قراءة في كتاب

خير الله سعيد: المناضل الصغير.. حكايات وعشق نضالي ما تزال منقوشة بالذاكرة

ليس هناك أصدق من حالات الانفعال الطفولي، حيث أن تداعياتها تبقى حاضرة مهما اختلفت ظروف الإنسان في العمر والمكان، وهي كما قال الشاعر طرفة بن العبد: تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد. من ذكريات الطفولة هذه، يفاجئُنا الأستاذ محمد حسين النجفي بكتابه الممتع (المناضل الصغير) الصادر حديثا في بغداد، عن دار أهوار للنشر والتوزيع سنة 2023. والكتاب كما يقول المؤلف، من أدب السيرة التي تُحدّد ذكرياتها الأيام، عندما كان المناضل الصغير يضع أولى خطواته في مسارات السياسة المتعكّرة تاريخياً في أرض العراق.

في إهدائه، يتُلُّك الكاتب بشيء من قوة الإيمان النضالي، بعد دهر من زمن، تولى لأكثر من ستة عقود، يقول: (إلى من له رأي في الحياة، وضحى في سبيل ما يؤمن به، إلى المناضل المجهول الذي عُذّب وصرخ، ولم ينحني، إلى من استشهد في سبيل قضيته، ولا نعرف له اسم أو صورة أو قصة نتحدث بها للأجيال)، هذا في ص:6. ومن بين سطور هذا الإهداء، يبرز أكثر من سؤال وأكثر من إشكالية. إشكالية سياسية أو اجتماعية، وحالات من الغبن والإخفاء القسري، لمجموعات كبيرة استشهدت في سبيل قضية وطن تلاعب به الأوغاد.

من الطفولة وللطفولة القادمة، ولأجيال ما عرفت عمق محبة العراق بعد، يقول المؤلف: أشكر وطني الغالي العراق، الذي وُلدت وترعرعت فيه، والذي أكـنّ له خالص ودي ومحبتي التي لم تتزعزع). ص:7. وهذا الود والشكر ينسحب بدوره على الأهل والأبناء والأصدقاء والطفولة وأبناء الحارة، بل وحتى على أسماء الأزقة والشوارع والحارات، بغية أن تكون هذه المذكرات جزءا من كتابة التاريخ الذي عادة ما تكتبه السلطات الحاكمة بحقائق ومعلومات مزورة وملفقة، منذ ستينات القرن الماضي وحتى سقوط صنم العوجة عام 2003. كون الجيل الناشئ في أعوام الستينات وما تلاها، لم يكن يعرف سوى الحقائق المزورة التي كانت تقدمها السلطات الغاشمة بوسائل إعلامية مخادعة. ص:7.

حتوتات الزمن الجميل كما يراها الكاتب، هي ذكريات حلوة تخللتها ظروف قاهرة، مُرة وصعبة. عاشها جيلنا الذي أسميناه جيل تموز 1958، بوصفه يشكل مرحلة مفصلية من تاريخ العراق المعاصر، بإيجابياته وسلبياته. ص:11. وهذه الذكريات الراسخة في عقل الكاتب، تتبعه لتدوينها، كونها ذات محمول سياسي، واختبارات اجتماعية، تجد لها صـدى واسعا في مخيلة الكاتب، بوصفها جزءاً من تاريخ جيلي، ومكوّن من مكونات الشارع العراقي، صفحة: 11. والنضال الطفولي، بحتوتاته الصغيرة تلك، يرى الكاتب بضرورة تدوينها ونشرها في كافة وسائل النشر الحديثة. بغية أن يطلع عليها الشباب داخل الوطن الأم، على اعتبار أن الكاتب وهو يعيش بعيدا عن وطنه، ومُستقرٌ حالياً في الولايات المتحدة، يرى من خلال محادثاته مع العديد من شباب الجيل الجديد، أن هناك نقـصاً كبيرا في الذاكرة العراقية، لاسيما سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. بالرغم من أن بعض الكتّـاب بدأ يكتب عن تلك المرحلة، من أمثال: مذكرات نصير الجادرجي، وذكريات عراقية للدكتور فاروق برتو، وأيام لا تنسى لهمّام عبد الغني المراني. وأسرار ثورة 14 تموز لإسماعيل العارف، وعقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي لعزيز سباهي، وطوارق الظلام لتوفيق الناشي وابتسام الرومي وغيرهم الكثير، ص:12.

ويرى الكاتب محمد حسين النجفي، أن مذكراته تختلف قليلا عن الأخرين، كونها ليست سـرداً زمنياً لحياته وما جال فيها، وإنما أحداث مختارة ومنتقاة، لقيمتها الحضارية والاجتماعية والسياسية بوصفها ذكريات ومذكرات شاهد عيان على الأحداث. كونه مشاركا فيها، وعلى تماس مباشر في الشارع والمحلة والمدرسة، ص:12. كما إن هذه الذكريات تخص أناساً آخرين توجب ذكر أسمائهم بغية، اكتمال الصورة لدى القارئ، وتثبيت مصداقياتها، وهي تمثل كما يرى الكاتب، عينات عشوائية بمئات وآلاف مما مر به الشباب، من جيله في فترات الصمت القاتل والطويل، الذي لا يستطيع حتى الأصدقاء التحدث عنه فيما بينهم. شباب اقتلعوا من فوق الأرض ليختفوا في المجهول المعلوم، وفي دهاليز سلاطين القهر والظلام. ص:13.

والهدف المرتجى من هذا الكتاب، كما يقول المؤلف، هو للتذكير بجرائم مهولة حدثت ضد الإنسانية في العراق، وفي كل العهود بدون استثناء، وللتذكير  بالتضحيات الجسام التي قدمتها الأجيال والتي لا يدركها جيل ما بعد الألف الثانية، ثم يضيف الكاتب: أنحني بخشوع وإجلال للشباب والشابات الذين انفرد بهم الجلادون في الليالي المظلمة، والغرف الآسنة، والقسوة السادية، شباب معظمهم جنود مجهولون، لم يسمع عنهم أحد، لا يعرف بهم أحد، لم يكتب عنهم أحد، لم ينشر صورهم أحد، أكتب هذا الكتاب كي أحث الآخرين على البحث والتدقيق عن جرائم البعث، عن تلك الفترة التي يعتقد الكثيرون أنها كانت العصر الذهبي. ص:13.

