قراءة في كتاب

محمود محمد علي: (من هنا نبدأ) للأستاذ خالد محمد خالد.. قراءة فلسفية (2)

محمود محمد عليكان هناك القصر متمثلا في الملك فاروق، والذي أحس بأنه محاصر، فبمن يستعين؟ .. هنا لجأ إلي استخدام قوة كبيرة يدفع بها هذا الطوفان المقبل، فلجأ إلي استخدام الدين، ففوجئنا بفتوي أحد مشايخ الطرق الصوفية يثبت فيها ان الملك فاروق من سلالة النبي محمد وذلك عن طريق أمه .

بيد أن هذا الأمر قد لقي استهجانا بالغاً، وهنا لجأ الملك فاروق من خلال القصر إلي تسخير بعض كبار رجال الدين ليدعموا سلطة القصر بحجة أن التيار الذي يتحدي القصر وسلطاته، هو تيار شيوعي، والشيوعية ليست من الإسلام، (وأن الإسلام دين يحث علي القناعة، وعلي الزهد إلي آخره) (11)، وهنا رأينا خالد محمد خالد في الفصل الأول أن يقوم بعملية عزل أمام الرأي العام آنذاك لهذه الأفكار المغرضة والمريبة، بحيث يعزلها عن الوعي الشعبي الثوري العام، فكان عنوان الفصل ” الدين لا الكهانة”، حيث أخبرنا خلال هذا الفصل بأن الإسلام هو دين العدالة الاجتماعية بأوسع مفهوم، وهذا وضح جيدا في التاريخ الإسلامي نظرياً وعملياً، والناس الآخرون والذين باسم الدين يدعون الشعب إلي الصبر الممرور ويعدونه بالجنة لقاء استكانته وصبره وخنوعه، والذين يصنعون هذا، لا يصنعونه باسم الدين، فالدين بريئ من كل ذلك، والإسلام كان ثورة للحرية والعدالة الاجتماعية . إذن فأولئك الذين يرفعون عقائرهم وأصواتهم باسم الإسلام لتخدير الأمة، هؤلاء يمثلون الكهانة ولا يمثلون الدين في حقيقته (12).

وأما الفصل الثاني وهو كما قلنا بعنوان ” الخبز هو السلام”، وهذا الفصل كان عرض لمساوئ وبلايا الإقطاع سواء كان احتكار الأرض أو رؤوس الأموال، وكيف كان ذلك يهدد إلي أبعد مدي حياة الشعب في حاضره، وفي مستقبله، وفي مسيره، وفي مصيره (13)، كما عرض “خالد محمد خالد” في هذا الفصل ايضا حالة المجتمع من خلال أن الأرض الزراعية في مصر، حيث تملك 90 % منها والباقي يعيش علي 10 %، والتفاتيش وكيف تسوم الناس سوء العذاب، حتي أنه كان في بعض التفاتيش كما يقول “خالد محمد خالد” وهو تفتيس تقع قريته (وهي العدوة وتقع ضمن محافظة الشرقية) ضمن زمامة، حيث كان الفلاح يُؤجر بخمسة قروش في اليوم، وحماره يؤجر بعشرة قروش في اليوم، ثم مضي خالد محمد خالد بالبحث في هذا الفصل إلي أن زكي وهتف مع الذين كانوا يومئذ يهتفون من إخوانه الكتاب والصحفيين بالعدل الاجتماعي، والذي يدعي في عصره بـ ” الاشتراكية”، (والاشتراكية في نظر خالد محمد خالد شئ مختلف عن الماركسية، فالاشتراكية في تطبيقها الواعي والعادل والمحايد هي أقرب إلي العدل الاجتماعي، أو هي الصورة العملية للعدل الاجتماعي بخلاف الماركسية) (14).

