قراءة في كتاب

علجية عيش: قراءة في كتاب: استراتيجيات للناقد الجزائري محمد دريدي

ذكّر الناقد الجزائري محمد دريدي في كتابه "استراتيجيات"  بالقاعدة العامة للإستراتيجية التي  تقول: من لا يصنع التاريخ، يصنع به التاريخ والأدوار محصورة بين فاعل استراتيجي ومفعول به استراتيجي، أما الفاعلون فيواصلون رحلة التاريخ، وأما المفعول بهم  فمصيرهم بين يدي الفاعلين، فمن وجدوه ضروريا لازما مفيدا للمرحلة القادمة سمحوا له بالبقاء والمرافقة ومن  وجدوه  عبئا ثقيلا أنهوا حضوره كما يفعل الأطباء مع الحالات الميأوس منها.

 كتاب "استراتيجيات" هو للناقد الجزائري محمد دريدي  استاذ جامعي مختص في العلاقات الدولية، هو خلاصة للواقع ومتابعة للأحداث اتسمت بتنوع  السياسات والمنهجية في طرح الأفكار والمواقف، الكتاب صدر عن دار النشر الماهر  وهو من الحجم الصغير يقع في مائة وخمس صفحات (105)، دون حساب فهرس الموضوعات وهو عبارة عن مقالات وأعمدة وحوارات جمعها المؤلف، حيث سلط  الضوء على كثير من المسائل  التي أخضعت للتحليل والتفكيك وحتى إلى التمييع،  في إطار ما يسمّى بالهدم والبناء، لقد وضع الأستاذ محمد دريدي  معادلة سمّاها الجملة الاستراتيجية وهي تتكون  من (مجال، فعل استراتيجي، فاعل ومفعول به وموارد)، وتعني هذه المعادلة  وجود الفكرة (الحرب كمثال) من يقوم بها الفاعل؟  من هو المستفيد ومن هو الضحية؟، ثم  الموارد (الجيش والعتاد الحربي)، و ماهي الإستراتيجيات المستعملة،  أول ملاحظة وقفها عليها هي أن الكاتب لم يقدم تعريفا  لمفهوم "الاستراتيجية" رغم أن الكتاب حمل عنوانه هذا اللفظ  الذي لا يزال موضع جدل بين الكتاب والمحللين وخبراء الاستراتيجيات، خاصة وأن لفظ الاستراتيجية يعتبر أكثر الكلمات شيوعا بين الناس وحتى المسؤولين وترددها الألسن مرار وتكرارا ولكن القليل فقط من حدد معناها وأغلبهم عسكريون، وهذا لأنها كانت حكرا على كبار القادة العسكريين وظلت تُنْقَلُ من جيل إلى جيل في سِرِّيَّةٍ تامّة، واليوم نجدها تطبق في كثير من الميادين : السياسة والاقتصاد والدبلوماسية،  لكنها لا تنفذ بطريقة مبنية على أفكار ومنهجية ناتجة عن تفكير عميق.

 وقد قدمت كثير من الدراسات تعريفا لمفهوم الاستراتيجية ومنها الدراسة التي أجراها الأستاذ رشيد حمليل بحكم عمله في وزارة الدفاع الوطني  قبل أن يتوجه إلا  المجال الإعلامي بحكم تخصصه فيه، حيث قدم تعاريف عديدة لمفهوم الإستراتيجية وضعها خبراء الاستراتيجيات وخبراء عسكريون ومنهم ليدل هارت الذي قال بأنها قيادة وتوجيه مجمل العمليات العسكرية،  وعرّفها الجنرال أندري ووفر في كتابه (مدخل إلى الاستراتيجية) أن روح الاستراتيجية  في اللعبة المجردة التي تنتج عن تضارب إرادتين  متعارضتين وعرفها بأنها فن يسمح في التحكم في الصراع دون الحاجة إلى تقنية، وتوجد تعاريف عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا.