تداعيات الأحداث تسحب الكاتب إلى بدايات طفولته التي عاشها في النجف، تلك المدينة التي ولد فيها هو، ومن قبله، كان أبوه، في محلة العمارة داخل سور النجف القديم، وعندما كان والد المؤلف في الصف الثالث الابتدائي، أخرجه والده من المدرسة بناء على نصيحة أحد رجال الدين المعمّمين. ص:15، ليمارس، في متجر صغير مجاور لمقهى الحاج حسين القهواتي في وسط السوق الكبير بالنجف الأشرف.

في مدخل أنثروبولوجي، يقودنا الكاتب إلى شكل التفكير العائلي بحمولاته الميثولوجيا، حيث كان الناس في حارتهم يطلقون أسماء لأبنائهم وفق حالة المخاض العسيرة أو الميسرة، وأطلقوا عليه عند الولادة المعسرة اسم (ناجح). وحين دخل المدرسة غُيّر الاسم إلى محمد حسين نظرا لولادته في أيام مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. ووقتذاك كانت هناك نسبة وفيات عالية بين الأطفال، وهناك خوف شديد (من العين الشريرة والحسد)، ولذلك ثقبوا إذن الكاتب، وألبسوه التراﭼـي أو الحلق، كي يظن الغرباء بأنه بنت، وليس ولدا. بغية تلافي عيون الحاسدين، لأن الناس آنذاك كانت لا تحسد الأمهات اللاتي تنجب الإناث ص: 16.

حتّمت الظروف على والد الكاتب بأن ينتقل إلى بغداد بشكل نهائي عام 1949، واستقرت العائلة في حي الدهانة في بغداد الرصافة، خلف جامع الخلفاء، حيث كان المكان هو الأقرب إلى سوق الشورجة، ذلك السوق التجاري المركزي لمدينة بغداد. وهنا في هذا المكان بدأت رحلة الكاتب تتطبع بالحياة البغدادية، فتعرّف على الصديق أو صديق العمر كما يسميه حكمت وعائلة الطحان. ومنهم صديق الطفولة رياض ص:17.

المظاهر الفولكلورية البغدادية تنعكس بشكل ملحوظ على العادات والتقاليد. فقد تم ختان ثلاثة من أفراد العائلة، هم الخال محسن، والخال كريم، وأخوة الكاتب عصام ورعد على يد مطهرجي الذي كان من الطائفة اليهودية. ص:18. بغداد تسحب الفتى النجفي إلى حياضاتها الشعبية وتفرض عليه أن يكتشف بعض مظاهرها الفولكلورية وعاداتها وتقاليدها، حسب كل منطقة من مناطق بغداد المتعددة، فمن حي الدهانة بشارع الجمهورية إلى منطقة كرادة داخل حيث هناك. النادي الرياضي الذي تمارس به لعبة الزور خانة والذي كان الحاج عباس الديك بطل العراق في لعبة المصارعة، كان يمارس لعبته المفضلة في الزور خانة. وبالكرادة الشرقية، تعرّف الفتى النجفي على مجموعة من الفتيان المجايلين له بالسن والمرحلة. والكرادة الشرقية تعد واحدة من بين أهم ضواحي العاصمة بغداد في جانبها الشرقي، فهي شبه جزيرة يلتف حولها نهر دجلة من ثلاث جهات، ويتوسطها كورنيش شارع أبي نواس والمقاهي الجميلة، وعلى الجرف للشط، هناك مصائد السماكين ومحلاتهم التي يعملون فيها السمك المسكَوف. ناهيك عن جمال الكرادة داخل ونظافة الكرادة خارج وحداثة. عرصات الهندية، وأناقة هدوء منطقة المسبح. ص:19.

سحر الكرادة الشرقية يجلب انتباه الكاتب لمجمل النشاطات الثقافية والسياسية، حيث يسكن ويعيش في هذه الناحية العديد من المثقفين والسياسيين البارزين من أمثال. عبد الوهاب مرجان الوزير ورئيس الوزراء في العهد الملكي، والدكتور إبراهيم كبة وزير الاقتصاد في حكومة عبد الكريم قاسم وبالكرادة أيضا سكن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، ومؤرخ الوزارات العراقية الكاتب المعروف السيد عبد الرزاق الحسني، وأستاذ القانون الدولي الدكتور محمد علي الدقاق، الجراح المشهور الدكتور عبد المجيد حسين مؤسس مستشفى عبد المجيد حسين. وهناك أيضا مجموعة من تجار بغداد المعروفين: عبد الرسول علي، ورضا علي، وجابر مهدي، وبيت الخضيري وغيرهم. ويوجد في الكرادة أيضا العديد من المستشفيات مثل مستشفى الراهبات في منطقة رخيته، ومستشفى الإمام في منطقة أبو اقلام، ومستشفى عبد المجيد الحسين في منطقة البو شجاع. ص:20.

في الكرادة، تتفتح ذهنية الصبي النجفي، حيث في مطلع ستينات القرن الماضي، يبدأ برصد التحولات السياسية في العراق، وكيف تحولت الصراعات السياسية بين مختلف القوى إلى صراعات دموية، حتى تكللت بانقلاب شباط الأسود عام 1963، التي شكلت بدايات التدخل الإقليمي الأجنبي في شؤون العراق، حيث تكالبت جميع الأطراف على الإجهاز على ثورة 14 تموز1958.  ص:21. لا سيما بعد أن شرعت ثورة تموز بقانون الإصلاح الزراعي. وقانون الأحوال الشخصية. وهذه الأمور خلقت آراءً وأفكارا مع الثورة وضدها. انقسم الشارع العراقي بين مؤيد للزعيم وبين مـعادٍ له، وقد كانت الأغلبية من الشعب مع الثورة وزعيمها عبد الكريم قاسم فيما كانت الأقلية المعادية بقيادة البعث والناصريين وبعض رجالات الإقطاعيين والإسناد الخارجي من بعض الدول، حتى انشق الرجل الثاني في الثورة هو العقيد عبد السلام محمد عارف، ثم تلاه حركة رشيد عالي الكيلاني وأحداث كركوك وحركة الشواف في الموصل، وغيرها من الأحداث الجسيمة. ص:22.