وأما الفصل الثالث والذي جاء بعنوان ” قومية الحكم”، حيث كان هناك في زمن خالد محمد خالد هيئة إسلامية كبري سرت في وجدان الشعب المصري آنذاك سريان الدم في العروق، وكانت ستُوفق كثيراً جداً لولا أن أُقحم عليها ما سُمي بالنظام السري الذي قام باغتيالات مشؤومة حتي الجماعة التي تقوم بذلك نفسها (15)، وهنا وجدنا “خالد محمد خالد” في الفصل يدير خواطره حول هذه الظروف، وهذه الأنشطة، وكانت هذه الهيئة تنادي بأن الإسلام هو دين ودولة، وهنا يقول “خالد محمد خالد” بأن النظام السري (ويقصد هنا جماعة حسن البنا الإخوانية) أُقحم عليها حتي لا يظلمها حين يحملها ككل مسؤولية ما حدث . وهذا الطموح المستهتر من التنظيم السري في نظر “خالد محمد خالد” جعله يخشي كثيراً علي الإسلام نفسه لو وصل إلي الحكم ناس من أمثال هذا التنظيم، والذي جعل وسيلته للوصول إلي الاغتيالات، وهذه واحدة، وكان “خالد محمد خالد” قد قرأ كثيراً عن الحكومة الدينية في أوربا في العصور الوسطي، عندما كانت الكنيسة والبابوية هي التي تحكم، فتأثر “خالد محمد خالد” بهذين الوجهين من المشكلة (16).

وقد جاءت تسمية ” خالد محمد خالد” لـ ” قومية الحكم” بدلاً من الحكومة الدينية، لأنه كان يرى أن في ذلك مجازفة بالدين تعرض نقاءه للكدر وسلامته للخطر، ورأى أن الحكومة تحقق الغرض من قيامها فقط من خلال المنفعة الاجتماعية العامة، وإذا كانت الحكومات الإسلامية الأولى توفر لها ذلك فإن مرده لأسباب شخصية وإيمانية لدى قوادها، وهو أمر لا يمكن أن يشمل البشر الآن، ولم يلبث الأمر أن انتهى فعلاً إلى تنافس دموي على الحكم وفتنة للناس وقادتهم ولم يعد يميز الحكم أي صلة دينية، وإن زعم أصحابه أنه حكم يؤسسه الدين، وأن الحكومة الدينية لم تكن تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ومن سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بل من نفسية الحاكمين وأطماعهم ومنافعهم الذاتية، ولأن القرآن حمال أوجه، كما قال الإمام على، فقد استغله أصحاب المنافع، فكل فريق منهم يستخدم السند نفسه فى ضرب وقتل الخصوم (17).

وكان ” خالد محمد خالد” أيضاً قد فرق بين الطعن في دعاة الدين والدين نفسه، وهو الأمر الذى تأسس عليه مفهوم الحاكمية، لأن الدين حقائق خالدة وثابتة، أما هؤلاء الدعاة وأصحاب الحكومات فهم بشر يصيبون ويخطئون، ونَقد بقسوة التوظيف السياسي للدين واستخدامه أداة أيديولوجية تسعى لتوريط الدين فى مسائل اجتماعية، وخروج طبقة كبار الملاك بجناحيها الزراعي والصناعي حينها من تلك الورطة، وأن الإسلام دين لا دولة، وأن الدين علامات تضيئ الطريق إلى الله وليس قوة سياسية تتحكم في الناس وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل، وأنه ما على الدين سوى البلاغ، وذكر أن الحكومة الدينية عبء على الدين (18).

لم يكتف ” خالد محمد خالد” بذلك، بل قال بأن الإسلام ليس بحاجة بأن يكون دولة، وحسبه أن يظل ديناً، وهذا ما أثار ضحة بالأزهر آنذاك، حيث أن لجنة الفتوي قالت بأن هذا الكتاب ضد الإسلام، وطلبت من النيابة التحقيق، وهنا قرأت النيابة مذكرة الأزهر والكتاب فزادت الطين بلة، حيث أضافة النيابة إلي “خالد محمد خالد” بأنه “شيوعي”، وتم التحقيق مع “خالد محمد خالد”، وكان رأي الأزهر والنيابة آنذاك عير صحيح، وانعقدت جلسة سرية للمحاكمة، وهنا لا بد وجدنا “خالد محمد خالد” يذكر بكل الخير الرجل العظيم رئيس محكمة مصر يومئذ والذي باشر القضية، وحكم فيها، وهو المستشار ” حافظ سابق”، حيث كتب حيثيات مذهلة في القضية لتبرئة “خالد محمد خالد”، حيث دحض تهمة الأزهر والنيابة، حيث قال المستشار :” هذا الكتاب تمجيد لدين الله، ودفاعاً عن حقوق الشعب”، وذلك في سيطرة وهيمنة الملكية آنذاك (19).

