قراءات نقدية

رواية (يامريم) كشفت عن معاناة الاقليات الدينية

goma abdulahهذه الرواية (يا مريم - 160 صفحة) صدرت في عام 2012. للشاعر والروائي العراقي القدير (سنان انطون) هي الرواية الثالثة بعد رواية (اعجام) عام 2003، ورواية (وحدها شجرة الرمان) عام 2010 . ورغم انها لم تفوز بجائزة (بوكر للرواية العربية عام 2013)، إلا انها نالت شهرة واسعة، واعتبرت في مقدمة الروايات العراقية، التي تزيح النقاب عن اساليب القمع والاضطهاد وممارسات التعسف في الارهاب والقتل والاختطاف والفدية والعنف الدموي، التي تعرضت لها كافة الاقليات الدينية، وبشرارة نيران الارهاب الدموي ، الذي ابتلت به كافة الاقليات الدينية، بعد الاحتلال الامريكي ومجيء الاحزاب الطائفية على انقاض حكم الطاغية (صدام حسين)، وتكشف عن الواقع المشحون بالتراجيديا، والحالات المزرية التي اصابت هذه الاقليات الدينية، وخاصة الطوائف المسيحية، وصارت امام مصير جديد، من الاغتراب الوحشي داخل العراق، وامام خياران، اما الجزية او الاسلام، وإلا فان الموت سيلاحقهم في كل مكان حتى، يتم تطهير العراق منهم، وان يعيشون في بوابة الجحيم حتى الهروب من العراق او الموت الزقوم فيه . هذا الحقد والانتقام الاعمى، هو احدى افرازات العهد الجديد . ورواية (يامريم) جسدت هذه الوقائع والمعطيات من مشاهد الواقع التراجيدي . وفي تعليق لارسطو عن تراجيديا . قال (على الكاتب ان ينتقي ويسلط الضوء على بعض الاحداث) لذلك جاءت هذه الرواية لتسلط الضوء على الاحداث، وخاصة المجزرة الدموية المروعة التي حدثت في كنيسة (سيدة النجاة) في بغداد عام 2010 . وتأثير هذا الحدث المروع والرهيب، دفع الكاتب الروائي (سنان انطون) الى كتابة احداث هذه الرواية، كما صرح في احدى مقابلاته الصحفية، ومن ضغط الصدمة الرهيبة من المجزرة الدموية، وهي تمثل اقصى حدود البشاعة والوحشية، من الارهابين العتاة والقتلة ، الذي يؤمنون بسفك الدماء وتحطيم حياة الانسان، باسم الاسلام وهو بريء من افعالهم الوحشية والدموية، هذه حصيلة هذه الاحباطات والتأثيرات النفسية بالالم والجزن والاسى، من هلاك ارواح بريئة بحجة المعتقد الديني المسالم، وان الاقليات الدينية في العراق، صارت تحت مجهر الارهابين القتلة، بهذا الشكل الرهيب كانت مناخات الرواية وبحبكة رشيقة وسلسة بمتابعة الاحداث الخطيرة والمعايشة اليومية بشكل صميم ، وقد طعمت حوارات الرواية باللهجة الموصلية، لتضفي عليها سمات الواقعية، وتكشف بما يدور في وجدان الذات والانطلاق بعفوية عن التعبير عن المحنة الكارثية التي اصابت العراق عموماً والطوائف الدينية الاخرى وخاصة المسيحيين، زمن الرواية يستغرق يوماً واحد، وبشخصية محورية في تتبع الاحداث هو (يوسف كوركيس) المتقاعد في العقد الثامن من العمر، ويحمل من خزين الذاكرة المكتنزة بالاحداث السياسية التي مرت على العراق، منذ حركة (رشيد عالي) عام 1941، وما تابعها من احداث متلاحقة، لاشك ان محطات (يوسف) كثيرة متعلقة بتاريخ العراق السياسي واحداثه العاصفة، مروراً بالعقود التالية، الى زمن غزو الكويت وعودة الفرع