ثمّـة حوادث سياسية يشترك فيها المناضل الصغير، بحكم تواجده الجغرافي المكاني في الكرادة الشرقية. ويبقى يتابع ما يجري على الساحة العراقية بعد هذه الانقسامات السياسية. في الشارع العراقي، وقد لعبت محكمة المهداوي دورا بارزا في مسألة تأجيج حالة الصراع، كونها أي المحكمة، تنقل على الهواء مباشرة على شاشات التلفزيون الفضية وقتذاك، ومحكمة المهداوي صارت حالة سياسية اجتماعية تعبر عن حالة الصراع السياسي المحتدم من جهة، ومن جهة أخرى تظهر مدى تأثر الوسط الاجتماعي بهذه المحاكمات للخارجين على الثورة. ولذلك، أصبح التجمهر في البيوت والمقاهي الشعبية ظاهرة ملحوظة، حتى أن والد الفتى النجفي يشتري تلفزيونا كي يشاهد محاكمات المهداوي في محكمة الشعب للخونة والمتآمرين على ثورة 14 تموز وزعيمها، وقد شملت هذه المحاكمات رجالات العهد الملكي البائد من أمثال بهجة العطية وسعيد قزاز، ثم محاكمة عبد السلام عارف والمحاكمة الشهيرة لناظم الطبقجلي والمشتركين بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم بشارع الرشيد منطقة المربعة. ص:22.

بدأت انعكاسات الصراع السياسي في العراق تجلب انتباه المناضل الصغير أكثر من اللازم، حيث أصبحت جزءاً من همومه اليومية، فراح يرصد بشدة حالة الصراع السياسي المحتدم. بين جماعة الشيوعيين والزعيم عبد الكريم قاسم من جهة، وجماعة البعثيين والقوميين من جهة أخرى. وقد تحول هذا الصراع إلى مصادمات دموية في الشارع العراقي، وظهر ذلك في حركة الشواف في الموصل، وأحداث في كركوك في 14 تموز 1959، حيث اشتبك الأكراد مع التركمان، وأريقت الدماء في شوارع كركوك، وقد استغلت قوى الثورة المضادة هذه الأحداث وألبسوها برقبة الشيوعيين كما يقول المناضل الصغير في صفحة: 23.

وأثرت هذه الأحداث على رؤية الزعيم عبد الكريم قاسم، وأعلن في خطاب له عند افتتاح كنيسة مار يوسف بتاريخ 17 تموز1959 بالكرادة الشرقية. وقد تضمن هذا الخطاب غضبا واضحا من الزعيم على الشيوعيين والأكراد، وسماهم (الفوضويون). وقد رافق هذا الخطاب توجّه من قبل أجهزة الأمن العراقية، وقامت بحملة من الاعتقالات الواسعة في الموصل وكركوك وبغداد. واعتقلت القيادات العمالية والفلاحية والناشطين السياسيين الآخرين. ص:23. وتراكم هذه الأحداث جعلت الشارع العراقي أن ينقسم على نفسه بثلاث اتجاهات، الأول، الزعيم والقاسميون والمؤيدون له، وهم الجمهرة الغفيرة من الناس الفقراء، والقسم الثاني هم الشيوعيون الذين أبعدهم عبد الكريم قاسم عن دائرته المقربة، وأبعدهم عن المناصب الحساسة في الجيش والقوات المسلحة، لكنهم بقوا على الولاء للثورة والدفاع عن مكاسبها. أما القسم الثالث فهم البعثيون والقوميون الذين أخذوا بتقوية قواهم، تسندهم جمهورية مصر الناصرية، إضافة إلى الجماعات المتضررة من قوانين الثورة، وهم جماعة العهد الملكي والإقطاعيون والأغوات الأكراد الذين تضرروا من قانون الإصلاح الزراعي، ورجال الدين الذين سحب قانون الأحوال الشخصية البساط من تحت أقدامهم، لا سيما الفتوى للسيد محسن الحكيم المرجع الأعلى للشيعة في العراق، والتي بموجبها أفتى من (أن الشيوعية كفر وإلحاد). ص:23.

مجمل هذه الأحداث والصور تلهب مخيلة المناضل الصغير، وهو يعيش طفولته في شارع الهندي في منطقة الكرادة الشرقية، فقد عاش في هذا المكان سني عمره الجميلة من عام 1954 إلى عام 1961. حيث بدأت توجهاته السياسية ترسم ملامحها على مسارات حياته القادمة، وتسرّع من نضوجه السياسي، حيث بدأت صداقاته الاجتماعية تفرزن من الأصدقاء في المحلة والزقاق في منطقة الكرادة الشرقية ص:24.

رغم النضوج المبكر للمناضل الصغير، إلا أن رواسب الطفولة وما يتعلق بها تبقى حاضرة في الذهن، ففي حالة التأمل تظهر إسقاطات تلك الطفولة، حيث تظهر الألعاب الشعبية التي يمارسها الأطفال بالساحات والشوارع، حيث في الصف يبدأ موسم الطيارات الورقية الملونة من فوق السطوح، وكيفية جعل خيط الطيارة الورقية حادا كالسكين من خلال طحن البامية اليابسة وتمريرها على الخيط، ثم ينشر الخيط حتى يجف. وإذا ما تقاطع ما خيط آخر قطعه، وجعل طيارة الخصوم تسقط على الأرض. ص:25.

وفي الصيف أيضا، كان الأولاد يلعبون مفرقعات البوتاز أيام المحيا. وهناك لعبة الدعبل ولعبة المرصع، والكعاب والسنطرة توتو، ولعبة البوزة، وخض بطل السيفون، والكوكاكولا، فيما كانت لعبة كرة القدم يمارسها الأحداث والمراهقين، والتفرج على المنتخبات العراقية كآليات الشرطة والقوة الجوية، ومنتخب الزوراء، وهذه الفرق الرياضية كان الناس يشاهدونها من على ساحة الشرطة قرب القصر الأبيض، وساحة الكشافة في الأعظمية، وترتسم بخيالات المناضل الصغير شخصية الكابتن جمولي أو جميل عباس، وعمو بابا وشدراك يوسف ويورا وقاسم زوية وحامي الهدف لطيف شندل وحامد فوزي والمعلق الرياضي المعروف مؤيد البدري. صفحة:15.

