قراءات نقدية

ملف: المبدع محمد خضير بين رؤيتين (1) .. خسائر السارد .. إلى أين؟

من خلال قصص متميزة تماشت مع المأساة انسانياً وفنياً مثل (حاملو الجثث) و(تقاسيم على وتر الربابة) و(الأرجوحة) وغيرها حيث كتب عنه غسان كنفاني وسهيل أدريس وعبد الرحمن أبوعوف وآخرون. وفي مهرجان المربد الأول وأثناء ازاحة الستار عن تمثال السياب سأل شيخ النقاد علي جواد الطاهر عن قاص يدعى محمد خضير فأشاروا الى شاب أسمر نحيف وخجول جدا أثنى عليه الطاهر قائلاً. (ألا تصدر مجموعتك القصصية الأولى) ارتبك القاص بكل تواضع منوهاً ان الوقت لم يحن بعد ..

كان محمد خضير مثابراً وقلقاً على مصير تجربته الإبداعية بمسؤولية منقطعة النظير، ولما أصدر مجموعته الفذة (المملكة السوداء) عام 1972 اعتبرت في حينها (ولاتزال) حتى الآن قفزة نوعية في مسار القصة العربية حيث كتب الناقد شجاع العاني مقاله المهم (محمد خضير ومغامرة القصة العراقية) وتلت مقاله، المقابلة التأسيسية التي أجراها معه القاص الاستاذ سليم السامرائي بعنوان (البدايات) في مجلة الأديب العراقية ثم جاء مقال علي جواد الطاهر (محمد خضير وحده) وانهالت أمطار الثناء على قاص لم ينل مثلها أديب آخر في حياته (وتلك قاصمة الظهر) التي مهدت للتخلي عن مسؤولياته الإبداعية الحقيقية لاحقا ً. ان القفزة الصاعدة التي حققها ذلك الفنان أعقبتها قفزة أخرى (إعلامياً) استثمرها لصالحه وهو احتدام الصراع السياسي أثناء حقبة الجبهة (اللاوطنية) بين الشيوعيين والبعثيين التي أوصلت البلاد لاحقاً الى الكوارث الكبرى . ظل القاص محايداً وعينه ترصد الوضع المحتدم سياسياً وثقافياً آنذاك إذ انقضت خمسة أعوام لم ينشر خلالها القاص شيئا سوى (إله المستنقعات) في طريق الشعب حتى فاجأ الوسط الأدبي باصدار مجموعته الثانية (في درجة 45 مئوي) خلال ساعات ضرب الجبهة. في هذه المجموعة دفع بالتجريب السردي الى أقصى مداه مانحاً القصة العراقية مذاقاً غريباً وحساسية متقدمة على صعيد الشكل الفني رغم استفادته (وتقليده للصرعات العالمية) فانك تجد بناءه لقصة (منزل النساء) تقليداً صارخاً لقصة (موبيس المتعري) الانكليزية بينما جاء معمار القصة الفوقي سرقة واضحة لمعمار آلان روب غرييه في روايته (غيرة) أو (ستائر النوافذ الخارجية) لقد مزج القاص في مجموعته (في درجة 54 مئوي) بين الواقع والتاريخ والرؤيا المتقدمة جداً عبر الانفتاح الفني على العالم: ان قصصا مثل (الصرخة) و (تاج طيبوثة) و(احتضار الرسام) شاهد على ذلك .. ونتيجة للصراع القائم وجّه القاص والروائي عبدالرحمن مجيد الربيعي هجوماً واضحاً على هذه المجموعة ثم تصدى لها أحد النقاد المحسوبين على البعث والسلطة آنذاك بمقال عريض في جريدة الثورة عنوانه (هل تحترق المملكة السوداء بدرجة 45 مئوي؟) . فردّ عليه ناقد شيوعي في صحيفة طريق الشعب بمقال بارز (أفكار تتوهج بدرجة 45 مئوي) .. ان القوى العراقية بحشودها الثقافية (والمثقف العراقي هو السياسي وقتذاك بعينه) النابهة وضعت القاص ابداعياً فوق كل الميول والاتجاهات فتسيّد القاص على المشهد الابداعي .. وكان البعد الجغرافي لمدينة البصرة عن العاصمة وانعزاله المبرمج بكل وعي ودقة عن الأضواء قد ضخم صورته وراح هو بنفسه يلمعها في الوسط العام . لقد اعتزل الكتابة (أو النشر) طوال حقبة ضرب الجبهة منحازاً الى تأريخه اليساري القديم ضاماً صوته (ضمناً) الى اليسار المنكوب .. لكن القاص محمد خضير جابه حقيقتين مرتين هما: القطيع الثقافي الأمي الذي جعل من القاص صنماً مقدساً لايمكن المساس به أو التعرض له وحتى التحاور والاختلاف الخلاق فتماهى القاص مع تلك العذوبة الفاسدة التي تعيشها الآلهة والأصنام، أضف الى ذلك النياشين التي (وكأنه لايراها) معلقة على كتفيه أينما حل ورحل .. ثم جاءت الحرب (وان أي سلطة في العالم سلاحها الأكبر الإعلام واستقطاب الأسماء والرموز لأغراض الدعاية والتعبئة العامة) ... فعلى سبيل المثال قام وزير الاعلام العراقي (لطيف نصيف جاسم) باستدعاء القاص المعروف عبد الستار ناصر حيث قام الوزير بسحب دفتر الخدمة العسكرية من القاص وكتب على صفحته الأخيرة (يعفى من الحرب!!) وهذا أول عربون امتياز تقدمه السلطة للفنان وحين نشر ذلك القاص قصته التعبوية (العريف زرزور) أرسل مع وفد عالي المستوى الى العاصمة الفرنسية باريس فكيف يكون الحال مع قاص مبدع اسمه محمد خضير؟ للأمانة التاريخية جاهد القاص لكي يحافظ على سمعته وفنه والنأي بنفسه عن سلطة غاشمة متعطشة للدماء .. فقد أراد أن يجنب نفسه تبعات تهمة صمت الفنان وتجاهله لقضايا الوطن المصيرية !!

