قراءات نقدية

قلق المكان في مرزوك وأيقاعاته الضائعة

rahman khodairabasللمكان سطوة على النص، وهيمنة على الحدث وصياغة فعله، هذا ما يلمسه القاريء وهو يغرق في عوالم القاص البصري عبد الحسين العامر، في مجموعته القصصية (مرزوك..الإيقاعات الضائعة).

يبدو المكان في مجمل نصوص المجموعة مسرحا قلقا، يحفل بالترقب، رغم أنه – اي المكان - متشبثٌ بشخوصه، موّلَه بأخيلتهم وأحلامهم ومصائرهم، وكأنه حاضنتهم التي تؤرخ ولادتهم وتوهجهم وإحتراقهم في بؤر اوجاعهم وهم يصارعون أقدارهم . يتسع المكان أحيانا او يضيق أحيانا أخرى، ولكنه يؤطر أفعال أبطاله. قد يكون المكان مدينة كاملة، حافلة بشواطئها ومراسيها وبحارتها، مدينة تم اجتثاثها بفعل الحروب وإنعكاساتها . تلك الحروب التي أجهزت على تأريخية المكان وافراحة وأشجانه ورؤاه واحلامه، من خلال سياسة مجنونة إعتقلت المكان، وجعلته ميدانا للقتل والدمار، ثم نسفته من خارطة الكون البشري، كما حدث لمدينة الفاو وسكانها وإنسانها الذي نزح عنها مرغما، ليلوذ بأمكنة أخرى، غير قادر على التعايش مع تلك الأمكنة، فجعلها محطات للأنتظار. ومع ذالك فان بطل القاص عبد الحسين العامر يؤمن بإعادة صياغة المدن الجديدة على مقاسات حلمه، وكأنها تتوهج على صفيح ذاكرة مجروحة، تحلم بضجيج البحارة واصوات البواخر وصراخ النوارس، تحلم بإعادة فردوسها المفقود . لكن المكان البديل يبقى عصيا على الثبات و الإنسجام مع الواقع الجديد .

المكان في بنية النص معلق على مشجب القلق. يضيق أحيانا ليستحيل الى سجن من الإنتظار، أوبيت مسكون بالمطر والهواجس، من قبل إمرأة لاحول لها ولاقوة سوى متابعة قطراته ألتي تلسع الزجاج، او تتسلقه في مشهد رومانسي يتداخل فيه الحزن بالترقب . أو يكون محطة للقطار تتنفس وجع الرحيل، اويكون عربة قطار مهملة مرمية على قارعة الزمن، او يتحول احيانا الى حانوت صغير يتصفح ضجيج المارة والمتبضعين . او حتى يتم إختصاره في حقيبة صغيرة .

وهكذا نجد أنّ نصوص عبد الحسين العامر، تمنح المكان قدرة هائلة على استقطاب الإهتمام، من قبل أبطال فقدوا بوصلتهم، واصبحوا يتشبثون بالذاكرة، التي بنت لهم صروح مدينة ذابت من بين أصابعهم . مما جعل النص حافلا بالحياة ومشبعا بالتفاصيل ومشحونا بالدلالات . لقد جعل الكاتب من المكان عشّا مسوّرا بالإلفة والطمأنينة، وجعل من السفر مغامرة محفوفة بالخطر، من خلال حكايات السندباد ومغامرات سفره المشحونة بالخطر . وصدى تلك القصص التي تحكيها الأم، على عيون الأطفال الخائفة وهم يستمعون الى مغامرات ذلك المغامر، وهو يقطع البحار ويغترب في الأمصار، وذلك من خلال حكايات الأم، في الليالي الطويلة، التي تتحايل من خلال هذا القص على يقظة الأبناء، كي تمنحهم لذة النوم في رحاب الخيال . ولكن تلك الرحلات تنطوي على خطرالسفر ووهم الغربة، والتلاشي بالإبتعاد عن المكان الأول الذي يشكل خارطة الإنسان وتكويناته الأساسية .

لقد كانت فكرة السفر تثير المخاوف - حسب النصوص- حتى وان إقترنت بهجرة الطيور في موسم هجرتها" فتخرج النسوة في قرى الجنوب، وفي عيونهن الأسى لهذا الحشد من الطيور المرتحلة، مسرعات الى إيقاد أحجار البخور، ليتصاعد خيوطاً ويعلق بأجنحتها، لتستدل به على المكان أثناء العودة ! ص55 "

أحيانا تبدو النصوص قلقة، وكأنها تفصح عن مدلولاتها في إرتباطها الوثيق بالأمكنة .الحمامات تطير في السطح الى سماء المدينة، ولكنها تعود من جديد . ومرزوك يموت كمدا او حسرة او جنونا حينما يبتعد عن ألفة المكان . وبقية ابطال القصص يذوبون حبا في لجة أمكنتهم المستحبة ولكنهم يموتون كمدا بفراقها، رافضين فكرة الرحيل، وهذا ما يتبين للقاريء وهو يتفحص هذه الفكرة التي تتحول الى مغامرة موحشة : " وسط كل هذا يواصل مذياع المحطة بث الأغنيات الهادئة أو ذات الإيقاعات ألراقصة، لتبدد في دواخل المسافر الأجواء الموحشة والشعور بالغربة والقلق. ألقلق الموزع بين الرحيل وعشق المكان ..ص57 "

يتحول المكان أحيانا الى سجن ضيّق . ولكنه يحمل رائحة المدينة وعشقها، ومع ان أبطال النص عازفون عن فكرة مغادرة المكان . لكن العسس والحراس ( أدوات القمع ) يغلقون الأبواب أمام الهرب الذي لابد منه . الهرب من محبة الأمكنة بإثارة هذا السؤال الحاد كالسكين، والذي يطرحه الشرطة المتسلحون بالكراهية، وهم يقبضون على عاشق المكان بطرح هذا السؤال المحيّر " هل كنت تعتقد أنّك ستواصل الرحلة ..ص57 "

كان مرزوك شخصية قصصية بإمتياز،وهو احد ضحايا المكان " هاجر هو الآخر الى مدينة لاعهد له بها،تاركا عربته، ووجه أمه المحنّط....ص41 " لم يبذل القاص جهدا كبيرا في نحت هذه الشخصية، لأنها كانت جاهزة وتمتلك شروط العقدة والدلالة والرمز. فهو – اعني مرزوك- عامل حرفي، ومتسكع،وسكير، وكادح وضحية . هو كل شيء وهو لاشيء . هو رمز المدينة الضائعة . غني الى حد التخمة – وهو الفقير المعدم - من خلال نشر افعاله الإنسانية على أبناء مدينته .ومساعدة الناس وإثارة البسمة في وجوههم من خلال خفة روحه الطافحة بالفرح الكاذب، والنكتة الجاهزة والزهد بالحياة، سوى إكسير حياته اليومي (بطل العرك) . وهو المجنون العاقل حسب توصيف الفيلسوف الفرنسي فوكو للجنون والذي يرى " لاوجود للجنون الا داخل الإنسان، ذالك إنّ الإنسان هو خالق الجنون من خلال تعلقه بنفسه، ومن خلال الأوهام التي يعيش فيها " مما يطرح سؤالا مهما : هل أنّ مرزوك يدرك ما يدور حوله من الألم . أم أنه كان خارج دائرة الوعي التي هي خارج دائرة المعاناة ؟ هل كانت افعال مرزوك مجرد أوهام ؟وهل هو مجنون ومعزول، أم أنّ الجنون يحيط به ؟.

هذا ماتجيب عنه القصة الموسومة( مرزوك..الإيقاعات الضائعة ) والذي اعتبرها الكاتب إيقونة وعنوانا لمجموعته القصصية .

يرى المسرحي البرازيلي الشهير(أوغستو بوال) في أن العلاقات الإنسانية تبدو مصممة على نحو مسرحي في قوله " تعيش المجتمعات الإنسانية حالة فرجوية في حياتها اليومية، حيث تعمد إلى إنتاج عروض من نوع ما في مناسباتها ..." وقد كانت حياة مرزوك أشبه بالمسرحية، ولكنه كان يتسلق على النص ليعلو عليه، وكأن حياته تتفوق على الحبكة المسرحية، لابتعقيدات الشخصية أو بثقلها الفكري، ولكن ببساطتها وعفويتها وصلابتها وقدرتها أنْ تصبح رمزا . فمرزوك هذا الفاحم الملامح، يتحول الى توأم مدينته، التي مانفكت تلاحقه، حتى في لحظة موته الفاجعة، التي كانت قريبة من كراج الباصات القديمة التي تذهب الى الفاو. كما اكتسبت شخصيته حضورا كبيرا، فهذا الرجل المتصعلك يمثل الروح السامية للمدينة بأحزانها وافراحها . فهو الرجل المغرم بالناس والذي تشعُّ ملامحه بالقسوة والقوة والصمود، يمتلك قلب طفل صغير في سلوكه ووداعته مع الناس والمارة والبحارة والمتبضعين والنوارس والقطط السائبة . هذا الرجل المتسكع والذي لايمتلك من الدنيا سوى عربته المزدانة بالألوان، وسوى حطام مأوى لايقيه حر الصيف ولابرد الشتاء، ولكنه يحوي كنز ذكرياته التي حملها في صحراء العمر . تلك الذكريات التي لم يجد لها من يعرف مرزوك حضورا، الا في اوهامه واحلامه وهلوساته . وهو الذي يستدرج سعادة كاذبة من خلال إدمانه الليلي على الخمر . لكن مرزوك الوديع يتحول احيانا الى كتلة من العناد وتأكيد الذات .