يمر شريط الذكريات على أحداث ثورة 14 تموز 1958، والذي صادف يوم الإثنين، وكيف كان العقيد عبد السلام عارف يقرأ البيان الأول للثورة. وقد يتذكر المناضل الصغير يوم الثورة بوصفه يوما أثّر في حياته بشكل عميق، وربطه نفسيا بالثورة ورجالها وأحداثها، وكيف أصبح الجيش العراقي محبوبا من قبل الجميع، وكيف بدأت الثورة تشرّع القوانين الثورية لتغيير حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، لعموم العراقيين، لا سيما القوانين. قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، والأرض لمن يزرعها، وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959. وعقد الاتفاقات الاقتصادية والسياسية مع الاتحاد السوفيتي وغيرها من الإنجازات.

تلك الإجراءات التي أغضبت قوة الثورة المضادة، فكادوا للثورة، وقضوا على رجالاتها وزعيمها المقدام في 8 شباط الأسود 1963، حيث أعدم الزعيم وقتل المئات من أحرار الشعب العراقي. وسجن الآلاف، وعذبوا في مقار الحرس اللا قومي، تلك الميليشيات الخارجة عن إطار الدولة والتابعة لحزب البعث الفاشي، وأودع الآلاف من الأبرياء في غياهب السجون، داخل أقبية الأمن العامة السيئة الصيت، وبذلك دخل العراق في حمامات من الدم، والتي ما زالت تسيل دون حساب حتى يومنا هذا، كما يقول المؤلف في صفحة:31.

المناضل الصغير بين التسمية والواقع

لم يكن صاحبنا محمد حسين النجفي. أن يلقب بصباه بهذا اللقب اعتباطا، بل جاءت هذه التسمية نتيجة مماحكات طفولية مع أصدقائه في سكنه، وهم في شارع الهندي، حيث كانت صداقات الطفولة في ذلك الحي بدأت تتأثر بالنزاعات السياسية في عموم البلد، لذلك كانت سياقات هؤلاء الأطفال الذين لم يتجاوزوا بعد سن الثامنة عشر من العمر، لاسيما حين ظهر الخلاف بين عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم، حيث انحاز النجفي هو وصديقه حكمت الدقاق إلى الاتجاه الوطني التقدمي المؤيد لعبد الكريم قاسم. بينما كان صديقهم الثالث قحطان السامرائي ذا ميول قومية ومتأثر بالرئيس جمال عبد الناصر، لذلك انحاز إلى حزب البعث عن طريق الاخوة سمير وسعيد الطحان. صفحة: 34.

هذا الفرز السياسي بين أصدقاء الطفولة خـطّ له مسارا سياسيا مستقلا، ذا بوصلة وطنية دفعت المناضل الصغير لأن يتجه لدعم اعتصام لعمال السجائر عام 1959، لتلبية مطالبهم العمالية، ثم تلاه إضراب السواقين نتيجة رفع سعر البنزين خمسة فلوس. هذه الاحتكاكات العمالية مع السلطة، جعلت من الفتى النجفي لأن يفتح عقله ووجدانه إلى الصراعات السياسية الكبرى. حيث كان الشارع العراقي تتحكم به آنذاك القوى الشيوعية من جهة، والبعثيين والقوميين من جهة أخرى، لذلك حاولت قوى اليسار مساندة إضراب السواقين وبقية العمال والنقابيين مثل نقابة السكك الحديدية ونقابة النفط، واتحاد الجمعيات الفلاحية، حيث تمت السيطرة عليها عن طريق شراء الذمم لبعض القيادات وتزوير الانتخابات، لتنصيب قيادات موالية للزعيم عبد الكريم قاسم، بعد زج معظم قادة نقابات اليساريين أمثال علي شكر وصادق جعـفر الفلاحي وكليبان وغيرهم، حيث وضعوا بالسجون والمعتقلات. فيما لم يستطع الزعيم السيطرة على بعض النقابات مثل نقابة المعلمين ونقابة المحامين، حيث كانتا تحت سيطرة القوميين والبعثيين. ص:35

ثم تطورت الأحداث السياسية في البلد، حيث كان البعثيون والقوميون يعدون العدة للانقضاض على السلطة السياسية، وتم لهم ذلك في 8 شباط 1963م. كـانت الأحداث السابقة لانقلاب شباط الأسود عام 1963، تحفز الفتى النجفي لأن يصبح مشاركا بالأحداث السياسية والنقابية، فقد جلب انتباهه عندما كان طالبا في المتوسطة الشرقية، مجموعة من الطلبة كان لهم مكانة خاصة في تلك الظروف، أولهم الطالب مناضل بن فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب، والثاني باسل لطفي طاهر بن أخ العقيد وصفي طاهر، المرافق الأقدم للزعيم عبد الكريم قاسم، ثم هناك الطالب الثالث، مخلص عبد الجليل، الأخ الأصغر لغانم عبد الجليل، عضو القيادة القطرية لحزب البعث والذي أعدمه صدام حسين فيما بعد، إضافة إلى مجموعة من الأساتذة والمدرسين الذين لعبوا دورا في صقل نفوس الطلبة وشخصياتهم/ صفحة: 38- 39.

بدأت تحركات المناضل الصغير، وهي التسمية التي أطلقها عليه الشهيد فاضل عباس المهداوي. إثر زيارته لبيتهم بصحبة ابنه مناضل، عندما قام هو ومجموعة من الطلاب بتوزيع المنشورات السياسية المعادية والمناهضة للتجارب النووية والتوجه للسفارة الأمريكية لتسليم السفير عريضة احتجاج، حيث فوجئوا بمجموعة كبيرة من رجال الأمن العراقي وراء بوابة السفارة تعتدي عليهم بالضرب، ثم تعتقلهم بالسيارات الكبيرة وتنقلهم إلى دائرة الأمن العامة في جانب الكرخ. ص: 42.