الى الاصل . الى ام المعارك (ام المهازل) . الى الحملة الايمانية وتشديد واغلاق منافذ الحياة المدنية بسلسلة طويلة من المحرمات والممنوعات، الى الحصار الاقتصادي وتوابعه الثقيلة والمرهقة على الشعب ، وخاتمة المأساة العراقية، ليكمل مسلسل الخراب بالاحتلال الامريكي ومجيء الاحزاب الطائفية الى الحكم، والكثير فرح بسقوط الطاغية صدام، واعتقدوا بعودة العراق الى الامن والامان والاستقرار، وتمزيق الماضي البغيض لان العهد الجديد، سيحول العراق الى (هونغ كونغ) ولكن بركات قادة الاحزاب الطائفية، حولوا العراق الى مايشبه الصومال، وتحول الدولة العراقية الى دويلات مليشيات وعصابات مافوية، تفرض سيطرتها على الشارع العراقي وتتحكم به، بشريعتها الدينية المتطرفة والارهابية، وتبيان هدفها الاسمى في تطهير العراق من كافة الاقليات الدينية بشتى وسائل الارهاب والعنف الدموي الذي يطال الجميع (موبس احنا عمو، الصبة هم خطيه، واليزيديين شوف اصار بحالهم) ص75 . وهي نتيجة منطقية لغياب دور الدولة في حماية المسيحيين وغيرهم من الاقليات (مو قصة علينا لو مو علينا، بس دولة ماكو، والاقليات ما حد يحميها غير الدولة القوية، احنا لا عدنا حزب ولا مليشيات ولا بطيخ) ص25 . ان المحطات الحياتية لشخصية المحورية في الرواية (يوسف كوركيس) كثيرة ومتنوعة، لكننا نتوقف امام حظه العاثر والسيء بان لم يحظى بالزواج ، رغم انه ارتبط في علاقة الحب مع عدد من النساء، لكنه لم يوفق في حبه بواحدة منهن، بسبب المعوقات الطارئة، التي تؤجل مسألة الزواج، حتى انه مستعد ان يعتنق الدين الاسلامي لعيون حبيبته المسلمة (دلال) لكن رفض اهلها ذلك بشدة . وهو الوحيد المتبقي من عائلته واشقائه، الذين اختاروا الغربة والشتات والهجرة من العراق، ورغم حجم الضغوطات العائلية، بان يترك العراق ويهاجر، لكنه كان يرفض ذلك، وحين لم يصل الى عدم اقناع الاخرين يتحجج في مقولة (وين اروح بها العمر واتبهدل، اتبهدل هوني في بلدي احسن) ص85 . ولانه يؤمن بحب العراق المقدس، ويعتقد في قرارة نفسه، بان هذه الغيوم والسحب السوداء التي تعصف بالعراق، سرعان ما تزول وتنقشع، ويرجع عراق الخير وماضي التعايش والامان، هذه الروحية المتفائلة موضع جدال وخصام محتدم بالانفعال والتشنج من (مها) الشخصية المحورية الثانية في الرواية، فتاة في العشرينيات متزوجة من (لؤي) وفي اخر سنة من دراستها في كلية الطب، ثم المغادرة خارج العراق الى دول المهجر، حيث ترد على محدثها (ما تكَلي منين تجيب التفاؤل، مالك كله هذا ؟ اشراح ايخلصنا من هذولة السرسرية والمتعفنين والحرامية واهل العمايم) ص81 . وتضيف بجزع ويأس (لمن تنكَلب العمايم، احنا يمكن شابعين موت اذا انكتلت . ضاع البلد بين ايران والعربان والامريكان، والله ما ادري يعني جانت كل هالطائفية موجودة واحنا ما حاسين بيها ؟ معقولة ؟ وين جانت خاتلة ؟) ص81 . بينما (يوسف) يتشبث بالماضي الخير، وان مهما كانت الطائفية والارهاب والعنف، لايمكن ان يصمد امام العراق، ولابد ان تعود الحياة الى مجاريها الطبيعية . تنفعل (مها) بعصبية وانفعال وتقول له :

