قراءة في كتاب

محمد تقي جون: رؤساء جامعة واسط كما عرفتهم.. أسلوب جديد في كتابة السيرة

محمد تقي جونعرض وتحليل

يعد كتابنا (رؤساء جامعة واسط كما عرفتهم) أسلوبا مغايرا وشائقا في كتابة السيرة. الجديد في الكتاب ليس في عباراته الرائقة ولا أفكاره الرائعة ولكن في انه (يسوّق) للشخصيات ويبرّزها ويشهرها من محليتها ومحدودية جغرافيتها التعريفية الى العالمية والتخليد.

وهذا الاسلوب التسويقي هو أسلوب مبتكر في كتابة السيرة الشخصية. اعتمادا على اظهار الجوانب المتفردة للشخصية والسمات المميزة والمثالية، والتركيز على عفويتها مما يضفي عليها الطابع الانساني الواسع بأسلوب تعبيري يعمق ذلك، وهذا يجعل لها عمقاً تأميلياً من القارئ يرشح تلك الشخصيات الى النظر اليها بوصفها شخصيات تستحق الخلود بما قدمته من أعمال كبيرة أثرت في تاريخ المدينة (الكوت) وفي المجتمع المحلي، واستمر تأثير انجازاتها بعد اعفائها من منصب رئيس الجامعة.

كما ان الكتاب يهتم بابراز جامعة واسط يوصفها (عرش القلم) وأشهر مَعلم في محافظة واسط، وأعلى صرح علمي فيها؛ وانها خطت خطوات كبيرة واثقة في التقدم، وتخطو لتكون في المقدمة. انها مدججة بسنوات الخبرة والموهبة، وطاعنة في سن التحدي والمنافسة، وقد أحيت الجامعة ماضي المحافظة المشرق العلمي والادبي والفني، ممثلا برجال العلم ولاسيما أهل اللغة والنحو، ورجال الادب كالشاعر ابن المعلم، ورجال الفن كالواسطي الذي رسم مقامات الحريري. ومثَّلت الحاضر العلمي الراقي المواكب للتطور العالمي، فبقيت شعلة متقدة تقاوم رياح الظروف العاتية والتحديات الكثيرة والكبيرة وآخرها جائحة كورونا. وهي تعِد بالمستقبل الزاهر، وعلى جهودها تلوح مخايل الامل والنجاح. وثمة بعد زمني رابع للجامعة هو: انها أكثر مما تعِدُ، وأكبر مما تبدو.

وقد نبهنا في كتابنا عن رؤساء جامعة واسط على ان كتابة سيرة أي شخص تقتضي معايشة الشخصية وملازمتها، فالشخصية ستنطق بمعلومات وصفها غزيرة دون أن تتكلم، بل ستكلم ما يبدو منها ويبدر بالمعايشة، وهكذا جاءت وصف الشخصيات صادقا عفويا محببا بفضل معايشة المؤلف لها.

(جمعتني بالرؤساء السبعة الذين عملت معهم الصداقة والاحترام والمودة. وكنت منسجما ومتفاعلا مع أسلوب الرئيس الجديد وثقافته. وكثيرة هي المواقف التي اتذكرها وهيهات انساها، التي جمعتني مع رؤساء الجامعة. كان الدكتور جواد مطر الموسوي يتفقدني ويذكرني ويجالسني. وكانت الطلة أول الصباح ضرورية على الرئيس الدكتور طالب محيبس الوائلي. وكنت والدكتور عبد الرزاق النصيري، في اوقات الفراغ القليلة نتباصر بالعلم والشعر. وفي احدى المرات مرَّ بوعكة صحية فخرج من غرفته الرئاسية وهو يتهدج في مشيته من ثقل المرض وأنا أسير خلفه، فأثَّر ذلك في نفسي كثيرا وأرقني حاله كثيرا، ودعوت الله أن يعيده من العملية الجراحية سالما، ويقدّر أن يخرج من غرفته الرئاسية مرة أخرى وأسير خلفه. وقد استجاب الله سبحانه، فعاد سالما معافى وخرج من غرفته الرئاسية، وكانت فسحة من المكان لأسير معه، ولكني تركت المكان لشخص آخر وتراجعت الى الخلف فمشيت وراءه كما دعوت الله سبحانه. وسافرتُ مع الدكتور هادي دويچ العتابي ضمن وفد الى كربلاء وايلام فكان ودوداً تلمس أريحيته بالاصابع. وأذكر كيف يأنس بي حين أدخل عليه، الدكتور مازن الحسني، فأحس بأنَّ ما يجمعنا علاقة (مِنّية) صميمية، وليست (عَنّية) مجاملاتية. كنتُ سنداً لهم، وكانوا سنداً لي. أحببتهم وأحبُّوني، وجمعتنا مودة العمل المصيري الواحد، كالمودة التي تجمع جنوداً يقاتلون في خندق واحد. فلهم ولعهودهم الطيبة حبي واحترامي).

