قراءات نقدية
"فيما تبقى" .. الحرب تترك جروحاً في النفس البشرية
في مجموعته القصصية الاولى بعنوان "فيما تبقى" يستقبل القاص فرات المحسن قارئها بسؤال ليس بديهياً هو" من يسمل عين الحرب" متخيلاً الحرب، أي حرب كانت غولاً بعين واحدة، عين حاقدة لاترى غير الدمار. لكنه لاينتظر الجواب، فهو مدرك بأن ليس بمقدور احد منا فعل هذا، رغم بشاعة الحرب ودمارها للنفس البشرية. وهو واع لصعوبة ان يخرج المرء منها، لو استطاع ذلك، دون ان يصاب بعاهة جسدية او نفسية.
إذاً هو يخبر القارئ بأن قصصه تتحدث عن الحرب، ليكون مستعداً لما سيلاقيه بين دفات الكتاب من ادوات ومظاهر وسياقات ثقيلة قاتمه تصنعها الحرب، وماتخلفه من دمار للبشر والمباني والمدن وغيرها. لكن القارئ لم يلتق بالحرب بمفهومها المادي الفيزياوي، بل بمعايشات أناس لوثتهمم الحرب وتركتهم منزوعي الارادة، وهم الذين لديهم ذكريات وأحلام لم يبق منها سوى صور من ماضي لايختلف، في كثير من الأحيان، عن بشاعة الحرب نفسها. فالحرب تأتي هنا في خلفية حيوات الشخصيات وتتجسد في ممارساتها وتصرفاتها كنتيجة لتأثيراتها على حياة كل منهم. بمعنى أن القاص يتناول الانسأن بآدميته، كبريائه وجبنه، خوفه واقدامه، وكل ما يتعلق باردانه من رياح الحياة ودوامتها.
قد تكون القصة الاولى في مجموعة ماتبقى وهي بعنوان " يوم آخر في حفر الباطن" التي تبرز فيها مظاهر الحرب جلية. وحفر الباطن منطقة في قلب الصحراء قريبة من الحدود ويعسكر فيها جيش. فهي منطقة غير متخيلة، والشخصية التي تدور حولها احداث القصة، انسان عادي سيق الى الجيش، ومن ثم الى الحرب قسراً. وهو في اوقات الاستراحة يدّون ايامه في هذا المعسكر واصفا اياه بتأمل، حين يلف المساء تضاريسه ومكوناته، بعد يوم تكتمل فيه طقوس الحرب بأزيز الطائرات ودوي انفجارات ورائحة البارود وضحايا. يصف المكان عابراً الى ذكريات قديمة يتواصل معها، عبر أحاسيس يترطب بنداوتها ازاء " يبوسه الجلد في حفر رطبة متغيرة المناخ"، لكن هذه الاحاسيس، التي تلفها الوحدة ووحشة المكان، تدفع به الى الحاجة لأن يسلي نفسه بمحاورة جرذ، عله يعرف منه سبب وجوده في هذا المكان.
في هذه القصة، ومعظم قصص المجموعة الاخرى، تتنقل شخصيات المحسن من وصف لحالة معينة محددة بزمن ومكان، الى اعادة شريط ذكريات عاشتها الشخصية في الماضي، فتشعر بتداخل الازمنة والاماكن، وتداخل الاحداث أيضا في سياق السرد القصصي. احيانا يكون هذا الانتقال سلساً، واحيانا يحس فيه القاري بالتيه، فيعود الى بداية القصة او الى فقرة سابقة فيها ليمسك بالخيط ويتابع مسار الحدث. في بعض السياقات قد يفعل الكاتب هذا بتعمد، ربما ليتيح للقارئ امكانية التأمل في امور ليست غريبة عنه، فيتعرف عليها من خلال السياقات.
قصص " فيما تبقى" طويلة وفيها سرد مطول يتجاوز حدود القصة القصيرة نحو الرواية، ليس بسبب حجمها فقط، وبمديات الوصف الذي تتميز به، بل وايضا لكثرة وتزاحم الاحداث فيها. وفي هذه القصة بالذات " يوم آخر في حفر الباطن" تتداخل فيها الاحداث التالية:
(معايشات الجندي في معسكر في قلب الصحراء، ذكريات الطفولة، احداث مقتل ابيه وزواج امه من رجل فظ، انتحار اخته، علاقته باخوته، علاقته بصديق يبيت عنده ثم يصحو في قسم الشرطة، وتجربة السجن القصيرة، ثم ذكرياته عن مدرسته ومعلمه). كل هذه الاحداث التي تتداخل في حياة بطل القصة بنسيج يمكن أن يؤسس لعمل روائي.