اضطر محمد خضير ان يخرج الى العلن بقصة عنوانها (رؤيا خريف) نشرت في مجلة الأقلام لم يستسغها الوسط الثقافي المنفعل ازاء محنة الحرب القائمة (كان الوسط يدين أي فنان ينشر حرفاً أو يرسم لوحة آنذاك) كانت القصة باردة وشاحبة وتفتقر الى الدفقة الانسانية الساخنة لكنها أي (رؤيا خريف) ظلت تعلو قيمتها الفنية والتخيلية والجمالية كلما تقادم عليها الزمن لأنها لاتنتمي الى اللحظة السطحية والآنية للقصص المكتوبة لأغراض التعبئة .. لكن القاص أغواه الاستقطاب والترحاب السلطوي (وهو الفنان الذي لايمتلك رصيده الفلسفي ولا الأرضية السياسية الراسخة للكاتب الملتزم / أو المسؤول عن قضايا الانسان المصيرية _ وان الافتقار للقلق السياسي قد ساهم تدريجيا بانخفاض الحدة الفنية لتجربته القصصية).

ثم أصدر قصته الثانية (وصية جندي) في مجلة أسفار مقلداً ان لم نقل سارقاً للنواة الثيمية لقصة ادغار آلن بو المعنونة (مخطوطة وضعت في قنينة) .. بطل بو يترك رسالته في قنينة ويرميها في البحر وجندي محمد خضير يضع وصيته في خوذة ويرميها وسط مياه الهور .

رغم الكثافة الاسلوبية والتراص المعماري المحكم والجمال العالي للقصة الا انها قوبلت باستهجان الوسط الثقافي (ان تلك الأوساط وأثناء الأزمات لانعول على مجساتها التقييمية لكونها تفتقر الى الحصانة النفسية والصحية والتوازنات السليمة بعد الهزيمة االفادحة للوطن) . خاض القاص مرحلة جديدة حين راح (يتلبد) في العمق التراثي الرافديني وشرع يحتمي بالمنظومة الغيبية للدين وينأى عن مواجهة السلطة في كتابة أدب دعائي مكشوف حتى أن قصصا مثل (غرفة يوسف) و(صحيفة التساؤلات) وغيرها شاهد على ذلك .

 تلك التجربة الأخيرة أقصته نهائياً عن الواقع والامعان في ارجائه فنياً وانسانياً، فالقصص التي قدمها تباعاً: أولها القصة المنشورة في مجلة عيون التي يديرها خالد المعالي وبطلها رجل عتاق (بائع عتيق) مروراً بقصته الضعيفة (كأس القدر) ثم قصته (ستون) في مجلة فنارات انتهاء بقصص (الطفل المخطوف) و حشود باصورا (قدماي) و(التختبوش) هي تنازلات متوالية في مسيرة ذلك القصاص .. يبدو ان لكل فنان دورة واحدة (حسب رأي القاص وحيد غانم) تكتمل وتنقفل على نفسها ومايكتبه الفنان بعد ذلك أما يدور ضمن إطارها أو فلكها ولم يضف لها شيئاً أو انه يأخذ بالتراجع. في حواراتي الأخيرة مع مثقفي بغداد عبر الجلسات الحميمة حملونا نحن (البصاروة) على حد قولهم تطويب القاص وتكبير حجمه (تأليهكم له) على حد زعمهم .

قلت رأيي المحايد (ان ماقدمه الاستاذ محمد خضير لتراث القصة العراقية من خلال كتبه االثلاثة المملكة و45 مئوي وبصرياثا فهو شرف كبير لهذا الفنان وللسردية العراقية ولانحمل المبدع أكبر من طاقته) لكن محمد خضير (أخذ بتهديم منجزه) على حد تعبير الناقدة فاطمة االمحسن وهي ترصد تجربة الشاعر الكبير سعدي يوسف في تراجعاته الفنية الأخيرة المؤسفة .

