومردوخ نفسيهما اجتماعياً "بنوع من الجهد الأخلاقي واللمسة التاريخية". وكان كل منها، بطريقته، مؤلف حكايات فذ تشترك في صناعة وإنتاج حياتنا وفنوننا.

 

.......................

* عرض لكتاب: حياة عائلة: مذكرات، تأليف بيتر ج. كونرادي، منشورات سيرين.

* بيتر ج. كونرادي Peter J. Conradi  كاتب بريطاني، متخصص بأعمال الروائية والفيلسوفة آيريس مردوخ.

 

 

في المثقف اليوم