ثم أننا نرى الكاتب من خلال عنوان الكتاب استعمل لغة الجمع والتعدد والتنوع، فهو لا يتحدث عن استراتيجية واحدة بل عدة استراتيجيات،  كانت هناك تساؤلات حول فكرة من يضع الإستراتيجية، هل هم رجال السياسة؟ أم القادة العسكريون؟ أم يضعها رجال ثائرون خاصة في وقت الحرب، وما هي الوسيلة المستخدمة، وإلا كان العمل مخالفا للأهداف، فرجال الحركة الوطنية مثلا ولغياب وسائل محاربة الإحتلال الفرنسي استعملوا استراتيجية "حرب العصابات"، يلاحظ أيضا أن مفهوم سياسة متقارب مع مفهوم استراتيجية، إذ لا يمكن خطة معينة دون معرفة الوضع السياسي لدولة من الدول معرفة دقيقة، ولذا فهي تستعمل "الجوسسة" كعنصر من عناصر استراتيجيتها، والتجسس يحتاج إلى وضع خطة دقيقة، أولها إعداد الجاسوس إعدادا نفسيا وعقليا وجسديا، وتدريبه وتعليمه اللغات الأجنبية وكيفية استعمال  "الرموز" في تحويل الرسائل ونقل التقارير والمعلومات،  يرى الجنرال دولا شابيل وهو ديغولي المذهب أن كل استراتيجية تحتم  وجود فلسفة كامنة وهي الفلسفة العسكرية، والواقع وكما يقول استراتيجيون أن دراسة الإستراتيحية كانت ولا تزال اساس اي بحص  تاريخي كان أو عسكري، ثم أن واضعي أفستراتيجية سواء كانوا سياسيون أم رجال عسكر لا يؤمنون بالصدفة، فنابليون واحد من الذين لا يؤمنون بالصدفة لأنها في نظره تختص بذوي الأفكار المتوسطة.

 والحقيقة أن الاستراتيجية مفهوم عسكري تعود أصوله إلى العهد اليوناني القديم وهو يعني جيش وقائدا له وانتقل هذا المفهوم إلى المفكرين العسكريين الألمان واليوم يستعمل في كثير من الدراسات الإدارية، ففي إحدى المقالات الواردة في هذا الكتاب يقدم الأستاذ محمد دريدي استراتيجية اليهود  كأنموذج في سعيها للسيطرة على العالم، وصل بها الأمر الى درجة الذهاب الى دسترة الإرهاب ذلك عن طريق الدعاية (النشيد الوطني) الذي يحرك مشاعر الجماهير وهو في نظرها الوحيد الذي يصنع التاريخ، والسؤال الذي يمكن أن نوجهه للأستاذ دريدي هو كالتالي:  هل النشيد الوطني وحده كاف لصناعة التاريخ دون تضحيات الرجال؟.

نلاحظ أن الكاتب يندد بنشيد اليهود كما جاء في الصفحة 18، فالنشيد اليهودي كتب بأسلوب الترهيب والتهديد وهو اعتراف ضمني بأن إسرائيل دولة إرهابية،  نذكر بعض ما جاء في هذا النشيد:

أملنا لم يُصنع بعد

حلم الف عام على ارضنا

أرض صهيون وأورشليم

ليرتعد سكان كنعان

ليرتعد كل سكان بابل

ليخيم على سمائهم الذعر  والرعب

استراتيجية "الشكوى" عند اليهود

تلك هي استراتيجية اليهود وحلمهم  بالعودة واستعادة أرضهم المزعومة، والعراق وفلسطين ليست وحدهما المستهدفتان، فإسرائيل هدفها السيطرة على العالم كله والقضاء على كل دولة إسلامية، كانت إيران أيضا مستهدفة وبشهادة  دينيس روس أشهر السياسيين الأمريكان، لأن الثورة الإسلامية انطلقت من إيران وكانت لها آثارها، نشير هنا أن استراتيجية اليهود وإسرائيل لخصتها بروتوكولات حكماء صهيون، وكذلك نظرية معاداة السامية، ربما الكاتب تحفظ عن الإشارة لهما، فوضع استراتيجية نقيض وضع قوانين كما فعل اليهود  في قانون العداء للسامية وطريقة صياغته،  فالجماعات الصهيونية في استراتيجياتها تستغل الكراهية الموجهة إليها عبر العالم، حيث صوّرت نفسها على أنها الضحية، إذ ترى أن اليهودي الوحيد الذي يمتلك ديمقراطية حقيقية، وقد جعل اليهود من الشكوى وحتى نظرية المؤامرة  استراتيجية.