ولاننا أرادنا لعملنا ان يكون (مميزاً، مقروءا، وأثرا باقياً) وضعه في قالب أدبي شائق لذيذ، وحمل التعبير أحيانا على أجنحة اللغة لتبوح بما لم تقله العبارة (مسكوت عنه). لكي لا يتأثر فنيا بذكره للأعمال الواقعية والحقائق التاريخية. وقد توزع تركيز العمل على ثلاث نقاط: رسم الخطوط المركزية لشخصية الرئيس الادارية، وأسلوبه في الادارة، والاعمال التي قام بها.

تناول المؤلف سيرة ثمانية رؤساء للجامعة. ذكر اسم الرئيس كاملا ولقبه العلمي واختصاصه الدقيق وتريخ توليه وتاريخ اعفائه وذكرة مدرة رئاسته. ووصف الشخصية داعما ئلك بروايات الشهورد. فالدكتور فرقد عبد الرحيم الراوي اول رؤساء جامعة واسط من 13/ 1/ 2003 الى 16/ 5/ 2003. امتلك العلم والخبرة؛ فهو خريج كندا، وعمل سنينَ في منظمة الطاقة الذرية العراقية، ثم عميدا لكلية الزراعة بجامعة بغداد (1998- 2003). جاء بمرتبة أستاذ مساعد، وعمل على بحوث الاستاذية اثناء توليه المنصب.

قال عنه الدكتور مجيد خير الله الزاملي وكان يشغل منصب أمين مجلس الجامعة: (الدكتور فرقد الراوي اول رئيس جامعة في واسط، ويشعرك بأنه رئيس جامعة بحق. كان شخصية قوية، هادئة، تشعر بعروبته الأصيلة التي انحدر منها. أسس اول مجلس لجامعة واسط، وكنتُ اول أمين للمجلس يعمل مع هذا الرجل في ظروف صعبة. حاول أن يطور الجامعة، ويوسع كلياتها، لكن مدته كانت قصيرة. كريم النفس، نزيه، شجاع لا يتراجع في المواطن التي تتطلب اتخاذ قرار مناسب. اهلته شخصيته العلمية والاجتماعية أن يؤثر بشكل واضح في المحافظة، بتأسيسه صرحاً علمياً شامخاً، وتهيئة الأجواء لخلق بيئة جامعية مستقرة فيها).

والدكتور جبار ياسر المياح (أبَّهة القيادة والزعامة والصدارة ظاهرة عليه تؤديها كل جوارحه بلا تكلف، وينطق بها صامتاً أو متحدثا بصوته المنخفض المثقل بالهيبة والثقة).

كما اتصل المؤلف بالشخصيات الحية واستقى المعلومات منها، وبعد اكمال المادة يعرضها على الشخصية لقراءتها فقال عن الدكتور فرقد الراوي (وتكلمتُ معه طويلا على الواتساب، وراسلته مراراً لجمع المعلومات والتأكد من صحتها. فكان لطيفا، يطغى عليه الجانب العلمي وكما توضح ذلك سيرته الذاتية (CV). وصاحب ذوق عال، ومواطنة كبيرة، وحب عراقي عام، وحنين كبير الى (جامعة واسط ومنتسبيها، والى الكوت وأهلها الطيبين).

والكتاب مهم جدا في تاريخ الجامعة والمحافظة، فهو مسح شامل ودقيق للاحداث التي مرت بها الجامعة والمحافظة، مما يجعله مرجعا مهما في ذلك. فعن مدة رئاسة الدكتور حسام مجيد الزويني يقول (تقسم حقبة الدكتور حسام الزويني الى ثلاث مراحل: مرحلة حل المشكلات العالقة من 1/6/– 1/ 10 / 2019. ومرحلة أحداث تشرين من 1/ 10 الى 15/ 2/ 2020. ومرحلة كورونا من 25/ 2 الى 19/ 5/ 2020 (إنهاء التكليف). فهي بمجموعها (رئاسة أزمة).

عن مرحلة انتفاضة تشرين: (فجأة تغيَّر كل شيء؛ خرج الشعب يطالب بحقوقه، ومحاربة الفساد، وتوفير فرص الحياة الكريمة، في مظاهرات عارمة شملت وسط وجنوب العراق، وتوقف كل شيء:

وفَجأة استيقظ البركانُ ناراً عارمهْ

يمشي ويوقظ لم يدعْ من نائمٍ ونائمه

من وسطٍ الى الجنوبِ وبوسطِ العاصمهْ

شوارع ثكلى ومحكوم يَدين حاكمه

وثورةُ الحقوق تستقوي وتبقى صارمهْ

وكلُّ يوم صورةٌ من النزيف صادمهْ

تعثَّر العلمُ وسارَ في دروبٍ غائمهْ

وعن مرحلة كورونا (لم يمض وقت طويل على اسقرار ما بعد (15/ 2). فما هي الا أيام تسعة حتى أعلنت وزارة الصحة في 24/ شباط تسجل حالة مؤكدة واحدة لكورونا (19-COVID) في العراق. ويوم (3/ آذار) سجلت خمس حالات جديدة مؤكدة، إثنان منها في واسط.. قطرات ثم انهمرت أمطار كورونا السوداء.

ولكن على العكس من الانتفاضة، كان متسع للعمل الكثير المبدع للدكتور حسام وللجامعة في زمن كورونا! فهي فرصة للجهد الطبي الواسع أتيحت لرئيس جامعة طبيب، فكان بطلا ملهما بحق، قال يصف هذه المرحلة: (فترة استثنائية.. جربنا فيها واستحدثنا الكثير من الامور) مثلما كانت الحرب العالمية الثانية فرصة ل(فلمنج = Fleming) ونجاح علاجه (البنسلين).

يمكن توزيع جهود الدكتور حسام الزويني في معالجة هذه المرحلة على أربعة محاور، وكان قد رسم خارطة طريق أو (خطة البداية):

وذكر اهم عمال كل رئيس للجامعة (فالدكتور جعفر المياحي أهم أعماله (بناء سور الجامعة). وهو أول مشروع معماري في الجامعة. والدكتور جبار ياسر أحد رؤساء الجامعة الثلاثة (مستحدثي الكليات): استحدث ثلاث كليات، والدكتور جواد أربعا، والدكتور تقي أربعا. ولم يستحدث عداهم سوى الدكتور جعفر كلية واحدة، وشطرت كلية التربية الى كليتين زمن الدكتور هادي دويج، وثلاث كليات موجودة اصلا. والدكتور جواد مطر الموسوي (أكثر رؤساء الجامعة اعمالا؛ لأنه أطولهم مدة، وأفضلهم موازنات مالية. وحسب تقارير ديوان الرقابة المالية وصلت نسبة تنفيذ تخصيصات مشاريع الموازنة الاستثمارية عام 2010 الى 90%، وهي أعلى نسبة تحققت في الجامعة، وكانت: 19% عام 2007، 36% عام 2008، 67% عام 2009. وانخفضت الى 64% عام 2011، 45% عام 2014. وبلغت نسبة التمويل عام 2016 (0%) مما ادى الى توقف المشاريع بالكامل. والى الان الموازنة الاستثمارية متوقفة، فقط استكملت المشاريع التي تزيد نسبة انجازها على 90% من حساب صندوق التعليم العالي.

وكان الاسلوب الادبي الراقي سمة للكتاب وقالب للمعلومات سما بها، وما كانت الادبية معرقلة في الرسم الدقيق للشخصية والمعلوماتية. (كان الرئيس الدكتور عبد الرزاق النصيري لا يخفي جانبه الانساني وهو يقدّم بحرص جانبه الاداري. وهذه أعلى مستويات الادارة المقتدرة؛ فالذين يضعفون عن المنصب والمسؤولية يرتبكون ويختفي جانبهم الانساني ضعفاً، فيقال غيّرهم المنصب!! أما هو فاقتداراً وتمكناً ونجاحا استطاع أن يمارس جانبه الانساني مع ادارته المقتدرة بوضوح وراحة، يرى الكل ذلك منه ويدركه. مثلما تشاهد اريحية الابطال بعد اغماد السيوف وكما وصف المتنبي سيف الدولة:

تَمُرُّ بِكَ الأَبطالُ كَلمى هَزيمَةً   وَوَجهُكَ وَضّاحٌ وَثَغرُكَ باسِمُ

عنده كارزمة محبة واحترام، تقرأ في ملامحه التي وخطها المشيب والكبر ثقة مطلقة، ورباطة جأش وثباتا مهما كانت الامور والطوارئ، وحرصا وانتباها، وهما من ضرورات ومتطلبات القيادة الناجحة التي هي ليس وصولا فاستراحة عميقة على الكرسي، بل هي تفكير وتوقع ووضع حلول احيانا قبل المشكلة وعمل دائب ومستمر، كما وصف أرنست همنگواي الحمامة (تسير وهي متأهبة للطيران في أي لحظة).

وكتب عن رئاسة الدكتور مازن الحسني (ودخلت الجامعة .. مجرة لا حد لها ولا حدود من عدم الحياة والحركة.. صامتة، كأنها ولدت خرساء. واقفة، كأنها ميتة تماماً.. تجولتُ في أنحائها وأحنائها، جنباتها وجوانبها، فكنتُ كأني أجرر رجلاً ثقيلة في مقبرة تكظ القلب والنفس قلقاً وذهولاً:

هربتُ في كل الجهات

فلم أجد سوى حجرْ

المكان لا يبعث على الهمة والرغبة.. برغم البنايات العامرة والحدائق الخضراء. وبدت، وهي خاوية على عروشها، سارحة من الذهول يسكنها الحزن لفقدها ألافها: الطلاب والاساتذة والموظفين.

وكانت كورونا تتناسل وتقذف باجيالها وتطور جيناتها باستمرار، والدوام مرهون بخلية الازمة، والازمة ضبابية أو عاصفية لا يتكهن أحد بقعر نهايتها وعمق سوداويتها، وكانت الجامعة بين غلق وحظر. وطلاب الدراسات العليا بين الالكتروني والحضوري، وثبت طلاب الدراسة الاولية على الالكتروني، فنابت الذبذبات عن الاصوات. وأضاف بعدا رابعا الانقطعات المستمرة للكهرباء والنت، وقدم اجهزة الطباعة والاستنساخ وغيرها، وشبه توقف لجان المشتريات، وشحة المواد الضروريات، وضعف اللوجستيات. وهو انعكاس حالة البلد وليس المؤسسة فقط.

تلك كانت الاجواء التي يدير فيها الدكتور مازن الحسني الجامعة، فيمارس وجوده القيادي ووجود الجامعة العلمي والاداري، وتسير الامور كما خطط ورسم بخطى قوية، ولا تجد شيئا من الفتور أو اليأس، فبه تشد الهمم و(اليه يفيء الغالي، وبه يلحق التالي).

كذا بدت الجامعة... ولكن حين دخلتُ الرئاسة هبَّ المكان بهمّة كنائم يصحو... ودبت الحركة قوية خضراء كواحة غناء.. أول من قابلت الرئيس الدكتور مازن حسن جاسم... كانت ابتسامته أملا ووعدا نهائياً بالانتصار الثابت على الظرف الطارئ..

فارع العزم، ضخم الهمة، يجد دائما متسعاً للعمل، ومجالا للفعل. عابراً صحارى التيه، وبحار الخوف، والأزمنة الميتة الى بدايات جديدة، تصل النهايات العدمية بخطوات الاستمرار والوصول الواثقة. يمتلك مؤهلات خاصة لا يمتلكها آخرون، تجعله مكين الانتصار، مؤكد النجاح.

كالصبار في صحرائه؛ أكثر حياة من موتها، وماء من جدبها، واخضرارا من صفرتها... هو في ظرف الجامعة الصعب وجهادها السلمي. انه بالفعل (رجل المرحلة) لبس الدِرع فوق الدُرَّاعة، واستعان للقلم بقائم السيف. كما قال بيهس:

إلبسْ لكلِّ حالة لبوسَها إما نعيمَها وأما بُوسَها

 

أ‌. د. محمد تقي جون

 

 

في المثقف اليوم