- انت تعيش بالماضي عمو .

لان الواقع الجديد خلق حالات رهيبة نحو الاسوأ ولا يمكن اصلاح الحال، وخاصة معاناة المرأة من غير المسلمة، (لا يمكن ان يتخيل مشاعر امرأة، وهي تتعرض بكل تلك النظرات، النظرات التي اشعر كأن اصحابها، يلتقطون صور اشعة اجتماعية، ليحددوا طبيعة مرضي ونجاستي، لاني لست مثلهم ؟ او من ملتهم، ولا تجيء النظرات من اعين الرجال فقط، بل حتى من النساء اللواتي ينظرن اليَ، كأنني عاهرة، لانني لا ارتدي الحجاب) ص110 . ويظل الارق يواسي انفعال (يوسف) طول الليل من العبارة التي يعتبرها اهانة له (انت تعيش بالماضي عمو) التي دمغتها به (مها)، ويظل يتساءل بطعم المرارة والخيبة والاسى والخذلان (هل اهرب فعلاً من الحاضر الى ملجأ الماضي، كما تتهمني هي ؟   وما العيب في ذلك حتى لو كان صحيحاً، اذا كان الحاضر مفخخاً ومليئاً بالانفجارات والقتل والبشاعة ؟ ربما كان الماضي مثل حديقة البيت التي احبها واعتني بها، كما لو كانت ابنتي، اهرب اليها من ضجيج الدنيا وبشاعتها، انها فردوسي في قلب الجحيم) ص11 . وحين تهدأ انفعالاته واعصابه ويقرر ان ان يسامح (مها) على انفعالاتها وتشنجها (يجب ان اسامحها، فزمانها غير زماني، وشبابها غير شبابي، هي فتحت عينيها الخضراوين، على الحروب والحصار، وذاقت طعم القحط والقتل والتشريد مبكراً، اما انا فقد عشت ازمنة الخير، وما ازال اتذكرها واصدق بانها حقيقية) ص11 . و (مها) الفتاة العشرينية تروعت بمشاهد الرعب الوحشية، وتعرضت على التهجير القسري اكثر من مرة، واخيراً انتقلت الى بيت اهل زوجها (لؤي)، في منطقة يتكاثر فيها الوجود المسيحيين، مما يكون في قلب اهداف الارهابين القتلة، في تعميق الرعب والعنف الدموي، من خلال رسائل التهديد، او وضع علامات حمراء على الابواب المرشحة للموت او القتل، او اطلاق الرصاصات التخويفية، او ممارسة الاختطاف والفدية، واخيراً ارسلوا الى المنطقة، سيارتان مفخفخة، انفجرت احداها قرب بيت اهل زوجها (لؤي) من فعل الصدمة اجهضت، وسقط الجنين، مما اصابتها ازمة نفسية شديدة بالكابة والحزن والبكاء على وليدها المفقود، الذي كان مصيره من الرحم الى اللحد، دون ان يمر بالمهد . ويستعد (يوسف) لحضور القداس الجنائزي على روح شقيقته (حنة) المتوفاة، والتي كانت تتذمر من الحياة، وتتمنى الموت كل يوم ((يوسف تعبت من الحياة، اريد اموت، يزي عاد)، ويتوجه (يوسف) صوب كنيسة (سيدة النجاة) وتتفق (مها) وزوجها حضور القداس الجنائزي، والاعتذار من (يوسف) لما بدر منها كلام اغاضه بشدة (انت تعيش بالماضي عمو) وتتوجه الى الكنيسة، ويخبرها زوجها، بانه سيتأخر لعمل طارئ، ولكنه سيحضر متأخراً، وتفتش (مها) داخل الكنيسة عن (يوسف) وتلمحه من بعيد، وفي حالة الاقتراب منه، تسمع اطلاقات رصاص سرعان مازدات كثافتها ثم انفجر باب الكنيسة، ودخل الارهابين وحدثت المجزرة الدموية بدم بارد، في قتل العشرات من المصلين وهم يؤدون شعائرهم الدينية، وحدثت فجاعة الدموية . وفي لقاء مع احدى القنوات مع (مها) من احد الناجين باعجوبة من المجزرة . قالت (لماذا تأخرت القوات المسلحة من انقاذ الرهائن،و السؤال هو ليش انتظروا كل هذا الوقت ؟ لو تحركوا اسرع، كان انقذوا كثير من ناس من اللي كانوا ينزفون، واللي ما كان يموتون، وكان عدد الضحايا اقل بكثير، فانا احمل الحكومة العراقية المسؤولية الكاملة، اشلون قدروا هذولي، يدخلون كل هذا العتاد ويعبرون نقاط التفتيش ؟) ص154 . وهكذا يسدل الستار على شخصية الرواية الرئيسية (يوسف) بان يكون احد ضحايا المجزرة الرهيبة، بان تترك جثته تسبح في دماءها لمدة اربع ساعات . هذه مأساة الاقليات الدينية، شاء حظها العاثر ان تولد في العراق الطائفي .

هناك هفوة صغيرة جداً في الالتباس في عمر (مها) فهي تتحدث عن خطف خالها (مخلص) وتقول بانها حدثت قبل ثلاث سنوات، وتقل بانها كانت طفلة صغيرة لا تفهم من الاحاديث المتداولة الاختطاف والفدية، وتشير الرواية بان مجزرة كنيسة سيدة النجاة، حدثت في اواخر شهر تشرين الاول عام 2010، يعني حادثة الاختطاف تمت تقريباً في عام 2007، وهذا غير منطقي من طفلة صغيرة الى متزوجة، وفي مرحلة الدراسة في السنة الاخيرة من دراستها في كلية الطب، . رغم هذه الهفوة غير المتعمدة، تبقى رواية (يا مريم) جسدت معاناة وتراجيديا الاقليات الدينية في صياغة اسلوب الحبكة في رشاقة مبدعة تدعو الى الاعجاب

جمعة عبدالله

في المثقف اليوم