قراءة في كتاب

محمود محمد علي: محمود محمد علي: كيف نواجه التطرف؟ (1)

محمود محمد عليقراءة  في كتاب" نحو تأسيس عصر ديني جديد " للدكتور محمد عثمان الخشت

1- تقديم: ما زلت أومن، بل ربما أكثر من ذي قبل، بأن ظاهرة التطرف، أضحت ظاهرة بارزة في واقعنا المعاصر، واتخذت أبعاد دينية وسياسية ومجتمعية خطيرة، كانت لها أعراف وخيمة، ونتائج سيئة، وانعكاسات سلبية علي وطنا العربي بصفة خاصة، والإنسانية بصفة عامة، علي جميع المجالات والميادين والأصعدة والمستويات، وقد أدت هذه الظاهرة غير الصحية، أو الظاهرة الدخيلة علي واقعنا العربي المعاصر إلى ظهور مجموعة من السلوكيات الشائنة غير الشرعية وغير المقبولة قانوناً، مثل العنف، والغدر، والتعصب، والإرهاب، والترويع، والتخويف، والتقتيل، وزرع الفتنة،، وتهجير الساكنة الآمنة، وطردها من بلادها الأصلية، ورفض الحوار والاختلاف والحجاج، والميل نحو عدم التسامح والتعايش مع الغير أو الآخر (1).

ولا يعني هذا أن ظاهرة التطرف مرتبطة ببعض الأفراد والجماعات المتشددة والمغالبة في مجتمعنا العربي – الإسلامي فحسب، بل هي ظاهرة بارزة ومنتشرة كذلك في المجتمعات الغربية، والمجتمعات الإنسانية كلها، منذ بداية التاريخ الإنساني، وبالضبط مع قتل قابيل لهابيل تعبيراً عن فكره " المتطرف"، وتعصبه لرأيه المتشدد قصد الاستحواذ بأخته الجميلة للتزوج بها، دون أخيه الذي فضله الله عليه بسبب تواضعه الجم، وسماحته النيرة، وتدينه الصادق، وسخاء قرابينه، وبهذا يكون قابيل قد ارتكب أول جريمة في تاريخ البشرية والإنسانية باسم الغلو، والتشدد، والتنطع،، ولكن لا علاقة بالتطرف، بأي حال من الأحوال، بالأديان والشرائع السماوية التي منعت التطرق والتشدد والغلو بشكل واضح وجلي، ونهت عنه جملة وتفصيلاً (2).

وأما عن  التطرف الفكري فقد برز في وقت مبكر من تاريخ المجتمع البشري، حتي قبل أن تنعقد التركيبة الاجتماعية، سواء في منظومتها الفكرية أو في وسائلها الحياتية، لأن في أسباب التطرف الفكري ما ليس رهنا بالتركيبة الاجتماعية المتطرفة، وإنما يتجسد في البيئة الساذجة علي وجه التحديد. ولطالما وجد التطرف الفكري لا كحالة في الفرد والمجتمع وإنما كظاهرة اجتماعية تتسع وتضيق حسب عوامل نشوئها، وحجم تفاعل هذه العوامل وتأثيرها، ولم يقتصر ذلك علي صعيد معين من أصعدة الحياة، وإنما يكاد يشمل أو يشمل بالفعل جميع الأصعدة، لأن التطرف الفكري يتحقق أينما تحقق سببه وعلي أي صعيد (3).

إن للتطرف الفكري وجهين، أحدهما مكشوف والآخر مقنع، فكما يوجد التطرف الفكري المكشوف، والذي يمكن تشخيصه  دون تعقيد، وكذلك هناك التطرف الفكري المقنع الذي تضيع معه البصلة، لا سيما إذا أتخذ صيغة علمية، وظهر بوجه حضاري، فيترك تأثيراً كبيراً وخطيراً في الشعوب والمجتمعات، وربما يصل إضلاله حد تصور أنه النهج الصحيح، وما عداه هو الشذوذ والخطأ (4).

ولقد عرف الخطاب العربي – الإسلامي المعاصر أشكالاً متعددة عن التطرف الفكري، وتناولته وجهات نظر فكرية، وإيديولوجية مختلفة باختلاف المراحل التاريخية التي مرت بها الثقافة  العربية- الإسلامية، ولأن الخطاب هو المقول عن القول الذي أسسته قراءة تحتاج إلي تعددية النقد والتأويل والتعامل معها إيجاباً وسلباً، فقد تأسس الخطاب منذ عصر النهضة مع الإمام "محمد عبده" إلي اليوم علي مقولتي " الأصالة والمعاصرة"، ورغم أنه يظهر نظرياً أعمق تفاعلاً مع نصوصه وأكثر انفتاحاً علي الآخر، ورغم ضخامة المشروع النهضوي، وأهمية أسئلته، فإنه لم يحقق المأمول والمقاصد، لأن الأخذ عن الغرب العلماني كان يقابله التمسك بخطاب إسلامي متضخم متصل بالنموذج الإسلامي المطلق، ذلك أنه عندما ينطلق هذا الخطاب من المستقبل ليولي وجهه نحو الماضي، فإنه إنما يعبر عن عجزه عن ممارسة السياسة في الحاضر الشئ الذي يفقده القدرة علي بناؤ حلم مطابق، علي إضفاء نوع من الواقعية علي طموحاته (5).

ولهذا، لم يتحقق خلم النهضة الإسلامية وما تلاها من محاولات التحرير والتنوير ولم يتمكن الخطاب الديني من فهم الواقع الإسلامي والإجابة عن أسئلة المرحلة، فظل مغلقاً متعثراً دون أن يستجيب لنداء  التغيير، أو ينفتح نفق النقد والتأسيس لخطاب ديني جديد، يمكن أن يكون أفقاً للتعبير عن روح المشروع الإسلامي، من عمق هذه الأزمات المتلاحقة، كان مطلب التجديد مطلباَ ملحاً علي الفكر الإسلامي، ليس لأجل التجديد، وإنما لأجل ملء الفراغ الروحي والمادي، وتخطي اللوث الميتافيزيقي الذي أحاط بالعقل ورمي به إلي هاوية الانحطاط والسقوط، يصبح التجديد هو الغاية وهي المساهمة في تطوير الواقع وحل مشكلاته والقضاء علي أسباب معوقاته وفتح مغاليقه التي تمنع أي محاولة لتطويره (6).

لماذا لم يتمكن الخطاب الديني الإسلامي من تجديد أفقه المعرفي، وتأسيس رؤية أنطولوجية تقوم علي النقد والمجاوزة، وعلي تحرير النص من لوث القديم الذي لم يعد قادراً علي الإبداع والتعبير عن أسئلة الواقع الإسلامي، ولم تكن المشاريع التجديدية منذ النهضة ترفع تجديداًَ ثورياً يأتي علي كل شئ ويسأل كل المقدسات ويقوضها ويفكك أيقوناتها، وينشد السعي إلى تغيير كل شئ من أساسه، وضمن هذه المشاريع النهضة إلى التجديد الفكري، وإلى تحرير الخطاب الديني الإسلامي من الرشح الأصولي الميتافيزيقي، ومن اغترابه في حداثة غربية معطوبة متمركزة حول ذاتها، خلعته عن واقعه واسقطت وجوده في النسيان، يسعي الفيلسوف المصري الأستاذ الدكتور "محمد عثمان الخشت" إلى المساهمة في نقد العقل الفقهي اٌلإسلامي وتفكيك خطابه الأصولي مستفيدا من الرجوع للينابيع الأولي من الكتاب والسنة وما اتفق عليه فيه السلف والخلف الصالح، متسلحا بسلاح خبرته الطويلة في مجال الفلسفة الحديثة والمعاصر وفلسفة الدين ومقارنة الأديان.

2- التعريف بالمؤلف:

يعد الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت، واحداً من كبار المفكرين المصريين المتخصصين في فلسفة الدين القلائل الذين تعاملوا مع الفلسفة بروح تجديدية منفتحة، وهو من الفلاسفة الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب، ويدفعون إلى التأمل (7)، وهو يشغل الآن رئيس جامعة القاهرة، وهو رائد في فلسفة الأديان في العالم العربي، وأول من وضع يده علي العناصر العقلانية وغير العقلانية في الدين من خلال كتابه المعقول واللامعقول في الأديان، قال عنه المفكر الكبير الدكتور " حسن حنفي" (في مقدمته لكتاب العقل وما بعد الطبيعة)  قال:" إن روح الفارابي تعود من جديد في محمد عثمان الخشت"، وهو موسوعي الثقافة، يجمع بين التعمق في التراث الإسلامي والفكر الغربي. تتميز مؤلفاته بالجمع بين المنهج العقلي والخلفية الإيمانية. له كتابات مرجعية في أصول الدين والمذاهب الحديثة والمعاصرة.

ولد الدكتور محمد عثمان الخشت  في الأول من يناير لسنة 1964م، ودخل قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، ثم أصبح الخشت مُعيدًا بدايةً من عام 1986م، وترقى إلى درجة مُدرس مُساعد بعدها بأربع سنوات عقب حصوله على درجة الماجستير. ثم في عام 1993م، نال درجة الدكتوراه وأصبح مُدرسًا بالكلية ذاتها. إلى أن أصبح أستاذًا مُساعدًا عام 2003 م عقب قيامه بأبحاث الترقي، إلى أن وصل إلى الأستاذية عام 2008 م بعد استيفائه مُتطلبات الدرجة.

كان محمد الخشت متميزاً في دراسة فلسفة الدين في مصر، والعالم العربي؛ حيث استطاع ببحوثه ومؤلفاته أن ينقل لنا البحث في فلسفة الدين من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلى مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلى أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

علاوة علي أن محمد الخشت يجمع بين التعمق في التراث الإسلامي والفكر الغربي. وتقدم أعماله رؤية جديدة لتاريخ الفلسفة الغربية تتجاوز الصراع التقليدي منذ بداية العصور الحديثة؛ وتتميز مُؤلفاته بالجمع بين المنهج العقلي والخلفية الإيمانية ونسج منهجًا جديدًا في فنون التأويل يجمع بين التعمق في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية وتاريخ الأديان والفلسفة.