ومن هذا التوقيف الأول تبدأ التوقيفات الأخرى السياسية بمركز شرطة المنصور، والموقف العام أو القلعة السادسة، وهو ما يزال في عمر المراهقة (14 سنة) حيث يلتقي هناك في القلعة الخامسة والسادسة بمجموعة من الشيوعيين واليساريين والأكراد، منهم نقيب المحامين حمزة السلمان وصادق جعفر الفلاحي والموسيقار أحمد الخليل وغيرهم الكثير من المناضلين الوطنيين واليساريين. صفحة:45- 46.

مبدئية الموقف، تجذّر روح التحدي في المناضل الصغير. كانت الأحداث التي أوصلت هذا الفتى إلى باحات السجن، كلها أحداث وطنية (ترفع الرأس) كما يقال، فلماذا يزج به في غياهب هذه السجون؟ بدأت هذه الأسئلة تربك عقل وتفكير هذا الفتى المراهق، لا سيما بعد أن توسط والده لدى السيد محسن الرفيعي ابن مدينته النجف، وكان رئيساً للاستخبارات العسكرية، كي يطلق سراحه، وكان جواب هذا الشخص للوالد، والله لو كان ابنك بعثي أو قومي، أو قواد أو قاتل قتله، لأطلقت سراحه في الحال، ولكن شيوعي هاي لا تحكيها أبدا صفحة: 46.

حدث هذا في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وقد طلب مدير الاستخبارات هذا من الأب أن يقنع ابنه المناضل الصغير أن يغير إفادته وأن ينكر ذهابه للاحتجاج على التجارب النووية الأمريكية. ثم يفكر بمساعدة الوالد حول إخراجه من الموقف.

وبعد عشرة أيام في الموقف العام، استدعيّ المناضل الصغير لإعادة التحقيق معه، وجرى استدعائه بشكل فردي لمكتب التحقيق العرفي الثاني. ومن الموقف العام تم ترحيل الفتى. مشياً على الأقدام إلى وزارة الدفاع. يقول المناضل الصغير: أخذني الشرطي المرافق إلى أحد المكاتب ودخلتها، وهناك كانت مجموعة من ضباط الجيش برتب عالية، وفي منتهى الأناقة والأدب، سألوني: لماذا ذهبت إلى السفارة الأمريكية؟ قلت للاحتجاج على التجارب النووية. قال أحدهم إن أباك يريد مساعدتك كي يخلى سبيلك، وهذا يتطلب أن تغير إفادتك. قلت: لا أريد أن أغير إفادتي. قالوا: لماذا؟ قلت له أني لا أريد أن أكذب. حيث إن الإيمان العميق بما كنا نقوم به هو الحق، ويستحق التضحية، دفعني للإصرار على عدم تغيير إفادتي، صفحة: 47. هذا الموقف من لدن هذا الفتى السياسي الصغير، زرع الإيمان والقوة داخل نفسه، وأعطاه الثقة بما أقدم عليه، رغم أنه شعر برهبة التحقيق واختلافه عن سابقاته. ورغم صغر سنه 15، بدأ يشعر بقوة الذات، ومحاكمة الأمور بمنظار آخر دفعه للتساؤل: دعك من رجال الأمن والشرطة والاعتقالات الاعتباطية وغير القانونية، ولكن كيف ارتضى ضباط حقوقيون برتب عالية لأنفسهم أن يرجعوني إلى الموقف، بعد أن علموا أنني لم أقم بأي عمل ضد الدولة؟ وبعد أن رؤوني وميّزوا عمري من أنني دون السن القانونية للاعتقال؟ صفحة: 47.

تبدأ صلابة الإنسان السياسي من المواقف الصغيرة، ثم تبدأ تتعاظم مع المواقف الكبيرة، ورغم سطوة العاطفة الأبوية التي كانت تظهر عند موعد الزيارات الأسبوعية في السجن، إلا أن الشعور بالانتصار على الذات والعاطفة الأبوية، يخلق من الإنسان روحـاً متعالية للتحدي، فبالرغم من أن المناضل الصغير كان أصغر الموقوفين سنّـاً، إلا أنه كان يشعر بسوية الموقوفين معه، من أمثال النقابي الكبير صادق جعفر الفلاحي وغيره من   المناضلين. وبعد 40 يومـاً أفرج عن المناضل الصغير بكفالة. لقد خلقت تجربة السجن عند هذا الفتى النجفي حالة من الشعور الوطني العالي، والافتخار بهذا الموقف عند الأهل والجيران، بل وحتى تجار الشورجة وحمّاليها، يقول: استقبلوني بالابتهاج والفخر. وحتى أبي كان يتباهى بشجاعة ابنه المناضل الصغير، لذلك، جعلت هذه التجربة المناضل الصغير يشعر أن ما يقوم به من عمل مهم له، ولهُ مردود إيجابي لدى عامة الناس. ص:49.

بعد فترة وجيزة من ذلك الحدث، توالت الثورة التموزية بالتراجع، وراجت قوى الثورة المضادة تنسج خيوط التآمر، واستطاعت أن تسقط حكومة عبد الكريم قاسم في أحداث 8 شباط 1963م. وبدأت الملامح الفاشية تظهر في سلوك البعث في بداية انقلابهم، وبدأت تظهر مجموعاتهم الفاشية هنا وهناك عند منطقة الكرادة الشرقية، وراح المناضل صغير يختبئ من الأعين ويترك سكنه في الكرادة هربا من الملاحقة، لاسيما بعد حركة الشهيد حسن سريع في معسكر الرشيد في 3 تموز 1963 حيث صدر أمراً باعتقال المناضل الصغير،  مما أضطره  للمبيت عند أخواله في مدينة الكاظمية ببغداد منطقة النواب، لكنه لم ينقطع عن عمله مع أبيه في سوق الشورجة إلا بعد أن صدر أمرا باعتقاله وتعميم ذلك في الصحف العراقية حتى توسط أبيه مع صديق له اسمه أبو سعد عبد الوهاب العلي أن يصحبه إلى مديرية الأمن العامة ويقول لهم : إني لست هاربا وأنا بانتظار المحكمة، حتى أطلق  سراحه بكفالة مرة ثانية.  ص:51.

