قراءة في كتاب

علاء اللامي: فقرات من المقدمة: اللهجة العراقية بين المندائية والعربية الفصيحة

اللهجة العراقية بين المندائية والعربية الفصيحة: فقرات أخرى من مقدمة "معجم اللهجة العامية العراقية: الجذور العربية والرواسب الرافدانية" قيد التأليف: وسعياً لإثبات أن اللهجة العامية العراقية تمت بصلة أقوى إلى المندائية التي يعتبرها "الأساس" منها إلى اللغة العربية "الداخلة" يحشد المؤلف قيس مغشغش السعدي عدداً من الصفات والروابط التي يعتقد بأن اللهجة العراقية تنفرد بها مع المندائية ومنها في ميدان النحو، نذكرها أدناه ثم نفندها واحدة بعد أخرى:

1-عدم وجود صيغة المثنى في المندائية لذلك يلجأون إلى التدليل على المثنى بكلمة "اثنان" للمذكر و "اثنتان " للمؤنث" ويقابل هذه الظاهرة بأخرى مماثلة في اللهجة العراقية فيقول إن العراقيين يقولون " كتبوا اثنيناتهم" و"أكلوا اثنيناتهم". وهنا فالمؤلف لم يكن دقيقا في قوله أولا، فجملة " كتبوا اثنيناتهم" وأمثالها لا تقال إلا جوابا على سؤال محدد يستفسر عمن كتب من الأولاد أو الولدين. فيكون السؤال مثلا" منو كتب من الأولاد أو / الوِلد؟" فيقال " كتبوا اثنيناتهم" وظاهرة عدم استعمال المثنى للفاعلية واستعاضة عنها بصيغة الجمع هي ظاهرة تشمل جميع العاميات العربية من المحيط إلى الخليج وليست حكرا على العامية العراقية كما قلنا قبل قليل، بل هي من أبرز خصائص العاميات بعد إهمال الإعراب والنحو المتحرك. فمقابل سؤال فصيح يقول "هل وصل الولدان / البتان من المدرسة" يقال في العاميات "وصلوا الأولاد / وصلن البنات من المدرسة؟". ؟"، ويجاب على السؤال بالعامية العراقية وغير العراقية غالبا في حال الإثبات: إي وصلوا! وكلمة (إي) فصحى هي الأخرى وتعني (نعم) وهي من ألفاظ القرآن وقد وردت في الآية (53) من سورة يونس ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾. ومعنى (إي) في تفسير الجلالين والمُيسر والبغوي هو (نعم وربي إنه لحقٌ لا شك فيه). وإعراب (إِي) حرف جواب لا محل له من الإعراب.

2-ويكتب السيد السعدي قائلا "لا يفك الإدغام في الفعل المشدد (يقصد المضعف الثلاثي) المسند إلى ضمير بل يزاد عليه ياء وهذا النهج معتمد في اللغة المندائية بحكم عدم وجود التشديد "التضعيف" فيها. ص 90". وما يجهله المؤلف هو أن قاعدة فكِّ الإدغام في اللغة العربية بتكرار الحرف المشدد غالباً ما تستثقل حتى في الفصحى؛ فكلمة "استمررتُ" أثقل على اللسان من "استمريتُ". يكتب هادي العلوي بهذا الصدد: "القاعدة في جميع العاميات العربية تعمُّ الأفعال المشددة الآخر إذا اتصلت بضمير فاعل للمتكلم والمخاطب مفرداً وجمعاً، ومثالها: مرَّ: في التصريف المعروف في الفصيح يقال: مررتُ، مررتَ، مررنا، مررتم. وفي العامي: مريت ومرينا ومريتم. اضطر: في التصريف الأول يقال: اضطررت واضطررنا واضطررتم، وفي العامي اضطريت واضطرينا واضطريتم. والعامي هنا فصيح أيضا وقد نص عليه القالي في أماليه واعتبره قاعدة تعم كل المضعف في الأفعال". وقد وثَّق العلوي ما قاله أبو علي القالي في كتابه "الأمالي" في ج2 الصفحة 221. والخلاصة هي أن السعدي يجهل كما يبدو هذا الموضوع تماما، وأن هذا النوع من الإبدال في العامية العراقية يعم جميع العاميات العربية، وأنه ليس عاميا فقط بل هو فصيحٌ أيضا وله قاعدة مطَّردة والقصد من هذا الإبدال تيسير النطق وتخفيفه بفك الإدغام الثقيل على الألسن.