وبلغت مُؤلفات الخشت (من آخر تصنيف موسوعة ويكبيديا) عدد (41) كتابًا منشورًا و(24) كتابا مُحققًا من التراث الإسلامي، مع عدد (28) من الأبحاث العلمية المُحكمة المنشورة، و(12) دراسات منشورة في مجلات عربية؛ ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: روجيه جارودي: نصف قرن من البحث عن الحقيقة، حركة الحشاشين: تاريخ وعقائد أخطر فرقة سرية في العالم الإسلامي، مدخل إلى فلسفة الدين، مقارنة الأديان: الفيدية، البرهمية، الهندوسية، الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، فلسفة العقائد المسيحية، أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط، العقل وما بعد الطبيعة بين فلسفتي هيوم وكنط، فقه النساء في ضوء المذاهب الفقهية والاجتهادات المعاصرة، المعقول واللامعقول في الأديان بين العقلانية النقدية والعقلانية المنحازة، الشخصية والحياة الروحية في فلسفة الدين عند برايتمان، تطور الأديان، نحو تأسيس عصر ديني جديد ...الخ. وكان قد صدر أول كتاب منشور له عام 1982، كما صدرت أربعة كتب عن فكره وإسهاماته العلمية باللغة العربية والإنجليزية، كتبها عشرات من أساتذة الجامعات المصرية والعربية ومُحررون أجانب، فيما صدر عنه وحول فكره أكثر من 78 بحثًا علميًا مُحكمًا، وقد تُرجمت بعض أعماله إلى لغات أخرى مثل الألمانية والإنجليزية والإندونيسية.

ثم تولى الخشت الكثير من المناصب القيادية بجامعة القاهرة، من بينها المُستشار الثقافي للجامعة (2002- 2013)؛ ومُدير مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة (2010- 2013)؛ وعُضو اللجنة الدائمة لاختيار الوظائف القيادية بجامعة القاهرة (2013-2013)؛ ومُسئول التدريب والتثقيف للجامعات المصرية بوزارة التعليم العالي (2013)؛ ومُستشار الدراسات العليا بجامعة القاهرة عضو المكتب الفني (2009 - 2013)؛ ومُسئول جودة الأنشطة الطلابية في مشروع تطوير الأنشطة بوزارة التعليم العالي عن جامعة القاهرة (2007-2008)؛ والمُؤسس والمُشرف على مشروع جامعة القاهرة للترجمة (2010- 2017)؛ والمُشرف على تحرير مجلة هرمس (2010- 2013)، وهي مجلة علمية مُحكمة في الدراسات الأدبية واللغوية ومُعتمدة من أكاديمية البحث العلمي ولجان ترقيات الأساتذة والأساتذة المُساعدين في مُختلف تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات المصرية، كما شارك في تأسيس مجلة الجامعة الدولية؛ ونائب رئيس جامعة القاهرة لشئون التعليم والطلاب (2016- يوليو 2017). كما شغل منصب المُستشار الثقافي المصري لدى المملكة العربية السعودية (2013- 2015).

وأشرف الخشت على أكثر من 50 رسالة ماجستير ودكتوراه، وكان أخرها منذ سنوات مضت "النزعة التنويرية عند محمد عثمان الخشت.. دراسة في فلسفة الدين، وتُناقش الدراسة رؤيته لتطوير العقل الديني وتأسيس فلسفة جديدة للدين. كما قام الخشت أيضًا بتحكيم ومُناقشة عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه والأبحاث وترقيات الأساتذة والأساتذة المساعدين بمصر والعالم العربي. كما شارك في أكثر من 40 مُؤتمر علمي ودولي، ونظم وشارك في تنظيم 100 مُؤتمرًا دوليًا ومحليًا.. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط.

الهوامش

1- حمداوي، جميل: التطرف بين الواقع الاجتماعي والمناخ الفكري، شؤون عربية، جامعة الدول العربية - الأمانة العامة، العدد 171، 2017،ص 202.

2-المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

3- بدر بنت عبد الله قبلان العصيمي: التطرف الفكري: تعريفه، أسبابه، مظاهره، آثاره وسبل القضاء عليه، مجلة كلية التربية، جامعة بنها - كلية التربية، مج29 ,ع115، 2018، ص 225.

4- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

5- علي الحبيب الفريوي،: قراءة الخطاب الديني عند محمد أركون من النقد إلى التجديد، أعمال ندوة: في ضرورة تجديد الخطاب الديني، اتحاد كتاب المغرب ووزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، اتحاد كتاب المغرب، 2015، ص 163.

6- علي الحبيب الفريوى،: قراءة الخطاب الديني عند محمد أركون من النقد إلى التجديد، أعمال ندوة: في ضرورة تجديد الخطاب الديني، اتحاد كتاب المغرب ووزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية، اتحاد كتاب المغرب، 2015، ص 163.

7-ماهر عبد المحسن: محمد عثمان الخشت وألعاب الفلسفة، أوراق فلسفية، العدد 57، 2018، ص 51.

 

في المثقف اليوم