تتوالى الأحداث، وبعد ثلاث حكومات متوالية هي، حكومة قاسم وحكومة البعث الفاشي، وحكومة عبد السلام عارف، إلاّ أن قضية النضال أو التظاهر ضد التجارب النووية ظلت ثابتة في كل الحكومات الثلاث، وقد حكم على المناضل الصغير بـأحد عشر شهراً. وتكبر الأسئلة في عقل هذا الفتى الصغير، وتصبح الأمور السياسية واحدة من اهتماماته الوجودية، ص: 54.

ثمّـة أمر هام يوليه الكاتب أهمية واضحة في مذكراته، ألا وهو: وجود الصور التوثيقية. لنشاطه. ضمن المجموعات الطلابية لاتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية، والذي كان هو أحد أعضائه النشطين. ص:55-61. وقد استطاع المؤلف أن يستعرض نشاطات هذا الاتحاد العام لطلبة الجمهورية العراقية، ونضاله ضد البعثيين، لاسيما اتحادهم البغيض الاتحاد الوطني لطلبة العراق، والتصادم المستمر معهم: راجع صفحة: 61-78، شباط الأسود، الجرح الذي لا يندمل في الروح العراقية.

لم يكد مُناضلنا الصغير يتجاوز أيّ مرحلة تاريخية كان قد مر بها إلا وتعود به الذكريات المؤلمة إلى أحداث ردة شباط الأسود عام 1963، ذلك الجرح الذي لا يندمل في قلوب كل العراقيين، حينما قام البعث الفاشي في 14 رمضان المصادف ليوم الجمعة 8 شباط 1963، وهو يوم الردة في تاريخ الشعب العراقي، وثورته المغدورة. حيث استشهد في ذلك اليوم خيرة أبناء الشعب العراقي، واستشهـد قادة الثورة، كل من الزعيم عبد الكريم قاسم والزعيم الركن الطيار جلال الأوقاتي، والزعيم عبد الكريم الجدة والعقيد طه الشيخ أحمد والمقدم كنعان حداد، كذلك الذين كانوا مبعدين عن السلطة، إلاّ أن ّ اخلاصهم دفعهم للالتحاق والدفاع عن الثورة مثل العقيد فاضل عباس المهداوي، ووصفي طاهر، كما استشهد في ذلك اليوم، خيرت أبناء الشعب العراقي أثناء المقاومة ضد الانقلابيين في العديد من معسكرات الجيش وفي المحلات الشعبية الموالية للثورة والزعيم قاسم، وقد تصدرتها مدينة الكاظمية الباسلة ومحلة عقد الأكراد الفيلية ومنطقة الشاكرية، مدينة الفقراء، ومحلة الكريمات في الكرخ في حي المناضلين الأشاوس، أو من استشهد لاحقا، تحت وطأة التعذيب الوحشي في قصر النهاية، أو في مقار الحرس القومي في الأعظمية والكرادة والكاظمية وعموم مدن العراق، وفصل خيرة أبناء العراق الشرفاء. استمرت هذه الليلة السوداء لمدة تسعة أشهر مقيتة حتى انقلب عليهم عبد السلام عارف في يوم 18 تشرين الثاني 1963، وأنهى سلطتهم وبطشهم.  ص: 80- 79.

موجعة هذه الأيام السوداء في ذاكرة الكاتب محمد حسين النجفي، حتى لحظة كتابته لمذكراته هذه عام 2023. الأمر الذي يعكس مقدار الألم الدفين الذي تركته تلك الأيام في ذاكرته، بعد أكثر من 60 سنة مضت

إن مرارة تلك الأيام وتداعياتها قد أطبقت بكل سوداويتهـا على تفكير الكاتب محمد حسين النجفي، فلم يعد يتذكر سوى حالات الإجرام التي قام بها فاشيو البعث القتلة من أمثال ناظم كزار، ومنذر الونداوي، وعبد الكريم الشيخلي، ومحسن الشيخ راضي ومدحت إبراهيم جمعة، وهاشم قدوري، وطالب شبيب، ونجاة الصافي، وعلي صالح السعدي، وعمار علوش. وغيرهم الكثير. ص: 98.

فيما راحت ذكريات النضال، تعيد رسم ملامح الشهداء، سلام عادل ورفاقه، والخيانات التي وقعت بين صفوف المناضلين. لا سيما اعترافات عدنان جلميران وحمدي أيوب، واعترافات هادي هاشم الأعظمي، الذي كشفت 23 دارا حزبية من بينها الدار التي كان يختبئ بها الشهيد سلام عادل، الذي استشهد في يوم9 آذار 1963. هو وحسن عـوينة، ومحمد حسين أبو العيس. ص:98.

مع قساوة الأيام، تلك وندوبها التي ما زالت تحفر بالذاكرة، كانت هناك إلى جانبها بعض الأحداث التي تشحن وهج الذاكرة بشيء من عطر الذكريات، منها حركة الشهيد حسن سريع في 3 تموز 1963 والتي كان من المقرر أن يشترك بها ذلك المناضل الصغير، وحكاية قطار الموت وتداعياته، وسعيد متروك، بطل المقاومة في الكاظمية. ص:100.

ذكريات خارج السياق:

الباب الأخير من الكتاب، يورد المؤلف محمد حسين النجفي، بعض المقالات الصحفية، حملت عنوان (مقالات وآراء) يخرجُ فيها عن سياق كتابته، أو سياق كتابه المناضل الصغير، وسياق أحداثه، لكنه يستنبط أفكار هذه المقالات من أحداث الكتاب نفسه، بمعنى أنه ما زال أسير الوقائع والأحداث التي مر بها في فترة الطفولة والمراهقة. وتدور موضوعات هذه المقالات حول أحداث شباط الأسود 1963، باعتبارها هي البوصلة الحاكمة على تفكير صاحبنا النجفي. فقد تركت في ذهنه وفي خياله ووجدانه، ذكريات سوداء مرّة. لم يستطع التخلص منها حتى يومنا هذا. نظرا لشدة حفرها في عمق الروح من الآلام، مازالت تحتفظ برنينها المؤلم كلّما تذكر المؤلف بعض أحداثها أو أسماء الشخصيات التي وقع عليها الحيف التاريخي، ولم ينصفها التاريخ حتى اللحظة.