في قصته اللاحقة " النهر يكتم اسراره " ثمة شخصيتان: الاولى تتحدث بصيغة الغائب "هو" والثانية بضمير "الأنا" المتكلم. القاص فصل بين الشخصيتين، حيث قسم القصة الى جزئين، 1 و2. لكن للشخصيتين مسار واحد، فالاول المغترب في مدينة سويدية وكان متزوجاً من فنلندية، تعاطفت معه وما يحمله من آثار نفسية للحرب التي عاش وطأتها، لكن الزوجة الاجنبية المتعاطفة تتغير كثيرا بعد ولادتها والامر يصل الى الطلاق بينهما. هذا الشخص يقرر زيارة بلده، بعد سقوط النظام الذي تسبب في اغترابه، فيُقتل برصاصة طائشة وهو في نزهة بقارب نهري. الرصاصة تنطلق من سلاح يجربه مشتري وبائع له على ضفة النهر. وهنا للشخصية الثانية " ضمير المتكلم" دور في هذا الحدث، فهو بائع السلاح الذي تصيبه اطلاقه الشخصية الاولى في القصة. لوهلة وانا اتابع الجزء الثاني من القصة شعرت بأنني اقرأ قصة اخرى، ولكن في نهايتها عثرت على الرابط، المسار الذي يجمع بين الجزئين، بين الشخصيتين. وقد نجح القاص، حسب قرائتي للقصة في ربط الشخصيتين والحادثتين بحبكة واحدة.
الأثر النفسي للحرب نتلمسه، ايضا، في قصة " ورق اليانصيب"وهي تتحدث عن شخص يدخل مصحاً نفسياً. فهو مصاب بانفصام الشخصية، ويتخيل امه بصور مختلفة، منها وهي بمعية طفل صغير يشبهه، حاول الوصول اليها عبر النافذة التي يسكنها وحيدا في بيته في احدى ضواحي ستوكهولم. كما حاول انقاذ صديقه من الموت، فسُجلت عليه محاولة انتحار. والثانية حالة انتحار دون وعي أيضا على سكة حديد، اذ كان يظن بأنه كان ينقذ امه والطفل وجندياً جريحاً، ربما هو نفسه، او زميلاً له تركه ينزف دون مقدرة على مساعدته. هذ القصة تحمل مزيدا من الالم، فقدان الحنان، الشعور بالذنب، الخوف الدائم من المجهول وفقدان الثقة بالآخر، وغيرها من الصفات المتراكمة عبر معايشات قاسية.
اثر الحرب أجدها في معظم قصص مجموعة " فيما تبقى " وتظهر بنسبب متفاوتة. ولكن جميعها تعكس حالات معاشة. حتى في القصتين الآخيرتين اللتين تدور احداثهما في السويد لاتخليان من خلفية الحرب، لكن بطريقة اخرى، فبطلة قصة
" ارواح للشجر" كانت في ايام شبابها ناشطة من اجل السلم العالمي، تخرج في تظاهرات مناهضة للحروب في بلدان اخرى. وهذه القصة بالذات مختلفة عن قصص المجموعة الاخرى، كون ان الكاتب يتحدث فيها بلسان امرأة تفصح عن همومها ومشاكلها مع مصلحة الضرائب، من اجل اتمام عملية دفن زوجها المتوفي حسب وصيته، دفن بيئي. وهذا النوع من السرد القصصي يتطلب تقمص شخصية بطريقة اخرى. وقد نجح القاص الى حد كبير في هذا.
الحرب ايضا، ولكن من نوع آخر نتلمسها في آخر قصص المجموعة وهي بعنوان " لامكان للنازية في شوارعنا" وهي الاقصر من بينها، وتتحدث عن معايشة مغترب في ستوكهولم يتلمس الفرق ما بين ما خبره في بلده، وهو ان رئيس الحكومة لايخرج الى الشارع يحادث المارة، ولا الوزراء يفعلون ذلك ولا البرلمانيون حتى. وأن الشباب الصغار لايفقهون كثيرا في السياسة والحروب. وهاهو في لحظات يعيش عكس كل هذا. اذ يشاهد رئيس الحكومة يحادث احد المارة، وشابين وشابة لم يكملوا السابعة من العمر يقومون بفعالية سياسية ضد النازية ويبهرون الرجل بما يعرفونه عنها، رغم عدم معايشتهم لها وبلدهم لم يحكمه نازيون اصلاً.
قصص "فيما تبقى" وهي تسبر تأثيرات الحرب على نفسيات من عايشوها، تتلمس ايضاً مشاعر شخصياتها ففيها حكايات مشحونة بالحب، كما الكراهية، وهي قصص ناضجة، قد تخرج احيانا عن البناء القصصي السائد، او المقولب، كما افهمه انا، ولا اعتقد أن في هذا ضير، اذ ان التعددية والتجديد والتنوع في مجالات النتاج الادبي والفني التي يشهدها الشعر والرسم والمسرح تدخل أيضاً في البناء القصصي. كما يمكنني القول بان القاص له خيال في الوصف والاستعارات.
....................
صدرت عن دار فيشون ميديا، السويد 2010