قراءة في كتاب

محمود محمد علي: كيف نواجه التطرف؟ (3)

محمود محمد عليقراءة  في كتاب" نحو تأسيس عصر ديني جديد " للدكتور محمد عثمان الخشت

في هذا المقال نعود ونكمل حديثنا عن مواجهة التطرف من خلال قراءتنا النقدية كتاب "نحو تأسيس عصر ديني جديد" للدكتور محمد عثمان الخشت فنقول:" ينتقد الخشت سيادة العقل المغلق الأحادي التفكير «لأن صاحب العقل المغلق لا يستطيع أن يتجاوز ذاته أو عالمه الخاص، ومن المستحيل أن يرى شيئاً خارج عقله، ولا يستطيع أن يتجاوز أفكاره المظلمة، ولا يمكنه أن يرى غير أفكاره هو، ويعدها يقينية قطعية لا تقبل المناقشة، بل يصل به الحد إلى الاعتقاد بأنها ذات طابع إلهي، وأن الله تعالى معه، بل إنه ممثل الله على الأرض، والله ليس رب العالمين بل ربه هو فقط" (21).

وتحت عنوان "حتى لا نعيد إنتاج عقول مغلقة" أرجع الدكتور الخشت ما نعانيه من انغلاق لأسباب منها مناهج التعليم القائمة على التلقين التى لا تصنع عقولاً إيجابية منفتحة وفعالة بل تصنع عقولاً غير فعالة، ويرى أن عدم تطوير التعليم سيجعل البديل هو الإرهاب (22).

هذا الإرهاب الغشوم الذي لم يعرفه المسلمون الأوائل قوة بارعة منفلته خارج قواعد الحرب، ولا تلتزم بأي أخلاق للمواجهة، إرادة لا عقلانية لا أخلاقية خارجة من متاهات الرفض والكراهية ومهما دمر الإرهاب وفجر وروع وقتل يظل حفارا لقبره قبل قبور من يراهم خصوما عاجزا عن الفعل والإنجاز

ولذلك يوضح الخشت في هذا الكتاب كيف يري الإرهابيين مسرفين في الأرض .. مسرفين في الدماء وأنهم أصحاب دين الخوارج الذي هو جبر وجبروت وإجبار، ومن ثم ينتقد الخشت الرؤية الأحادية للإسلام لأنها تنظر إلى الإسلام من زاوية محدودة وضيقة، ولذا ينتقد الخشت أحادية النظرة الإسلامية المتشددة، وكذلك أحادية التوجهات العلمانية فى موقفها من الدين، ويرى الخشت أن التيارين على رغم تعارضهما يشتركان فى مجموعة من الصفات التي تجعل الصراع بينهما صراعاً عقيماً، وأهم صفة مشتركة بينهما هي «وهم امتلاك الحقيقة المطلقة» فكلاهما يزعم أنه وحده الذي يعرف الحقيقة، ويمتلك مفاتيح الخلاص، ولذلك فكلاهما متعصب وكلاهما دوغماطيقى، وكلاهما يجرنا إلى حافة الهوية» (23))، ولكن على رغم نقد الخشت للعقل المغلق، ونقده للنظرة الأحادية للإسلام، فهو نفسه يروج بعقل مغلق سلفي، ونظرة أحادية لفترة صدر الإسلام على أنها الحلم الذي ينبغي أن نعود إليه لنستقي رؤيتنا للإسلام (24) .

ويمضى الفصل الرابع من الكتاب، وعنوانه حتى لا نعيد إنتاج عقول مغلقة فى بيان أهمية التعليم، وأثره فى تنمية منهج التفكير، والقضاء على الانغلاق الفكرى، وينظر (الخشت) إلى تطوير التعليم والبحث العلمى وسيلة وغاية لتحقيق الأمن القومى المصرى والتنمية فى المجالات المختلفة (25).

إن التخطيط الواضح لمستقبل العلم الحديث أساس للنهضة والتقدم نحو التجديد والابتكار وبناء الشخصية المصرية القوية . ويضع (الخشت) تصورا جادا لتطوير التعليم، وتحقيق غاياته الثقافية والحضارية فى إطار استراتيجي لحساب المشاكل والحلول. استراتيجية قومية واضحة ومحددة ذات فلسفة اجتماعية فى التربية والتعليم والبحث العلمي، حتى يكون التعليم هو البوابة الذهبية لبناء مصر المستقبل. حيث التعليم القائم على الحوار والفكر والابتكار لا الحفظ والتلقين، التعليم من أجل الوعى النقدي، وممارسة الحرية. (26).