في مقالته الأولى المعنونة: يوم تحولت النوادي الرياضية إلى معتقلات. (جرائم ما زالت بلا عقاب) ص:105، تتراءى أمام الكاتب أحداث يوم الجمعة 8 شباط الأسود، حيث اغتيلت ثورة تموز، وسفك دماء قادتها ومناصريها، وتحولت كل أجهزة البعث وسلطاته إلى قوى من الجستابو، واعتقلت الآلاف من الناس ووضعوهم في الملاعب الرياضية. حيث جعلوها مراكز للاعتقال، والتحقيق، والتعذيب والقتل، مثل نادي النهضة الرياضي في الكرادة الشرقية والنادي الأولمبي في الأعظمية وملعب الإدارة المحلية في المنصور، واستولى الحرس القومي على بيوت سكنية وحولوها إلى مقار لهم منها ما هو سري وما هو علني في الكرادة الشرقية. وقصر النهاية السيء السمعة والصيت الذي ارتكبت به أبشع جرائم التعذيب والقتل، ومن جرائم البعث التي يذكرها الكاتب بهذه المقالات هي: إسقاط الجنسية عن أشرف أبناء العراق، لاسيما وأنها استهدفت أبرز العلماء والأدباء والشعراء والمثقفين والمخلصين من أبناء الشعب، حيث أصدرت وزارة الداخلية لحكم البعث الفاشي بموجب كتابها السري والمستعجل الرقم (ق. س 11660 والمؤرخ في 26-10-1963)، والقاضي بسحب الجنسية وإسقاطها من 12 مثقفاً عراقـياً، لأن سلطات البعث لم تتمكن من إلقاء القبض عليهم، كونهم كانوا خارج العراق أثناء قيام ردة البعث المشؤومة في شباط 1963. وهذه الكوكبة هم من أبرز مثقفي العراق، وهم كل من:

1- شاعر العرب الأكبر: محمد مهدي الجواهري.

2- الدكتور فيصل السامر: وزير الثقافة في حكومة عبد الكريم قاسم عام 1959

3- الدكتورة نزيهة الدليمي: أول وزيرة في العالم العربي.

4- صلاح خالص: أحد مؤسسي اتحاد الأدباء في العراق.

5- الزعيم هاشم عبد الجبار: شقيق عبد الكريم قاسم بالرضاعة وكان من أول المدافعين عن الثورة، وهو أحد. أمراء اللواء العشرين مشاة الذين قادوا الثورة.

6- الأستاذ نوري عبد الرزاق حسين: السكرتير العام لمنظمة الشبيبة الديمقراطية، وسكرتير اتحاد الطلاب العالمي عام 1960، ورئيس منظمة التضامن الافروآسيوية.

7- الشاعر عبد الوهاب البياتي: أحد رواد الشعر العراقي الحر

8- الشاعر والكاتب الروائي ذنون أيوب: كان كاتبا مرموقا وصحفيا بارزا، ومدرسا وناقدا أدبيا من أهل الموصل.

9- الروائي غائب طعمة فرمان: أحد أعمدة الرواية العراقية، وصاحب رواية النخلة والجيران، وقد ترجم إلى العربية أكثر من 80 كتابا من اللغة الإنجليزية والروسية والذي توفي في موسكو عام 1990.

10- محمود صبري: الفنان التشكيلي المعروف وأحد رواد الفن التشكيلي الحديث

11- الدكتور رحيم عجينة: مناضلا يساريا معروفا وطبيبا للأمراض المستوطنة، كان من قادة الحزب الشيوعي العراقي ورئيس جمعية الطلبة العراقيين في لندن.

12- عزيز الحاج حيدر: كان عضوا بارزا في قيادة الحزب الشيوعي العراقي وقاد أكبر انشقاق بتاريخ الحزب الشيوعي العراقي عام 1967 عرفت جماعته باسم القيادة المركزية.

وفي نهاية مقاله، يعلـّق المؤلف محمد حسين النجفي حول هؤلاء الذين أسقطت عنهم الجنسية بالقول: كيف يمكن لأي سلطة غاشمة وفاشية، أن تبعد رواد الثقافة في بلدها؟ إنها مجموعة تتودد الدول الأخرى لاحتضانهم والاستفادة من نتاجهم الفكري والتعليمي؟ هؤلاء عينة لما حدث عام1963. بعد ردة ثمانية شباط الدموية عام 1963، إذ تم اعتقال الآلاف من الطلبة والأساتذة الجامعيين. ويضيف: إن ردة شباط 1963 هي المسؤولة بشكل مباشر عن تردي المستوى الثقافي والعلمي في العراق، لأنها حاربت المثقفين المخلصين بشتى الوسائل، ومنها إسقاط الجنسية عن الذين لم تستطع أن تضع أيديها على أعناقهم، مع جرائم ما زالت بلا عقاب. ص 114.

وفي مقالة (فهود بين نخيل الكوفة) يستعرض المؤلف حملات الاعتقادات والمطاردات التي كانت تشنها عصابات البعث الإجرامية بعد ردة 8 شباط 1963، حيث راحت هذه العصابات بمطاردة التجمعات الشيوعية واليسارية في مدينة الكوفة والنجف وبساتين الشامية ونهر الفرات، وقد قام بسطاء الناس في قرية بورسعيد في ريف الشامية بصد كل الهجمات الفاشية التي قام بها الحرس القومي ضد هذه القرى.  ص: 116.

وفي مقالته الأخيرة، والمعنون بـ (التقييم الموضوعي لثورة تموز 1958) صفحة: 120 - 121. يستعرض الأستاذ محمد حسين النجفي جملة من الآراء والأفكار التي سادت تاريخ ثورة 14-7-1958 وما قاله المفكرون والسياسيون حول هذه الثورة، إلا أنه ينفرد برؤيته الخاصة ص: 121، حيث يرى أن عبد الكريم قاسم وتنظيم الضباط الأحرار لم يكونوا محددين بـ أيديولوجيا واضحة المعالم، سوى إسقاط الملكية، وتأسيس الجمهورية، على غرار التجربة المصرية، كان معظمهم ذوي اتجاهات ومشاعر مزدوجة، قومية عروبية من جهة، ونهج يساري علماني من جهة أخرى. لذلك انقسم الضباط الأحرار والشارع العراقي في مسألة الوحدة الفورية مع مصر، وتحولت إلى فرصة للخلاف لا أكثر ولا أقل، وقد استُـغلّت للحشد الجماهيري، وللسيطرة على الحكم من قبل البعثيين، وبناء عليه جرت محاولة عبد السلام عارف، السيطرة على السلطة بعد شهرين من قيام الثورة، أعقبتها حركة رشيد عالي الكيلاني ثم حركة الشواف، بالتنسيق مع المخابرات المصرية، بعد تسعة أشهر من الثورة، ثم أحداث كركوك المروعة بين الأكراد والتركمان، ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد وتمرد البارزاني في شمال العراق، وقضية الكويت والمشكلات مع إيران ومصر والأردن وغيرها، وقانون رقم (80) الذي يسترجع العراق 95% من الأراضي غير المستثمرة من الشركات النفطية، وكان هذا القانون، هو القشة التي قسمت ظهر البعير، والتي أدت إلى اغتيال الثورة وإنجازاتها وزعيمها ورفاقه بضربة واحدة في 8-2-1963،  ص: 121 - 122.

ثم يستدرك القول بأن نهاية الجمهورية الأولى بهذا الشكل المأساوي، تقع على عاتق زعيمها بالدرجة الأولى، وعلى القوى القومية التي سعت إلى السلطة بشكل دموي بالدرجة الثانية، وغيرها من الأمور، هي التي وأدت الثورة. ص: 122. ولذلك يستخلص المؤلف بعض الدروس والعبر مما مر به العراق، والقوى السياسية يطغي عليها بنظرة تشاؤمية بشكل عام.  صفحة: 12.

خلاصة القول

إن كتاب المناضل الصغير، هو الورم التاريخي في قلوب العراقيين الذين ما زالوا يأنـّون من قساوة الزمن التاريخي للبعث في العراق، وقد استطاعت ريشة الكاتب محمد حسين النجفي أن تنقل هذه الآلام بصدق طفولي لا يعرف الزيغ أو التلون تحت تأثير أي أيديولوجيا، لذلك كتبها بسليقة الوجدان الصادق، متتبعا وغـزاة الضمير، لمن قاسوا هذه المأساة المؤلمة مع حكم البعث الفاشي، ولذلك أراد الكاتب في المناضل الصغير أن يبقي إسقاطاته أو إسقاطات الواقع كما هي عليه في مطلع ستينات القرن المنصرم، وسطّرها بعفوية الذكرى لحداثة السِن دون قسرٍ أيديولوجي، بحيث إنه جعل الوقائع هي التي تتكلم وتعبّر وتحكي المأساة التاريخية لجيل مقهور، عاش كل تلك المأساة، وتحدث بها بصدق، جعل من التاريخ شاهدها الأبرز.

موضوعات المناضل الصغير، جعلها المؤلف محمد حسين النجفي أن تُساير وعي طفولته بكل تناقضاتها. حتى دون أن يخضعها إلى رؤية منهجية تخضع إلى مساراتها الزمنية، بل جعلها تساير وعي أقرانه الذين عايشوا تلك المِحَن والمأساة، ولذلك صنف كتابه هذا بـ (من أدب السيرة، لذكريات مؤلمة من أيام الزمن الجميل) فجعل الأحداث تروى بلسان أبطالهـا الصغار أولا، كي تسير وفق إدراكهم وتحديدهم لمجريات الأحداث وفق استيعابهم المرحلي، ومن هنا نفهم أن عمق الجرح وآلام مرحلة الستينات التي شاهدها العراق كانت غائرة في الروح، ورماد مأساتها، يتحرّك كلما جاء ذكر البعث، أو ذكر اسم شباط الأسود.

ومن هنا ندرك كثرة الرجوع إلى مأساة 8 شباط 1963. فهي تلح بحضورها في لاوعي الكاتب، وتتكرر بقوة بين فكرة وأخرى. كان يناقشها الكاتب ضمن هذه السيرة، هذا أولا، وثانيا كان الكاتب موفـّقا إلى غاية بعيدة، عندما كتب المناضل الصغير ليخص به تلك الأجيال المتعاقبة التي لم تدرك مأساة البعث في ردة شباط الأسود عام 1963. أراد أن يخاطب فئة الشباب والمراهقين أكثر من غيرهم، بغية أن يدركوا مقدار الألم والندوب التي خلفتها تلك الأحداث. ولذا خصّ إهدائه إلى: من له رأي في الحياة، وضحى في سبيل ما يؤمن به، إلى المناضل المجهول الذي عُذّب وصرخ، ولم ينحني، إلى من استشهد في سبيل قضيته، ولا نعرف له اسم أو صورة أو قصة تتحدث بها الأجيال، كما قال في صفحة: 6.

من هذه الزاوية الواضحة في الإهداء. ندرك مدى حرص الكاتب وصدقه على تدوين تلك الذكريات بعقلية طالب الإعدادية المراهق الذي يملك الحس الوطني في مرحلة مهمة من تاريخ العراق السياسي.

المناضل الصغير، وثيقة سياسية اجتماعية هامة، حملت نبض جيلٍ عاش مأساة، سحبت خلفها مأساة، هو ما زال يعيش في لجة الأحداث التي خلفتها تلك المرحلة.

المناضل الصغير: جدير بالقراءة، لأنه صوت الحارات الشعبية التي ما زالت صورها تتكرر في مخيال الذاكرة.

***

كتبه الدكتور خير الله سعيد في أوتاوا، 10-8-2023.

في المثقف اليوم