لقد واجه المبدع مدينته (بصرياثا) وهو الآن يطلق عليها (باصورا) في كتابات سابقة بشحنات سردية حداثوية ثرة فكان يرفع قامة النثر عبر جمل مترعة بالسخونة والنضج حيث قدم سرداً يرتقي الى القمم الرفيعة للفن بينما الآن هو يهبط وبطريقة مؤسفة الى نثر ميت يحيلك الى عصور البلاغة الميتة والسجع المحنط والتزويق اللفظي الضحل على غرار (ملاحيس، وعتاريفه، ودربنديته، ولابد أن تعرفن إني ربص، خرص، مسخ، فناء) أين هذا السرد المشنوق في سرديته في (أبي الخصيب طريق الحكايات) يقول القاص محمد خضير بزهو مريب (اني أنجرف مع وطاويط حديقة الصمغ الى بئر الزلزلة، كان ديوان صاحب الخبر قد أرسل عشرات النساخين الوطواطيين الذي انشغلوا بتحريف مقامات سيدي الحريري) هناك توق جارف للقاص بأن يسترجع عوالم الجاحظ القوية في كتبه الخالدة (البخلاء) و (البيان والتبيين) وغيرها .

في نصه الضعيف (استرجاع باصورا) عبر سرده الآتي (أجل هذا مايضمن وجود باصورا: حواريات مسترجعة من مواقع رقطاء، وأخرى قرعاء، وسواها شمطاء، يتكلم فيها زناطير وتحاريف وبهاليل ومداعيس، يستترون بالمخاريف والطراطير والبراطيل ولاتخلوا مشاهد باصوا هذه من ليال تغني فيه القيان ...) .

أو استعادة المنظور التراثي كاملا للحريري في مقاماته الخالدة مستعيدا رؤيا السروجي معلقا على صاحب الخبر (كل فرد من عماله هو راصد ومرصود بدهاء الرصد والمسخ، ومدبوغ بطلسم الكشف والرصف في جنس الوطاويط والجرذان والحرابي) ان القاص مأخوذ تماما بالسراطين والوطاويط والجرذان والحرابي في عصر يعج بالعولمة والاتصال وهذه الكائنات أقرب الى التبصر اذ من خلالها يطل محمد خضير على القرن الواحد والعشرين بسفنه الفضائية الباصورية.

لقد قال الناقد (عزيز الساعدي) عن مقطوعة محمد خضير النثرية (جسر اللقلق) ان المشكلة التي تواجهنا أثناء قراءة هذه المقطوعة ان القاص يفتقر تماماً الى قدرات التوصيل بقناعات فنية ناجحة وتلك خسارة كبرى للفنان ..

بينما يعلق الناقد (حاتم العقيلي) قائلاً (بحسب اعتقادي النقدي ان كتابات محمد خضير الأخيرة التي ينشرها في جريدة الصباح تفتقر الى مجساته التي اعتدنا عليها وقراءته للواقع برمزية عالية، انه وبتعبير ثان يطعن الابداع وعليه من الآن أن يصمت الى الأبد وليسمح للأصوات القصصية الجديدة هي قادمة رغماً عنه) فقد أسفت كثيراً لتلك (الكتابات) فهي بمعناها الهايدغري هروب من الموت وعدم مواجهته لأنها عند هايدغر (الوجود المزيف مقابل الوجود الأصيل) للكتابة الخلاقة. ان البؤرة الخطيرة لأي فنان يأخذ بالانحسار هي (العزلة) وعدم مدّ الجسور للحوار مع الأقران المجايلين والأجيال اللاحقة، تلك العزلة تمنع التلاقح العظيم وتمد الدماء الجديدة وبالتالي تصنم العقل والخيال عن الرؤيا البارقة للابداع والحياة ..

ان باصورا التي يقدمها لنا محمد خضير على طبق مجعد، عتيق، همل، مرمي وسط قمامة التاريخ .. أين موقعها من تلك الصروح الروائية المتخيلة والقائمة بجدارة على قوة الماضي وشموخه العظيم (تراث جمال الغيطاني الذي راح يجاهد مستعينا بسرود المقريزي وخططه وأكوان التوحيدي وابن إياس المصري والجاحظ والمسعودي والقشيري .. فقدم لنا (الزيني بركات) و(وقائع حارة الزعفراني) و(متون الأهرام) و(الرفاعي) وغيرها ... ومنظومة ابراهيم الكوني التي أقامها في قلب الصحراء الافريقية الليبية مقدما فناً خاصاً جداً أبهر العالم انتهاء بمنجز ادوارد الخراط الغائص في عوالم مدينة الاسكندرية التي صنع منها هالة اشراقية مترعة بالنثر المعطر بروائح المكان بدءاً من (يابنات اسكندرية) و(حجارة بوبيلو) و(أضلاع الصحراء) و(ترابها زعفران) .. الخ ..

اننا نخشى على القاص المآل الذي انتهى اليه كاتبان أمريكيان في أواخر عمرهما عندما قدما أعمالاً هابطة حيرت النقاد هما: شيـروود اندرسـون وجون شتاينبك.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1197 الاربعاء 14/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم