قراءات نقدية

شعرية الإغتراب في تجربة منى العاصي .. نص قلب هذه الأرملة أنموذجا

ahmad alshekhawiعبر تناثر ومضي يؤثث جسد قصيدة مطولة، تأبى شاعرة تتسم بموسوعية الرؤى وتجذرها، شاعرة بحجم الفلسطينية منى العاصى إلا أن تتحف الذائقة ببوح متوهج دافق بأطياف الحياة المعاصرة بشتى تناقضاتها وتقلباتها ومفارقاتها.

تلون شعريتها هذه المرة بتفاصيل تجربة الترمّل، وفق ما يتيح تناسلات دلالية وجمالية جريئة تضيء دهاليز الإغتراب وتفتح جوارح المتلقي على ظاهرة وجع المكان الخالي من معية الحبيب.

ضمنيا، تحيل عنونة النص على نسبية القوى والطاقات البشرية الممكن حيازتها في أقصى وأبعد الحدود، على نحو أخص في حالات الفقدان.

ففي الأوقات الصعبة وإبان تكالب المحن واختمار المعاناة، تأخذ في التصاعد والتسارع وثيرة الحاجة إلى شريك وعضد وطرف آخر، معه يتم اقتسام مجابهة هكذا تحديات وإكراهات تصطبغ بصولة استثنائية إزاء أحاسيس العجز والخور والهوان.

لكن... في غوصنا وأسفارنا التأويلية لهذه المادة الدسمة بأسرارها، الأمر يختلف تماما، ليأسرنا بما يشبه سردية تراوح بين التشظي والإلتزام بأدبيات النسق في آن، تعكس روح نضال حياتي يغذيه استشعار للمسؤولية وثقل الأمانة ممزوجا بإرادة فولاذية جامحة محرضة على المواجهة فالتحدي فالتجاوز.

هكذا وخضوعا لسلطة مرايا الروح المكتوية بغياب البعل، تغدو اختيارا أرشفة طقوس تجريبية الواحدية مقابل الكل تأمّما لبلوغ أسباب التصالح مع الذات والعالم الجاني انتهاء.

السمك وفير

يا حبيبي

فلا تربّ شهقة الصيد

ليظل الغرق

رهين اسمك

جمالية هذه الوحدة الفنية التصويرية، تكمن في زرع انطباعات وليدة اللاوعي، كون المانوية من اختصاصات البعل/الحبيب وقد غيبه ما يشبه الموت، لكن حضور اسمه مهيمن وطاغ حد التلبّس وتملكه غواية وجاذبية اقتراح القبول بالتوحد معه رمزيا.

يلغي هذا كل احتمالات تكرار ومعاودة تجارب جسدية وعاطفية أخرى، ففراش الحبيب الغائب، أقدس وأطهر من أن يتلطخ باسم جديد.

أنثر المسافات

لعصافير غيابك

وأبحث عن حقولي

فلا ألمح سوى

قميصك

إشتغال على البياض ينم عن نبوغ ودربة رامية إلى تجديد المعجم وتوسيع المفاهيم.

شبه العري، ذروة المشاهد الجميلة المنطوية على عذرية وعفاف احتواء الآخر، النوع الذكوري هنا .

تراكم الألم حدّ فقدان التلذذ بمباهج العناصر الطبيعية/الحقول، والقفز إلى فضاءات مزدانة ببصمات الغياب.

فمنحة التحكم بمفاتيح المكان، ولو على سبيل التمرد على منغصات من قبيل الشعور بالغربة في المهجر. هذه المنحة لا تفوت على الذات الشاعرة فانطازيا الإحتفاء بالغائب ومناجاة أطيافه، في أدق التفاصيل، مثلا، القميص كدال على صورة رمزية تحتل منطقة بين العري والتقنع.

ومع أن غيابك جلي

فلماذا يراك حزني

في كل حي؟

إن ملامسة ما وراء ألوان هذه الوحدة التعبيرية، توحي بنقلة انسيابية من أنسنة الملموس إلى المحسوس، خدمة للغرض الشعري، من خلال استدعاء مفاهيمي بهدف الإفصاح عن ضديده أو نقيضه.

فتراكمية الحزن حدّ حجب الذات، عملية ذهنية مرغبة في الجنوح إلى ممارسة ضرب من التملق والتمويه لجعل الحضور معادلا ضمنيا للغياب.

هل ستنتبه

كم كنت خفيفا

حين أفكر في حجر

فينحت

إزميل غيابك رقصتي

لأعرف

كم كنت كاملة

تستطرد الشاعرة وتتفنن في توجيه خطابات منبثقة من الوعي إلى الغائب، لتقرب أذهاننا من حقيقة ربط الإنتشاء الوجداني بكينونة كمالية برغم زئبقيتها وتفلّتها ممن يطلبها أو ينشدها إلى ما لانهاية، تظل ضرورة إنسانية ملحة لتغطية ما يعتري البعض من مواقفنا تجاه ذواتنا بالخصوص، من مظاهر الضعف البشري .

لأن عري انتظاري

شرف لقبلتنا

أرفع غرقي

لأراك

الرؤية هنا مجازية، تتأتى من خلال الزج بمخيلة المتلقي في عوالم تقتحمها صور لاهثة متداخلة دالة على اتقاد الرغبة في إشباعات عاطفية ومادية، يشكل البوح عدلها وعنصر ترجيحها، حال يبسط الغياب سلطته في ثوب حضور قوي يدغدغ الذاكرة ويحرج الذات.

لا تستل صوتك

من عش يباسه

وتبسطه

لسحابة عابرة،

عتقه

في أنحاء الضلع

كي تمطر عصافير

اقتراح عدم تعريض خريفية الصوت للمائية الخاطفة الزائفة، إنما لما يملي مناخات الغوص في طقس أزلي، يفيد نشأة حواء من ضلع آدم، وفيه من الإشتغال على الموروث العقدي ما يسهم في إضفاء ملمح معرفي قيمي على أجواء القصيدة.

وفيه أيضا ما يحض العلاقة بين النوعين، على تبني الثوابت ويجعلها قائمة على المقدس حماية لها من التلاشي والإنقراض .

أرسم ظلّك على الجدار

وأنتظر

لتدخل من أيّ نافذة.

* * *

كنت وحيدة كضوء بلا نفق

كثقب فصيح

خلّى القلب والتفّ

بنصلك.

* * *

كبذرة غائرة في غيابك

ما حاجتي لكل هذه الأسماء.

* * *

ولا اسم لك

لأنادي عليك

ها أنا ذا أنتحب باسمك العزلة.

* * *

كم قلت إنني لن أرتقه مرةً أخرى

كلما غرزت الإبرة في ندمي

وهي تمرر اسمك ليعبر

ثقب في القلب.

* * *

حين أمر بغيابك

أكسر المنطق وأنام بحضنه

حتى غيابك

لا أريده وحيداً.

* * *

كان عليّ أن أرضى بقبلة واحدة

قبلة واحدة قالت نايا

ليختفي الوجع

كيف أقنعها أن قلبي

ليس في مكانه.

* * *

لا أريد هذا لقلب

عليّ استبداله بجرس

كلما نبض

ذكّرني

بالعشب الذي ينبته غيابك

على طول هذه الروح.

* * *

كل المسافات كانت فارغة

حتى ملأها غيابك.

* * *

بيننا

كل هذه المسافة

المفعمة

باللاطرق

* * *

كحفنة من النقود المعدنية

تسقط في حصّالة الهاتف العمومي

تك

تك

ت

ك

حياتي.

* * *

بحّ قلبي

وهو ينادي عليك

حتى أورق قصباً.

* * *

خبِّئيني أيتها الشرفة

إذا ما انْغَلَقْتْ

كدم ينقر نافذة السَفْكْ

كم أسرفت في هبوبي

يا حقل

حتى بتُّ منفى.

* * *

حين يؤذّن اسمك

حين يغادرني لصلاتك

وحين يعود محملاً أسماءك الحسنى

لا أصدّق سوى دمي.

* * *

يا نصال الفتنة

ينسجن غزلاني الصغيرة أوهاً

يؤرجح أوها

قد غسلت الغابة من حظي

مذ حررتني القبلة من غبار الجسد

واختصمت ضفتاي

حتى ابتدعت شريكاً للجهات

* * *

لكأني

أحرس أنين الماء

بعد ملحك

عييت يا قلب

عييت

سرقني الهبوب

حتى اشتاقت روحي إليّ.

* * *

أحتاج أن أغادر ملامحك

دعني إذاً

أقرأ سورة التيه

أصعد على أصابعي

طيناً للخلاص

فهذا الشتات الممتلئ بي

لا طريق له.

* * *

لا شيء

سوى موعد

يستأنس بلهفة الغبار

قلب هذه

الأرملة.

* * *

اتبع جيوب

قبعاتك أيها الحاوي

ودع الأرانب

تغسل في أمكائها الظنون

واوثق مقتلي أيها المغيب

فكم نجت

من مكائد العشب الحقول.

 

تسترسل شاعرتنا في بلورة خطابها الشعري المترع بلمسات ريشة سحرية تقترح مفاهيم مغايرة للإغتراب وجور المكان الأجنبي.

تباعا تغزو ذائقتنا حد الثمالة، وحدات عضوية متمحورة حول الغياب وحضور اسم الحبيب الغائب بقوة في جل المشاهد الحياتية وصور نضال جبار يستمد متانته ووقوده من تجربة الترمل الرمزي وفق ما يتيح آليات مقارعة تحديات عصر يتطور بشكل خرافي، وإن تلونت وتنوعت مشارب أسلوبية ومعجم تجربة طافحة بوجع المكان، ذلكم الوجع المتجسدة بلسميته في فضح المكنون عبر ممارسة إبداعية رائقة لها خصوصيتها لا تعترف بالخطوط الحمراء ولا تسمح للروح الإنهزامية بالتسلل والهيمنة والإستحواذ .

 

أحمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي/30/06/2015

في المثقف اليوم