وهكذا انتقد “خالد محمد خالد” منظومة الدين والاقتصاد والتمييز ضدّ النساء في مطلع خمسينيات القرن الماضي، فتعرض كتابه للمصادرة، واستمعت النيابة إلى أقواله، ثم وجهت إليه ثلاثة اتهامات، ألا وهي: التعدي على الدين الإسلامي، التحريض على تغيير النظام الاجتماعي، وازدراء الرأسمالية مما يكدّر السلم العام. نال خالد محمد البراءة في حكم تاريخي، غلبت على مفرداته روح العدالة، خاصة فيما يخص مبدأ العدالة الاجتماعية في مواجهة النظام الإقطاعي، ورغم أنّ منطوق الحكم يعدّ انتصاراً لحرية الرأي، إلا أنّ دراسة جوانب القضية برمتها قد تثبت فساد الروايات التي تصنع من الماضي صورة مثالية. نقد المؤلف النظام الإقطاعي الملكي الذي يستغل العمالة في منظومة مجحفة أسماها منظومة “رقيق الأرض” (20).

أما الفصل الرابع والذي كان بعنوان بعنوان ” الرئة المعطلة “، وكان خالد محمد خالد يعني بالرئة المعطلة ” المرأة”، حيث قال إن المجتمع بتنفس برئتين كالإنسان، فيه الآن رئة معطلة، حيث رئة الرجل تعمل، بينما رئة المرأة معطلة ولا تعمل، وهذا حديث نسوقه بإيجاز عن قضية المرأة المصرية، وإنه لمن توفيق الله وأنعمه أننا لم نعد نتحدث عنها نطالب بحقها في الثقافة والعلم، فقد كسبت هذا الحق لنفسها، وبدأت الطلائع تتدفق كضياء الفجر حاملات معرفة المعاهد وثقافة الجامعات ليفدن بها بلادهن الظمأى إلي جهدهن وجهادهن . نعم لم نعد بحاجة إلي المطالبة بتعليم الفتاة وننح نبصر كل صباح تلك الرؤوس التي تشق شوارع القاهرة، والمدن المصرية، كأنها شموع مضاءة، تلقي وهي في طريقها إلي معاهد العلم نوراً كاشفاً علي ذكرى أولئك النفر الخالدين … قاسم أمين ومحمد عبده، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، الذين شادوا فوق كثبان الرجعية المنهارة، نهضة المرأة النامية . بعد أن أنضوا عنها قيودها، وجعلوا لها من الجهالة والانحطاط مخرجاً (21).

ثم يستطرد “خالد محمد خالد” فيقول : ” سنتحدث إذن حديثاً مباشراً عن حقوق المرأة السياسية التي يتساءل بعض الناس عن قيمتها وفائدتها لمجتمع لم يحسن رجاله حتى اليوم ممارسة حقهم الانتخابي- كما يتساءلون عن إمكان تحقيق ذلك، وللمجتمع دينه وتقاليده اللذان يقفان دون تمرس هذه الحقوق .. وكما يتساءلون – وما أكثر تساؤلهم – عن وظيفة المرأة التي خلقها الله لها، وهي رعاية البيت وتربية الأولاد .. من سيقوم بها بعد أن تصبح هي ناخباً، ونائباً، ووزيراً ! .. وهي أسئلة تدل أن أصحابها من السذاجة بحيث لا ينبغي أن تكون معارضتهم واستنكارهم عائقين عن تحقيق هذا الهدف المفعم بالاحتمالات الحسنة النافعة (22).. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............

11- خالد محمد خالد: من هنا نبدأ، ص 65.

12- المصدر نفسه، ص 98-100.

13- المصدر نفسه، ص 122-124.

14- المصدر نفسه، ص 168.

15- المصدر نفسه، ص 177.

17- المصدر نفسه، ص 189.

18- المصدر نفسه، ص 191.

19- ماهر حسن: كتب وحكـايات.. “من هنا نبدأ”، الجمعة 02-06-2017 18:06 |.. جريدة المصري

20- رباب كمال: “من هنا نبدأ”: الكتاب الذي اتُّهم بازدراء الدين والرأسمالية.. 03/02/2019.

21- خالد محمد خالد: المصدر نفسه، ص 212.

22- المصدر نفسه، ص 213.

 

 

 

في المثقف اليوم