قراءة في كتاب

كيف نقرأ جورج طرابيشي من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا هن قراءتنا لجورج طرابيشي من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث، وهنا نقول: ولكي يوضح طرابيشي فكرته أكثر عن الفرق بين إسلام القرآن وإسلام الحديث أو السنة فإنه يدرس بشكل تاريخي كيفية تشكّل السنة على مدار القرون الثلاثة الأولى من عمر الحضارة العربية الإسلامية وارتباط ذلك بتشكل الفقه ومجموعات الحديث الكبرى. وهنا يكشف عن الدور الكبير الذي لعبه الفرس في تشكيل السنة. ومعلوم حجم المنافسة التي حصلت بين الفرس والعرب في القرون الأولى.

والواقع أن معظم مؤلفي كتب الحديث والمذاهب كانوا من الموالي لا من العرب: أبو حنيفة، والبخاري، وسيبويه فيما يخص علم اللغة، الخ.. يقول المؤلف بالحرف الواحد: “ذلك أنه ما كان لنار النزعة الاثنية الفارسية أن تخمد تحت رماد الإسلام. فالإسلام الذي حمل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدمتهم الفرس، كان إسلام قرآن لا يد لهم فيه، وما أنزل أصلا برسمهم. بالمقابل فإن الإسلام الذي أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلام سنة كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه، وهو الإنتاج الذي استطاعوا أن يؤسسوا أنفسهم من خلال إتقان صناعته- كما سيتضح في الفصول التالية-في طبقة متفقهة عاتية النفوذ حبت نفسها، عن طريق التطوير المتضافر للمدونة الحديثية والمدونة الفقهية، وبالتالي للمؤسسة الإفتائية، بسلطة تشريعية لم يقر بها القرآن للرسول نفسه”.

والمفارقة التي يمسك بتلابيبها جورج طرابيشي هنا في هذا الكتاب أن المسار الانقلابي بقدر ما ابتعد تدريجيا عن روح الخطاب القرآني، وعن القيم الأساسية للخطاب القرآني لفائدة مدوّنة حديثية تم تضخيمها، فإنه التصق في الأخير بالنص الديني التصاقاً مطلقا أكان النص قرآنا أم حديثا. بمعنى أن ثمة سيرورة انقلابية مزدوجة فارقت قيم القرآن وجمّدتها لأجل أن تمجّد النص في الأخير. أي أنها افترقت عن الخطاب القرآني لكي تدعي تقديس النص القرآني والنص الحديثي معاً. وهذا ما حدث منذ الشافعي وصولا إلى ابن حنبل.

في الفصل الأول يبتدأ طرابيشي الكتاب بثلاث جمل قاضيات تلخص ما جاء هو ليفصله في ستمائة صحفة ونيف، فأطروحته المركزية هنا تعتمد على الفصل بين إسلام الرسالة – إسلام النبي محمد- وإسلام الفتوحات –الإسلام المرتبط بالتركيبة الاجتماعية الثقافية السياسية.

ويبدأ كتابه بالحديث عن النبي ويذهب بنا في رحلة في حوالي ثمانين صفحة يحاول فيها باختصار غير مخل أن يشرح كيف أن النبي لم يكن له من الأمر شيء وأنه كان موحى إليه عن طريق القرآن فقط وأن الحديث لم يكن من ضمن اهتمامات النبي ولا أصحابه ! أي انه كان يعتبر كلامه كلام بشر يصيب ويخطأ ويمكن شرح ذلك عن طريق ما فصله طرابيشي بأن القرآن خطاب والنبي هو المخاطب فيه ليس إلا .

ويذهب طرابيشي بنا في رحلة في جوف القرآن وطريقة تعاطي الوحي مع محمد وتعاطي محمد معه، من آيات تقصر وظيفة النبي على التبليغ فقط وتتوعده بالعذاب إن زاد شيئاً أو انقص شيئا من القرآن أو بدله من عنده، وكما وضح أيضا كيف أن النبي كان ينتظر أحكاماً معينة ويقف فيها ولا يعطي رأيه بانتظار الوحي !

وهذا يعني أن كلامه كبشر لم يكن يعني شيئاً لا له ولا لصحابته إذا ما قارناه بالوحي والذي يقتصر على "القرأن"، بل ويتجه طرابيشي إلى أبعد من ذلك ليشير إلى أن القرآن كان يلوم محمداً إذا ما هو اتخذ موقفا استباقياً أو بادر إلى طرح رأيه من غير أن يكون له مرجع من غير الوحي !

فكيف لنا إذن أن نعطي الحديث ذات الأهمية التي نعطيها للقرآن إذا كان رسول الإسلام نفسه لم يفعل ذلك، لنا أيضا أن نشير هنا وبسرعة إلى خطأ وقع فيه المسلمون لاحقا وهو خلط الآيات المكية بالمدنية ! وهي خلطة أدت لتلبيس الآيات؛ بمعنى ليست لها فيه ناقة ولا جمل ! حيث مضمون الرسالة وحال الرسول وحال الإسلام كان يتغير بشكل كبير بين كل فترة وأخرى وبالذات النقلة النوعية اللاهوتية التي تعرض لها النبي ورسالته من مكة إلى المدينة.

ثم يتطرق طرابيشي بعد ذلك إلى أن القرآن والوحي كان يتدخل في حياة الرسول الشخصية وتحدد له ما هو مباح وما هو محرم في علاقاته الزوجية ورغائب نفسه الجنسية ! ورغم غرابة الطرح لأذن السامع إلى أنه حقيقي جدا وواضح في المدونة الحديثية وفي الآيات نفسها ولكن لم يفعل ذلك طرابيشي ليقدح في نبي الإسلام على قدر ما أراد أن يظهر "اللافاعلية النبوية" حتى في أمور كهذه وكيف أن الوحي كان له القول الاول والأخير حتى فيما يتعلق من هذه أمور، وليس لنا هنا أن نناقش مشكلة الوحي في هذه النقطة من مغزى لاهوتي لأممية وعالمية الرسالة، والتي سيتطرق لها طرابيشي تباعا في الفصل الثاني .

ثم يأتي طرابيشي إلى أكثر الأمور جدلا وهي ايات طاعة الرسول والتي بسببها ايضا حظى الحديث بقدسية لا متناهية ويشرح هنا طرابيشي باستخدام الوحي نفسه واحداث السيرة الى ان طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله وان الطاعة هنا كانت كخطاب موجه للمشركين لا للمؤمنين !

ومن ثم إذا زال الخلط هنا ظهرت لنا حقيقة الأمر وهي أن طاعة رسول هي طاعة مقرونة وخاصة بحالاتها التي ذكرت فيها وليست طاعة عمياء كما فسرها لنا علماء المسلمين في القرون اللاحقة !

وينهي طرابيشي فصله بطرح أمثلة عديدة على تعامل الرسول برأيه كبشر في مواقف في حياته وفي حروبه وكيفية تعامل الصحابة معه بأريحية تامة كلما كان الأمر بعيدا عن "الوحي المنزل" أو عن "اللافاعلية النبوية"، ومن هنا ينتهي دور الرسول تقريبا في هذا الكتاب !

وفي خطوة تهدف إلى تفكيك أسس "الإيديولوجية الحديثية" التي صنعت التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، يقوم طرابيشي في الفصل الأول من كتابه بـ"رحلة استقرائية" لآيات القرآن يستنتج منها أن الخطاب القرآني قد صاغ جدلية من طرف واحد، يكون فيها الله آمراً مطلَق الحرية، والرسول مأموراً مطلق العبودية، يقف في موقع المفعولية دون الفاعلية، وتقتصر وظيفته على التبليغ دون التشريع، فهو مشَرَّعٌ له غير شارع، مأمورٌ بالقول غير قائل من عنده، ليس له حتى أن يستعجل الوحي وإن تأخر، بل يلومه الوحي أحياناً على مواقف اتخذها باجتهاده، ويتدخل أحياناً أخرى في حياته الخاصة بما في ذلك علاقاته الزوجية.

ويرى طرابيشي أن "بشرية" الرسول هي الثابت، وأنه بشرٌ قبل الوحي وبعدَه، فهو بدون الوحي بشرٌ يخطئ ويصيب ويدرأ خطأ الرأي بالمشاورة، وعلى هذا فلا بد إذن من "التمييز في شخصية الرسول بين البشر الذي يتكلم من عند نفسه والبشر الذي يتكلم من عند الله"، وهذا هو "أس الأسس في لاهوت الوحي في الإسلام".

وفي الفصل الثاني وعنوانه من النبي الأمي إلى النبي الأممي، "معضلة الأمة وعماد جهلها" أضفت أنا هذه الجملة لأوضح موقفي من هذه المشكلة ثم لأطرح ملخصا لما فصله طرابيشي في هذا الفصل الصغير "عشرون صفحة فقط" والذي أوفاه حقه، فأنا أرى انه منذ أن تأخر المسلمون منذ تسعة قرون تقريبا في كل المجالات وهم لا يتاونون عن وصف أنفسهم ووصف تاريخهم بالمعجز !

ثم أتوا على نبي الإسلام وحولوه لدمية ووعاء فارغ ليس له حول ولا قوة ! حولوه لشخص لا يعرف القراءة والكتابة جاهل بأمور العالمين وكل شيء عنده وكل تصرف يفعله بحياته يمكن تلخصيه بالآية "ان هو إلا وحي يوحى" ويجب هنا على القارئ الا يختلط عليه الأمر، فالوحي كان مؤثرا بل ومن منطق لاهوتي فالنبي وعاء الوحي، ولكن نفي العلم عنه وجعل النبي نفسه معجزة لهي مشكلة في حد ذاتها لأن هذا يساهم في تحويل النبي إلى "نصف إله" لا يمكن نقده أو نقد سيرته أو أفعاله الدنيوية والتي لم يكن للوحي فيها قول، وهي ليست بالقليلة.

يذهب طرابيشي في البداية لشرح معنى كلمة "أمي" وهي كلمة وصف بها اليهود أولاد عمومتهم العرب، وجاء القرآن في عدة آيات ليؤكد هذا الوصف، وهو باختصار الأمة التي ليست لها كتاب، ولم يأتي المعنى ولا مرة في القرآن بالمعنى الدراج بمعنى عدم معرفة القراءة والكتابة !!

ثم يتطرق طرابيشي للفكرة التي أرى أن اغلب المسلمين سيروا فيها إجحافا على رسالة الإسلام نفسها، وهي فكرة أن الإسلام هو دين جاء لعرب الجزيرة فقط ولم يأت للعالمين ! ويحاجج طرابيشي هنا من يتقول على الاسلام فيقول انه عالمي بآيات من القرآن نفسه .

ثم يتطرق طرابيشي باستفاضة لشرح الوضع الجيوبوليتيكي لجزيرة العرب ومن حولها وتعامل القرآن والرسالة معها وكيف أن الإسلام كان مقتصرا على العرب بل ويتميز القرآن بعروبته لأنه جاء "لأم القرى ومن حولها"، ثم يتطرق طرابيشي لمعركة تبوك والتي تخلف فيها الكثير ويربطها ربطا ممتازا بالوضع الإقليمي والوضع الديني ومفهوم الرسالة لدى الأمة الوليدة ولدى القرآن نفسه، ثم يتطرق مرة أخرى لسورة التوبة والتي يستند فيها تقريبا كل الجهاديين اليوم على أفعالهم ويحاول أن يشرحها من وجهة نظر دين محلي يحاول أن يسيطر على أمته الوليدة، ويثبت أن في القرآن كله في ستة آلاف اية ونيف لم يجد المدافعون عن عالمية الرسالة إلا آية واحدة فقط ليثبتوا فيها موقفهم ويظهر التدليس المتعمد لتفسير هذه الآية من المحدثين والمفسرين واختلاف تفسيرها عن مضمون وبقية آيات القرآن.

وبعد شرح مطول جدا لكل هذه المشاكل ينهي طرابيشي الفصل نهاية درامية مفجعة فهو يقول: "فما ربحه الوجود العربي الإسلامي على صعيد " الاستمرارية التاريخية" خسره على صعيد "الانقطاعية الحضارية" فإن كان التشريع الإسلامي حفظ نفسه من خلال السنة المنسوبة إلى النبي مصدرا إلهيا قد صان ذلك الوجود وحفظه، فإنه بالمقابل قد شله عن التطور بقدر ما جمده في وضعية ثابتة ومكررة لنفسها وعابرة لشروط الزمان والمكان.

فتشريع كهذا ما كان له إلا ان يكون حاكما على التاريخ بدل أن يكون- كما في التشريع الوضعي- محكوما به . والخروج من حكم التاريخ هو بمثابة الخروج من التاريخ نفسه . وربما تكون تلك هي كبرى مفارقات إسلام التاريخ . فقد أصبح إسلاما لا تاريخيا وهذه اللاتاريخية كانت ولا تزال هي النسخ المغذي للممانعة العربية على صعيد العقليات والبنى الاجتماعية على الأقل لأمر الحداثة.

والفصل الثالث يمكننا القول بأن بداية من هذا الفصل سنرى "بداية السقوط" وهنا نتكلم عن اغتيال مفجع لإسلام الرسالة تباعا بشكل زمني .. فكلما تقدم بنا الزمن سنرى الإسلام وهو يتحول لآلة لاهوتية عملاقة تحبس المسلمين داخلها وتعطيهم حكما مؤبدا باغتيال العقل والتضحية به على مذبح الخرافة... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...........................

1- جورج طرابيشي: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، دار الساقي للطباعة والنشر، 2010.

2- سعيد ناشيد: الحاجة الماسة لقراءة كتاب "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث".. (مقال).

3- هاشم صالح: قراءة في كتاب: جورج طرابيشي .. (مقال).

4- محمد أبو الخير السيد: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة.. (مقال).

5- محمد أبو الخير السيد: عرض كتاب من إسلام القرآن إلي إسلام الحديث: النشأة المستأنفة، المسلم المعاصر، جمعية المسلم المعاصر، مج 35، ع 140، 2011.

 

في المثقف اليوم