قراءات نقدية

حين ابتسم شارلو بكي العالم من الضحك

بحساب الزمن اربعة ايام فقط تفصل بين يومي ميلاديهما، وبحساب القيم والمواقف من الانسانية والحياة، بينهما شتان.

فشارلي شابلن ولد في 16، نيسان، عام 1889 في لندن، بينما ولد ادولف هتلر في 20، من الشهر والعام ذاتيهما، في احدى المدن النمساوية، ليلتقي الاثنان بعد 51 عاما، ولكن كلا منهما على طرف نقيض من الآخر. فقد مثل شابلن دور زعيم النازيين في فيلمه الشهير "الدكتاتور الكبير" في وقت تصاعدت فيه الفاشية الى ذروتها وقرعت طبول الحرب التي اشعلها النازيون الالمان والفاشيون الطليان بوابات اوروبا، فتطايرت شظاياها لتحرق سلام العالم. لقد تبوأ هذا الفيلم التاريخي مكانته الخاصة بكافة المقاييس والقيم، باعتباره تظاهرة سياسية وانسانية عالمية كبيرة ضد الحرب. كاشفا فيه جنون عظمه الديكتاتور وسياسة التأنيث التي حكمت العلاقة بين هتلر وقطاعات واسعة من جماهير الشعب الالماني التي وجدت في شخصيته قائدا يوصلهم، بأي ثمن الى يابسة النصر، بعد ان غرقوا في بحر الهزيمة، عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى. لقد استخدم "شارلو" في هذا الفيلم سخريته اللاذعة المعروفة أمام تلك التراجيديا التي خلقتها النازية.

في هذا الفيلم خرج شارلو من صمته الذي رافقه في غالبية افلامه، فينطق للمرة الاولى ويمازج بين النطق والايماء ليجسد رسالة فنية ذات عمق انساني كبير واهداف سياسية، أكد فيها موقف الفنان من قضايا السلام العالمي.

ماقبل هذا الفيلم كان شابلن يبهر الناس بحركاته الايمائية الهزلية التي تخترق معانيها نفسية المشاهد لتستقر في احاسيسه ببساطة، دون ان ينطق، وكأنه يريد ان يقول أن للفعل والحركة تأثيرا أشد من حدة الصراخ، فتترطب العيون وتلتمع حينما يبتسم او يرفع قبعته او يحرك عصاه او يتمايل بمشيته التي يقلد فيها ذكر الوز، او عندما تجتمع كل هذه الايماءات معاً تدمع العيون من الضحك والاحاسيس من نبض الواقع.

ولد شارلي شابلن وعاش حياة قاسية علمته الكثير. طفولة بائسة في كنف أم راقصة وممثلة، هجرها زوجها المغني الذي اتخذ من الخمرة وسيلة للهروب من رتابة حياته، بعد عام من ولادة الصغير "شارلو". وبعد مرض امه ووفاتها فيما بعد، عاش شابلن حياة التشرد والفقر وذاق مرارتها، هذه الفترة القاسية القت بظلالها لاحقا على جميع اعماله الابداعية. فمنذ فيلمه "سيرة كلب" عام 1918 و "الطفل" عام 1920، حتى فيلم "كونتيسه من هونغ كونغ عام 1967، قبل ان يقتحم بوابات قلعة "هوليود"، بقيت حياةة التشرد والبؤس التي عاشها والكفاح في سبيل البقاء التماعات تضئ نتاجاته الغزيرة.

بدأ شابلن حياته الفنية عام 1894، ولم يكن يتجاوز حينها الخامسة من عمرة حينما وقف على خشبة المسرح بديلا عن امه المريضة في مشهد استلهم منه شابلن الكثير وسجل انطلاقة لحياته الفنية الطويلة. الجمهور يصفر وينادي أن تظهر "هانا" والدة شابلن لتقدم وصلتها الغنائية ومدير المسرح يقرر ان يظهره بدلا عنها. كان الصمت يسود القاعة لحظات حتى تنطلق حنجرته بالغناء وتنهال عليه القطع النقدية من كل صوب في القاعة. فيعلن الصغير بأنه سيتوقف عن الغناء برهة لكي يتسنى له جمع النقود، تضج، حينها، القاعة بالضحك والتصفيق والضجيج.

قبل ان يعمل مهرجا في السيرك، التحق شارلو بفرقة مسرحية كانت تقدم عروضا ايمائية، تعلم منها شارلي قدرة الايماء على التعبير عن مضمون الرسالة التي يريد الممثل ايصالها الى جمهور المتلقين، مثلما منحه عمله في السيرك قدرة الانسان على اخفاء همومه ومنح الناس ابتسامة ترطب عالمهم المضني، وقد كان تأثير أمه واضحا على حركاته فمنها تعلم ايماءات الوجه واليدين، فهو الذي عاش متعلقا بها حتى مماتها. تنقل شارلي بين فرق مسرحية وغنائية عديدة تبعا لمتطلبات وضعه وامكاناته، الا ان كل ذلك لم يغير شيئا من حالة التشرد والتجوال التي عاشها حتى جاءته الفرصة المنتظرة، فقد وافقت فرقة "فردانكو" المسرحية، وهي من الفرق الكبيرة التي كانت تطوف عواصم العالم وتقدم عروضها على مسارحه، تلك العروض والمدن الكبيرة، مثل لندن وباريس وبرلين وبوينس آيريس ونيويورك وغيرها تركت تأثيراتها عليه ليكون له شخصية مميزة وسمة ايمائية خاصة به رافقته في جميع اعماله اللاحقة.

في نوفمبر عام 1913 ودع شارلي شابلن حياة التشرد التي عاشها في الواقع، لكنها ظلت تلاحقه في جميع اعماله التي انجرها خلال اكثر من سبعة عقود. في ذلك التاريخ تقدم له مسؤول شركة "كايتسون" السينمائية للعمل معها لقاء أجر اسبوعي لم يحظ به من قبل. فتح له العمل في الفرقة عهدا جديدا حفر به التاريخ اسمه في عمق التراث الانساني. ودع شابلن حياة المسرح ليقتحم هوليود فيحظي بلقاء الممثل الكوميدي المعروف "ماك سهنيب" ويعمل تحت اشرافه وينجز مايقرب من 35 فيلماً، 23 منها من انتاج شارلي. وفي العام 1951 ينتقل شارلي شابلن للعمل في شركة "ساناي" وفي تلك الفترة يكتسب شهرته اللائقة بشخصيته الفريدة المميزة التي اكتسبها: بمشية يقلد بها ذكر الوز، وسروال فضفاض، وقميص واسع، وحذاء طويل، وقبعة مترنحة، وشارب مربع ، ووجهه عابس باسم وعصاة تحمل كل فلسفته في الحياة ووسيلته في تحدي القدر، كما كان يقول.

خلال عمله في "ساناي" انتج شابلن 14 فيلما وتسامت شهرته واصبح له فريقا من الفنانين كونوا عائلة واحدة وفي مقدمتهم الممثلة "إدنا سرفانتس" والمصور "رولي توتر" وغيرهما. خلال تلك الفترة قدم شابلن " العمل الجديد"، " البطل"، " كارمن "، " المصرف "وغيرها بالاضافة الى تمثيله و اخراجه افلام المغامرات، وهي سلسلة افلام قصيرة تناول فيها شارلي شابلن حالات اجتماعية محددة اضفى عليها مسحات كوميدية. في هذه السلة من الافلام قدم شابلن " رجل الاطفاء"، "شارلي موسيقي"، "شارلي يصل متأخرا"، " شارلي والكونت" . كل هذه الافلام وغيرها تشترك فيها شخصية واحدة متميزة، تتناسق فيها الحركات الايمائية لكل حواس هذا الانسان المبدع، فهذه هي السمة التي ينفرد بها والتي سبغت افلامه وهو يجسد لحظات حياته من خلالها، كما هو في فيلم "الكلب" الذي استعرض فيه حياته جائعا متشردا ولاهثا وراء لقمة العيش. وفيلم "الطفل" الذي عبر فيه عن معاناة طفولته، و"شارلي في الجندية" الذي اعلن فيه موقفه من الحرب. ولأنه من صلب تناقضات مجتمعه بافرازاته الطبقية والاجتماعية وصراعاته السياسية، فقد كان لشارلو موقفه من الاحداث التي عصفت بالمجتمعات الرأسمالية في ثلاثينات القرن الماضي، فترة اشتداد الازمة الرأسمالية الكبرى، فانتج فيلم "الازمنة الحديثة "، عام 1935 الذي جسد فيه هذه الازمة عبر رموز المجتمع المهمشة وتداعياتها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي وانتقاذه اللاذع لانماط العمل ارأسمالي، فيمنع فيلمه من العرض في كل من روما الفاشية وبرلين النازية في ذلك الوقت، وتلصق به تهمة الشيوعية. لكن هذا لم يثن شابلن عن مواصلة كفاحه على جبهة الفن واصراره في الدفاع عن كرامة الانسان وقيمه النبيلة وحقه في الحياة الحرة الكريمة، فيقدم "الديكتاتور الكبير" الى محكمة التاريخ في قمة صعود الفاشية، ليسخر منها بطريقة لاذعة وحبكة فنية تليق ببراعة فنان ينتمي الى الحضارة الانسانية بكل مقاييسها ومعانيها القيمة. ولم يتوقف شارلو الفنان وهو ماض في نضاله الجارح لضمائر البرجوازية، وهو يكشف عن اقنعتها التي ارادوا بها ان يستروا عورات المجتمع البرجوازي، فيقوم باخراج فيلم "السيد فيردو" الذي يفضح فيه هذه اخلاقية هذه الطبقة المتهرئة في المجتمع الامريكي، ويتحمل نتيجة مواقفه هذه ما تحمله زميله الالماني برتولد بريخت، وهي تهمة الاساءة الى الولايات المتحدة الامريكية والانتماء الى الحزب الشيوعي المحضور، فيقدم للمثول امام لجنة التحقيق في النشاطات المعادية للولايات المتحدة، وبعد انجازه " اضواء المدينة " فيلمه الاخير في الولايات المتحدة الامريكية يغادرها شابلن ليقوم بعد اربعة اعوام بتجسيد تجربته الذاتية وفترة مكوثه في امريكا والتقائه برجال الاعمال واعضاء اللجنة المكارثية لينتهي به المطاف بالعودة الى احضان اوروبا. وفي عام 1977 يودع شارلي شابلن هذا العالم والى الابد مخلفا ورائه 84 عملا سينمائيا رائعا هي عصارة روحة وسنوات عمره المضني الذي نزف فيه احاسيسه وابداعات عمله الدؤوب كمؤلف سيناريو ومخرج وممثل وراقص وموسيقي و..و الخ، اضافة الى كم من الاوسمة والجوائز التقديرية الرفيعة المستوى، ليس اقلها جائزة الاوسكار ولقب السير" الذي منحته اياه ملكة بريطانيا. رحل شابلن تركا وراءه اسما احتل مكانته بين اسماء لامعة خلدهم تاريخ الفن والادب، اسماء مثل شكسبير، بيكاسو، بريخت، بيتهوفن وغيرهم الكثير.

 

* نشر هذا المقال، في الهدف الثقافي، دمشق 21 مايو، آيار 1989 بمناسة المئوية الاولى لميلاد شارلي شابلن.

في المثقف اليوم