3-الأمر نفسه يتكرر في ما يقوله السعدي في التشابه بين العامية العراقية والمندائية في كون العراقيين لا يستعملون المبني للمجهول إلا في صيغة "انفعل" فهم لا يقولون أُكِلَ وشُرِبَ بل يقولون: انوكل، وانشرب. ويقول السعدي ان هذه الصيغة موجودة في المندائية ولكن باستعمال حرف التاء بدلا من النون "اتوكل- واتشرب" ولذلك خففت التاء إلى نون لسهولة وانسيابية الكلمة/ ص90".

والحقيقة فهذه الصيغة على زنة "انفعل" عربية فصيحة أيضا، قبل أن تكون موجودة في عدد من العاميات العربية وتسمى "صيغة المطاوعة" ويسميها الباحث رمضان عبد التواب (الانعكاسية) بدل المطاوعة تأثراً ببروكلمان، وقد ذكرها جلال الحنفي في معجمه وقال إنَّ العامة "يزيدون النون في بعض الحالات كقولهم (انتخذ) بمعنى اتخذ وقولهم "انتچا) بمعنى اتكأ". وصيغة المطاوعة "انفعل" هي واحدة من أربع صيغ والثلاث الأخرى هي (اِفْتَعَلَ وتَفَعَّلَ وتَفَاعَلَ). وهذه الصيغة قديمة في اللغة العربية الفصحى وقد وردت في القرآن الكريم كثيرا ومن ذلك ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ [الشمس: 12] و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1]. وتحل هذه الصيغة في العاميات محل صيغة المبني للمجهول، ولكنها لا تؤدي المعنى نفسه بالضبط. فحين تقول "انكسرَ القدحُ" فالجملة توحي بأن الحدث حدث للشيء (القدح) من تلقاء نفسه، أو بقواه الداخلية الخاصة ولم يكسره فاعل معلوم.

وحين تأخذ العامية العراقية صيغة المطاوعة العربية القديمة والقرآنية وبصيغتها العربية (بحرف النون) وليس بالصيغة المندائية (بحرف التاء) فهي تسجل نقطة مهمة لمصلحة عروبتها وكونها عربية الجذور والقواعد والمعجمية "المفرداتية" ولا علاقة لها بتلك الصيغة التائية في اللهجة المندائية.

4-يخطئ المؤلف مرة أخرى في قوله إنَّ الفعل في العامية العراقية يتعدى بحرف الجر اللام كما هي الحال في المندائية فهم لا يقولون كما في الفصحى "كتب الدرسَ" بل يقولون " كتب للدرس" وهذا كلام غير صحيح، ففي العامية يقولون "كتبه للدرس" أي إنهم يعدون الفعل كالمعتاد باستعمال الضمير المتصل كمفعول به ثم ولتوضيح المفعول يذكرونه بعد لام الجر فتكون الصيغة "كتبه... للدرس". وما يجهله السعدي هو ان هناك أفعالا لا تتعدى إلا بحرف جر في الفصحى والعامية كالأفعال: " دافع - شَرَعَ -دخل - خرج –جلس – بادر- أصغى -أحال" ويصل عدد هذه الأفعال إلى أكثر من مائة فعل! والخلاصة هي إنَّ العراقيين لا يعدّون الفعل بحرف جر في عاميتهم بل يعدونه على المفعول به الضمير المتصل ثم يوضحون إبهامه بشبه جملة بعد المفعول به فيقولون (بسطه للولد) ولا يقولون (بسط للولد)!

5-يقول السعدي إنَّ الآرامية الشرقية تتميز عن جميع اللهجات الآرامية بأن حرف المضارعة للغائب هو النون وليس الياء، وقد حفظت ذلك المندائية وتستخدمها اللغة العامية حينما يسأل فرد عما يقوم به فتراه يجيب بصيغة الغائب المذكر (ناكل، نكتب، نروح). وهنا أيضا، فالسعدي لم يكن دقيقاً في نقله من العامية! فالفعل المضارع لجماعة المتكلمين في العربية الفصحى والعامية العراقية - وليس الغائبين- هو "نأكل، نكتب، نروح" وفي المندائية تأتي النون كما يقول السعدي مع صيغة المضارع للغائب وليس للمتكلم. ومعروف على نطاق واسع أن المتكلم المفرد يعبر عن نفسه أحيانا بصيغة المفرد المهموزة "آكل - أكتب -أروح" وأحيانا بصيغة جمع المتكلمين "نأكل –نكتب –نروح" ولا علاقة للياء هنا بهذه الصيغة فالياء تأتي في صيغة المضارع الغائب "يأكل –يكتب – يروح" في الفصحى والعامية على السواء، وحرف الياء واحد من حروف المضارعة الأربعة في الفصحى والعاميات ويعرفها تلاميذ الابتدائية حين كان المعلم يسهل عليهم حفظها فيجمعها لهم في كلمة "أنيت"!

وفي معرض محاولته لتأكيد أن اللغة المندائية كانت هي لغة العراقيين القدامى قبل الإسلام يكتب السعدي (فالعدد الكبير من المفردات المندائية الذي استطعنا التوصل له والتي وجدنا استمرار استخدامها إلى اليوم في اللغة العامية العراقية عامة ولغة الجنوب العراقي خاصة، وهو ما سيقف عليه القارئ في هذا الكتاب، لا يفيد فقط في أن المستخدم من في اللغة العامية هو بقايا اللغة الآرامية ذلك أنه يأتي بمفردات مندائية خالصة من جهة وباللفظ والاشتقاق المعتمد فيها بشكل محدد من جهة أخرى. وإن كان هذا هو الذي بقي ووصلنا إلى اليوم فما حجم ما كان متداولا أصلا وعلى مدى ما ينيف على ألفي عام على الرغم من دخول اللغة العربية واكتساحها بالاستخدام الرسمي لجميع اللغات واعتمادها اللغة الدينية بحكم انتماء النسبة الأعم من الناس للديانة الإسلامية وضرورة تعلم اللغة العربية كونها لغة القرآن والشعائر الدينية". إن ما يريد السعدي قوله تلميحا لا تصريحا هو أن اللغة المندائية كانت قبل الإسلام هي لغة العراقيين القدماء وخصوصا في الجنوب، وإن ما تبقى منها اليوم دليل على انها هي لغتهم الأساس "الأم"، ولكننا إذا انتهينا من قراءة تخاريجه لأكثر من 90 بالمائة من مفردات معجمه وتأكدنا من أنها لم تكن مندائية بل هي عربية فصيحة في غالبيتها العظمى، إلى جانب نسبة مهمة من المفردات المشتركة مع اللغات السامية الشقيقة، وبعضها أقدم من المندائية بأكثر من ألف سنة كالأكدية بلهجتيها، سنجد أن ما يقوله الكاتب هنا مجرد وهم ورغبات نرجسية لا جدوى منها. ومع ذلك فإن الكلمات التي زعم أنها مندائية وجدنا أنها ملفوظة غالبا بالحروف غير موجودة في المندائية بل بالحروف الآرامية والعربية الفصحى معا وخاصة (الحرفين العين والحاء).

إن السعدي يبدو مرتبكا وحائرا هنا، يحاول لملمة الموقف وحل الإشكال وتمييع الفرق بشكل غريب بين "بقايا اللغة الآرامية" و"مفردات مندائية خالصة" وأيهما هي أساس العامية العراقية، وإذا ما علمنا أن حرفي الحاء والعين موجودان في الآرامية والعامية العراقية والعربية الفصحى وغير موجودين في المندائية فهذا يؤكد وبشكل حاسم قرب هذه الكلمات من الآرامية والعربية الفصحى وليس من المندائية التي تبقى لهجة لطائفة دينية صغيرة منغلقة. وكاتب هذه السطور لا يتبنى هذه الاستراتيجية البحثية وسبق وأن ذكرنا بأننا نعتقد أن العامية العراقية هي لهجة عربية جذورا واشتقاقات وقواعد وهي غنية أيضا برواسب اللغات الرافدانية القديمة ومنها السومرية والأكدية بلهجتيها، والآرامية بلهجاتها المختلفة والكنعانيات ومنها العبرية المنقرضة ومن اللغات الأجنبية الحية غير الجزيرية المجاورة كالفارسية والتركية أو اللغات الأوروبية اللاتينية او انكلوسكسونية في العصر الحديث ومنها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ...إلخ.

***

علاء اللامي*

...................

*حذفتُ الهوامش التوثيقية من نسخة النشر كمقالة صحافية وأبقيت عليها في مقدمة الكتاب.

[1] - السعدي – م.س - ص 55.

في المثقف اليوم