 لا ندري طالما الكاتب يركز في مقالاته على الاستراتيجيات وتحدث عن اليهود كعينة، لماذا  أهمل هذه المفاهيم ولم يشر إليها ولو أن هذا ليس مجال للحديث عن سياسة اليهود تجاه العرب والمسلمين، لكن نحن نحاول أن نبيين كيف تم توظيف مفهوم الاستراتيجية  في كل الميادين، فالكاتب تحدث عن سياسة الاستعباد (ص23)  وأوضح كيف يتطور الاستعباد  من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان (الميكرو) إلى استعباد دولة لدولة أخرى (الماكرو)، وسعيه في احتلال الأرض كلها من لبنان إلى أفغانستان مرورا  بسوريا والعراق واليمن وحتى إيران مستدلا بالأعمال التي قامت بها إدارة سايس بيكو التي لا يزال المؤمنون بها  يعملون لبقاء إسرائيل، وفي الصفحة 25  يقدم الكاتب رؤيته لمسألة "الحُكم"  وكيف يكون بعد الخدمة خاصة في حالة إذا ما تغيرت القوى وتعدلت لصالح طرف معيّن، فقد أشار - من باب التلميح- إلى الهاجس الإسرائيلي وتخوفها  من البلدان العربية  في الوقت الذي نجد دولا عربية تطبع مع إسرائيل وشوهت صورة العربي في كل المجالات، فالتبعية كانت سمة بارزة لدى علماء وفقهاء وحتى شعراء البلاط مقابل خدمة أو كسب مال،  هذه التناقضات طبعا قد تغلط القارئ.

  السؤال الذي يلح على الطرح، هل كانت الأزمة الخليجية هي تمهيد للتطبيع مع إسرائيل وهل ولدت فجأة كما قال صاحب الكتاب؟ أم خطط لها كما تم التخطيط لأحداث 11 سبتمبر 2011 ؟ فكل قوى لها استراتيجيتها  مثلما نراه في حلف بغداد الذي كان جزء من استراتيجية القوى الإمبريالية (كمثال فقط)، التي تقودها أمريكا حين وقع التمرد المصري والسوري على المخططات الإمبريالية في المنطقة فكان هذا الحلف لحماية إسرائيل، ما فهمته من بعض المقالات الواردة في الكتاب نرى أن مفهوم استراتيحية تم تطويره وتوسيعه بأسلوب مبالغ فيه، إذ تم توظيفه حتى في العلاقات الإنسانية (بين المسلم وغير المسلم) عندما تحدث عن السيرة النبوية وقضية الإيمان بالمبدأ (من ص 33 إلى37)، وهذا يعني أن الإستراتيجية لا يمكنها أن تخرج عن المبدأ والثبات والنهج  الموصلة للهدف، فهل  يمكن القول أن هناك استراتيجية التفاوض مع الطرف الخصم، إذا قلنا أن المتفاوض يجب أن يكون لديه أسلوب الإقناع، ثم أن  الأستاذ محمد دريدي استشهد بمسألة هامة جدا وهي تتعلق بصناعة التاريخ، فصناعة التاريخ تتطلب خطة واستراتيجية أي رؤية بعيدة المدى مع معرفة نتائجها، قد تكون نتيجتها النجاح وقد تكون العكس عندما يكون واضعها بوجهين.

سؤال آخر ينتظر الإجابة عليه من طرف صاحب الكتاب وهو كالتالي:  هل يمكن أن نضع استراتيجية لكل مناسبة أو لكل عمل نقوم به حتى في المسائل العادية كالإحتفال بالسنة الهجرية أو الإحتفال بمولد المسيح أو المولد النبوي، نريد أن نعرف ما علاقة هذه الأعياد بالإستراتيجيات؟ كما ذكر محمد دريري مسألة التطبيع كما داء في الصفحة 73، في وضع كهذا يمكن القول أن العلاقة بين طرفين هي علاقة تابع ومتبوع (التبعية) وغالب ومغلوب وبين آمر ومطاع، نلمس ذلك في لمقال الذي عنونه بـ: الأحمق المطاع، مستدلا بالقول المأثور(ص75) "لكل داء دواء يستطب به إلى الحماقة أعيت من يداويها"، ولو أن المُطَبِّعُونَ ليسوا حمقى بل خونة، في كل الأحوال، يتفق الجميع على أن الإنتصارات في الحرب مثلا  تسبقها استراتيجيات لتحقيق مطالب اجتماعية أو مصالح وطنية.

***

قراءة علجية عيش بتصرف

في المثقف اليوم