وكذلك تطوير المحتوى التعليمى ليتناسب مع متطلبات إعادة بناء مصر ثقافيا وسياسيا، واحتياجات المجتمع وسوق العمل. وذلك لمعرفة الحقائق، وتربية الفرد، وتكوين المجتمع الديمقراطى، باعتباره ضرورة من ضرورات الحياة. فالتعليم هو صانع الموارد البشرية، والنهضة الصناعية والزراعية والتنمية الشاملة (27)، القائمة على التكنولوجيا الحديثة. والقدرة على صنع هذه التكنولوجيا، لا استيرادها، والعمل على ربطها بالثقافة والتعليم الذكي الحديث القائم على هذه التكنولوجيا، لا الوسائل القديمة (27)، ويحلم (الخشت) بهذه الثورة العلمية التعليمية قائمة على الجهد والعمل، لا الشعارات الجوفاء. وكذلك العمل على إتاحة الموارد المالية للإنفاق على البحث العلمي، والنهوض به. ويجب وضع خريطة عمل من أجل أن يكون العلم في قلب المشروع القومي لمصر، وانفتاحه على الآفاق العلمية العالمية الحديثة. (28).

وعنوان الفصل الخامس تجديد المسلمين وبحث الفجوة بين الإسلام بمثاليته الرفيعة، وبين المسلمين وواقعهم المتردي، فالإسلام يقدم نموذجا عالميا للدين الذى يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوع الكوني والإنساني، ويؤكد أن التعددية سنة إلهية، ويميز بوضوح بين البشرى والإلهى (29).

أما الفصل السادس، وعنوانه: الإسلام الحر فيتجه إلى تقديم نماذج من الفقه الإسلامي الحر الذى جابه الجمود والانغلاق والتعصب فى كل زمان ومكان، فى تمييز راجح بين الثوابت والمتغيرات، فالعدل، مثلا، قيمة مطلقة، لكن الإجراءات الضامنة له متغيرة. والمجال مفتوح –دوما- للاجتهاد الذى يدور حول المصلحة المجتمعية، المحكومة بمعايير الشرع ومقاصده . والإسلام الحر عودة لمنابع النهر الصافية، القرآن والسنة الصحيحة. والاجتهاد واجب دون فرض رأى، وادعاء أفضلية على رأى آخر. ولابد من السعي إلى التخلص من الشبهات والشوائب التي تشوه الإسلام (30).

والإسلام الحر هو الجوهر الخالص من الشوائب، القائم على تعدد الرأي، المتسم بالأصالة  والحرية مسئولية لا فوضى فى إطار الالتزام بتطبيق القانون . والحرية هي الحق في فعل كل ما تسمح به القوانين. ومضى (الخشت) يوضح معالم الحرية الخاصة، وحرية العقيدة وفق منهج ديني عقلي رشيد. ويتناول الخشت الإبداع والفن والسينما، ودور ذلك فى الرقى الإنسانى بعيدا عن الابتذال والانحطاط الأخلاقي. وتذوق الجمال – حسب مفهوم أحد أدباء أوربا- ينشأ من الشعور بالاحترام والعرفان بالجميل، والسرور النابع من إدراك صنعة الخالق في الطبيعة والطريق إلى الفن هو القلب.، والفن الأصيل تطهير للنفس الإنسانية، اتساقا مع الدين الذى يرسخ قيم الحق والخير والجمال، ويعيد للإنسان نقاءه العقلي وتصالحه مع ربه ونفسه وعالمه، بتعبير (الخشت) (32).

وعنوان الفصل السابع، وهو الفصل الأخير الحاكم الناجح بين قوانين القرآن وسنن التاريخ. وهو قراءة ضافية لقصة ذى القرنين فى القرآن الكريم. وينطلق منها إلى العبر والدروس المستفادة فى قراءة التاريخ ومعرفة قوانينه، لتكون منهاجا للفرد والمجتمع نحو حياة أفضل (33).

من ذلك الجمع بين التفكير الديني الصحيح، والتفكير العلمي المنضبط، مما تمثل فى شخصية ذى القرنين حاكما عادلا عاملا. ولنهوضنا يجب امتلاك الإرادة والتفكير المنظم، وإقامة الدولة على أساس العدالة والصدق، ومواجهة الإرهاب بكل قوة، والإعداد للقضاء عليه بكل عدة، وإرادة النصر على التخلف والإرهاب، والأخذ بالأسباب والتخطيط، الأخذ بأسباب التمكين والتنمية ومواجهة الإرهاب بكل قوة، وهى الأيقونة التى نستخلصها – مع الخشت- من قصة (ذى القرنين)، بل من قصة الدين والعلم والحياة (33).

6- الخاتمة:

وختاما نقول إن كتاب عنوان " نحو تأسيس عصر ديني جديد"، سياحة فكرية قامت علي نظرية جديدة في الفكر الإسلامي تقوم علي النسخ والتفكيك لكل ما هو قديم، ثم إعادة تأسيس واقع ديني جديد، وطريق الخلاص عند الخشت يقوم علي العودة إلي الإسلام النقي، أو الإسلامي المنسي حسب تعبيره، وأن الإسلام الحالي شوهته وزيفته الأفكار المتشددة والمتطرفة، ومن هنا تأتي الحاجة إلي تأسيس منظومة كلها جديدة من المرجعيات والفقه والحديث والتفسير.

ولذلك رأينا الخشت يدعونا إلي تجاوز عصر الجمود الديني والذي يعتبره انه طال أكثر من اللازم، ويعترض علي مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي، لأنه ترميم لبناء قديم ومتهالك حسب رأيه .

والواقع أن كتاب الخشت الجديد "نحو تأسيس عصر ديني جديد" على رغم أنه يحمل على الحركة الإصلاحية العربية، إلا أنه لم يخرج في إطاره العام عن آراء تلك الحركة، ولكنه فقط اختلف عنها فى القالب اللغوي الذي عرض به أفكاره حيث قام بتوظيف بعض المفاهيم الجديدة في المنهجيات الحديثة عند ديكارت، وجاك دريدا، وغيرهما، فالكتاب هو دعوة قديمة في قالب جديد، وإن كان لا يخلو من ومضات ثاقبة أحياناً، كما يحسب له أنه كتب بلغة مبسطة  لأن الكتاب في الأصل هو مجموع مقالات كتبها الخشت في جريدة "الوطن".

وعلي هذا النحو يترسم الخشت في كتابه " نحو تأسيس عصر ديني جديد " طريقا هادفا إلي استئصال شأفة التطرف الغارق في رواسب المضي وكل ما يتمخض عنه من مزاعم إرهابية تشوه الحاضر وتحاول يائسة أن تغلق أبواب المستقبل من دون أن ينزلق إلي التطرف المضاد : دعاوي استئصال الظاهرة الدينية المستحيل، أو تجحيمها الخاسر في واقعنا الأنثروبولوجي الذي يسهم الدين بالنصيب الأكبر في تشكيل ثقافته، أي رؤية للعالم وتوسم بأنها الدائرة الإسلامية مما يجعل تأسيس عصر ديني جديد وخطاب ديني جديد فرض عين علي المثقفين جميعا (35)

ويخلص الخشت في جميع مؤلفاته ومشاريعه الفكرية إلي أن الأمة الإسلامية تكون في خير إذا خلت الرؤية العلمية للدين محل الرؤية اللاهوتية السحرية القائمة علي النقل والخفظ والاتباع الأعمى .... وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط.

الهوامش

21- د. محمد عثمان الخشت : المصدر نفسه، ص 61.

22- المصدر نفسه، ص 64.

23- المصدر نفسه، ص 75-76.

24- المصدر نفسه، ص 76.

25- عوض الغبارى: المرجع نفسه،  ص 389.

26- المرجع نفسه،  ص 390.

27- المرجع نفسه،  والصفحة نفسها.

28- المرجع نفسه،  والصفحة نفسها.

29- المرجع نفسه،  ص 91.

30- المرجع نفسه،  ص 92.

31- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

33- المرجع نفسه،  ص 93.

34- المرجع نفسه،  ص 93.

35- يمني طريف الخولي : مواجهة التطرف .. قراءة في كتاب الخشت نحو تأسيس عصر ديني جديد.

 

 

في المثقف اليوم