" شعر بملوحة الدمعة وهي تخترق شاربه، وردد بهمس متعثرا

- انا ابو خيون ابجي ص45" وهو الحزين يتحول احيانا الى زوربا المدينة الراقص على إيقاعات الهيوة " فمرزوك جاهز للرقص حتى الموت إذا سمع صوت الإيقاع ص45" . وهكذا نجد ان الكاتب قد رسم لبطل من مدينته بورتريتا مثقلا بالرموز والدلالات، ومشبعا بالقيم والأفكار النبيلة .

لم يكن النص السردي في قصص العامر مكرسا للرجال ومدنهم فقط . فقد اعطى للمرأة حضورا وذلك في قصته (البحث عن الضفاف) فقد تناول هموم المراة المعلقة على صليب الإنتظار .وتناول أحزانها ومعاناتها وهي تعيش وحيدة، لاتمتلك غير صبرها وأحلامها وخيالاتها . انها تنتظر الذي لايأتي اوربما يأتي . يرسم لنا الكاتب لوحات فنية عن قطرات المطر التي تلسع زجاج النوافذ، كما يرسم لوحات أخرى للفقاعات المنهمرة، والتي تجعل المشهد محفزا لفكرة البحث عن الحلم، مما يجعل تلك المراة تتحرك الى محطة القطار، لتلمس بعض اوجاع الذات في انتظار الحبيب او الزوج الذي طال إنتظاره.

" حدثت جارتها ذات مساء

- هل تعرفين بما يحس الإنسان عندما يشعر أنه يعيش وحده ؟ ص61 "

هناك خواء هائل، خلفته الحروب . الرجال غائبون عن المدن، والنساء سجينات في بيوتهن . محاطات بالضجر والخوف والخشية .لقد كانت هذه القصة من أنجح القصص في القبض على حجم الخواء الروحي الذي خلفته الحروب، وعكسته على إمراة مدمرة المشاعر ومحرومة من العواطف الإنسانية، ولاتمتلك الا الإنتظار .لقد شحن الكاتب قصته هذه بالكثير من المؤثرات العاطفية، وحلّق بها في أجواء تشع بالمشاعر والأحلام والهواجس، وكأنها قصيدة محملة بلوعة المعاني وخصب الأحزان . لذا فقد إنفردت،،وتميزت بوهج لغوي، استطاع ان يعكس بعض اللوعات الأنسانية، والمشاعر المدفونة تحت ركام الحرب . وكأنه يريد ان يقول : بان هذه الحروب قد حوّلت الحياة الى مجرد وهم .

في قصة (زائر الظهيرة) يتناول القمع ووسائله، وما يتعرض له المناضلون في حياتهم من إعتقال تعسفي وتنكيل وتدمير للنفسية . ولكن الكاتب لم يتعرض الى أسباب هذا القمع وطبيعته،أو زمنه او دوافع السلطة من ذلك . كما انه لم يُفصح عن طبيعة الناس الذين نكلت بهم السلطة او طبيعة إنتماءاتهم، بل ترك كل ذلك مفتوحا لكل الأحتمالات . وكأنه يريد ان يؤكد أنّ كل المجتمع هدف للتنكيل من قبل سلطة لاتنتمي إليه .

وفي الحقيقة، نستطيع إعتبار هذه المجموعة القصصية،كغيرها من الأعمال الأدبية والتي ظهرت بعد السقوط لكثير من الأدباء العراقيين . هي توثيق فني وتسجيل أدبي، لما قامت به السلطة الدكتاتورية من عنف وإستلاب ومصادرة الرأي وتهشيم المجتمع العراقي وتفتيته، وزرع الخوف وإشاعة عدم الثقة .

لقد حفلت مجموعة عبد الحسين العامري بحشد من المشاعر الإنسانية . كما إنطوت على الكثير من القيم والأفكار، في إطار فني وقصصي لاغبار على صفائه . ورغم أنّ لغة النصوص تخْفتُ أحيانا وتضعف أحيانا أخرى، ولكنها تعود الى تألقها الجميل، من حيث القوة والمتانة والشاعرية .

اوتاوة/كندا

في المثقف اليوم