قراءة في كتاب

بؤرة المكان والتشكل الحسي

محمد يونس محمدفي كتاب: داخل المكان.. المدن روح ومعنى للدكتور جمال العتابي

منسوب التاريخ والذاكرة المكانية – أن للمكان سلطة قائمة على اي نفس بشرية ولن تجد هناك كيانا بشريا منفصل تماما عن الذاكرة المكانية، وما دام هناك تاريخ قد جسد، فأن له نسب ترتبط بحياتنا الحاضرة، وخصوصا تلك الامكنة التي عشنا فيها الطفولة والصبا والشباب، والتي لامست عاطفتنا واثرت فيها، وصراحة نحن كلما ابتعدنا عن التاريخ نكون قد اقتربنا منه، ويشكل المكان جزءاً من ذاكرتنا ومن حياتنا الانية ايضا، وذاكرة المكان دائما ما تكون محفزة لمشاعرنا، وتثير في نفوسنا وارواحنا على السواء تلك النشوة الحزينة اذا جاز التوصيف، وهذا ما لمسناه في كتاب الدكتور جمال العتابي – داخل المكان – المدن روح ومعنى – والذي اشار لنا من العنونة على فكرة الاحساس المكاني في داخلنا من جهة تصور الذهن له وتعلق الوجدان به، ومن خلال مشاهدتنا له والتي تكتسب تأويلات عدة اضافة الى الاعتقاد الجازم الذي نشترك به نحن الذي ترتبط بذلك المكان تاريخيا، وقد شكلت مدينة الحرية اصرة واسعة لجذب التاريخ نحو وعي جمال العتابي، فقدم لنا صورة حسية عن المكان كانت كحبات مطر تسقط على قلوبنا المتجمرة، وكانت لغة الكتابة هي مجموعة مشاعر فردية احيانا، واخرى جمعية يشترك بها المؤلف مع اخرين، وكانت لسانيا لغة الكتابة تميل مرة الى النثري، وفي اخر ى تميل نحو الوصفي لكن ببلاغة حسيةثمة فكرة اثارها ازاء المكان بورخس أن الكتابة عن المكان لا تغني مثلما تغني مشاهدته، ويرى باشلار أن للمكان سلطة جذب كبرى، لكن حس جمال العتابي الشرقي قادنا الى تفسير تاريخ المكان بصورة مختلفة فهو ابن لذلك المكان بكل التوصيفات الانسانية، وهو مشاهد ومعايش للوحدات المكانية، والتي جردها نسبيا من الصورة البيانية التعريفية لنا، وقدم لنا ابعاداً عدة مكتوبة، لكن نحن احيانا نشعر بها، وفي احيان اخرى قد نراها متصورة كما رأى دينو بوزاتي في صحراء التتار ببلاغة لغة سردية ، ايضا قد نفذها جمال العتابي في سياق اسلوبية الكتابة .

2205 جمال العتابيبؤرة الجذب المكاني- تشكل بنية المكان سلطة وجدانية وحسية وشعورية من جهة، ومن جهة اخرى تكون بمتعة التجسيد والمشاهدة التي اعتدنا عليها تاريخيا في سيرورة حياتنا، والتي تمكن خطاب جمال العتابي من جعل التلقي يعايش الأمكنة خصوصاً تلك المرتبطة بتاريخنا الشخصي، وقد استطاع من اعادة انتاج تاريخ في اسلوب رشيق لا يبدي لنا اساها شجنه بوضوح، بل فسر لنا خطاب شجن واحاسيس عامة عبر شخوص منتخبين مثلوا اركان المكان المتعددة تاريخيا، وله يحسب أن وعيه الثقافي لم يحدد ركنا ويغفل اركان اخرى للوحدة المكانية المنتخبة، بل اخذنا في سياحة وصف نوعي للأركان الأخرى، وتنقل برشاقة لغة واضحةومباشرة من جهة نقل التاريخ بأمانة، ومن جهة اخرى تدعم تصعيد ايقاع الاحاسيس، وتتيح لبؤرة المكان أن تبث شحناتها الجاذبة، وطبيعي أن شحنات البؤرة المكانية ذات قدرة في تصعيد نسب الاحاسيس من مستوى شعوري الى اخر .

 أن تجربة الكتابة عن المكان عند دكتور جمال العتابي تجربة تندرج في التصنيف الموضوعي على مستويين، حيث أن المستوى الأول الكتابة النصية داخل مضمون مكاني، اي أننا امام نص مكاني يحتمل أن يقرأ ادبيا، وتلك الصفة تحيلنا الى وحدة لغة الكتابة، والتي هي قد اكدت لنا علاقتها مع الادب بشكل مباشر من جهة نمط اللغة الادبي، ومن جهة اخرى على العلاقة التناصية بجمل ادبية مضمنة من خارج اصل الكتابة، وذلك المستوى الأدبي للكتابة يؤكد وجود طاقة وعي تفسر المكان وتاريخه ادبيا، ويقابل ذلك التصنيف تصنيف اخر اشتملت عليه لغة الكتابة، حيث لامست لغة الكتابة في كتاب – داخل المكان – الصادر من درا سطور، ابعاد تاريخية عديدة، ولكل بعد تاريخي نفسه الخاص، ومن خلاله يحدد معناه الاجتماعي والسياسي، واشتملت اللغة ايضا على مفارقة ثالثة مهمة، رغم أنها تندرج ايضا كوحدات تاريخية، حيث فسر لنا امكنة من خلال المكان الاساس، فالمقاهي العامة التي اوردها الكتاب كانت تشتمل على معاني ادبية ورياضية وسياسية، وكان هناك نسب من الخطابات يمكن أن نقر بوجودها في تلك الامكنة، واما الشخوص الذي كانت بؤرة المكان تجذبهم، يشكل اغلبهم وحدات تاريخية لها قيمتها المهمة ادبا او رياضة اوسياسة، وصراحة كتاب الدكتور جمال العتابي كان ذا نفس مركب بين الادراك بالمكان ورمزيته والحس بها شعوريا ووجدانيا، حيث لامس شغاف روحه عبر تصاعد حس الوجدان بالوحدة المكانية والتعلق بها انسانيا وروحيا، وكانت العلاقة بن المكان الجاذب والروح الهائمة به علاقة وجدانية عميقة بشفافية وشجن .

 

محمد يونس - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم