قراءات نقدية

حسين عجيل: تكثيف العبارة واختزال المعنى في نص الشاعر يحيى السماوي (لو أنني)

(أول نجاح لخيال الشاعر هو الابتكار أو العثور على الفكرة)

الشاعر والناقد الإنكليزي "جون درايدن"

***

النص:

لـو أنني الربيـعُ

لـمـا تـركـتُ صـحـراءً إلآ وأقـمـتُ فـيـهـا

مـهـرجـانَ خُـضـرتـي ..

*

لـو أنني الخـريـفُ لانـتـحـرتُ

كـي لا تـحـنـي الـوردةُ رأسَـهـا

خـجَـلا ً مـن الـفـراشــات ..

*

لـو أنني مـطـرٌ لـَواصــلـتُ بـكـائـي

كـي تـضـحـكَ الـسـنـابـلُ

وتـسـتـعـيـدَ الـجـداولُ الـخـرسـاءُ حـنـجـرةَ الخـريـر ..

*

لـو أنني ســوطٌ

لـَـجَـلـدتُ الـجـلاّد ..

*

لـو أنني فِـراءٌ

لـَـكـسَـوتُ أقـدامَ الـحـفـاة ..

*

لـو أنني طـاعـونٌ

لاتـَّـخـذتُ لصوصَ المنطقة الخضراء

حـقـلاً لِــمِـنـجـلـي ..

*

لـو أنني كـرسـيُّ عـرشِ قصـر الـخـلافـة ِ

لـَتـحـوَّلـتُ الـى خـازوق

كـي لا يـتـقـاتـلَ الـدهـاقـنـةُ مـن أجـل الـجـلـوس عـلـيَّ !

*

لـو أنني حـرف الـراء

لـهـربـتُ مـن كـلـمـة " الـحـرب " ..

***

القراءة:

يمثل العنوان مفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي، والشاعر "يحيى السماوي" أختار عنواناً يمثل علامة سيميائية دالة على ذات مأزومة، جاء منسجماً مع سياق النص، وكأنه لبنة من لبناته، فجملة (لو أنني)، جاءت كمدخل خطابي، إنفعالي، ذاتي، داخلى، مونولوجي اعتمد الحوار الداخلي لطرح أمانٍ  تعكس رؤى الشاعر، وجدل الواقع، فكان نتاج تداعيات مرتبطة باحتمالية، فرضها عنوان (لو أنني)، ترتقي الى جدل الذات مع الواقع، فنرى العنوان مهيمناً على الكينونة البنيوية للنص، كاشفاً دلالات ورؤى المتن النصي، وعليه جاء وفق مبنى، ناشئ عن تمنّ، ومترابط مع المضمون والحدث النصي، تاركاً أثراً في أجزاء النص، كلازمة متعددة المعنى، إبتلع بها الجزء الأكبر من مساحة النص. وأخضع النص لسلطته المركزية حين تجلى حضوره الفعلي في كل أجزاء النص.

الحرف (لو) حمل عنوانا ودلالاتٍ وأساسا قام عليه النص، وأعطى أشكالاً زادت من جمالية النص الشعري مع كل ما يحويه من ألم وجداني، كونه حافظ على الدلالة برموز مختلفة، وأكسب النص إيقاعاً داخلياً، فهو حرف دال على العرض والوصل والتمني، فالدلالة اللغوية للحرف (لو) تتحكم في الصورة الشعرية في إيجاد معنى دلالي وفي تأويل الحدث.

عندما ندخل فضاء النص نجد أن الشاعر اشتغل على تجزئة وتفكيك النص الواحد الى نصوص، و(تجزئة النص هي عملية تقسيم النص المكتوب إلى وحدات ذات معنى)، يكتب الشاعر "يحيى السماوي" نمطا شعريا إبداعيا، في أغلب كتاباته، فهو يقدم نمطاً تعبيرياً متميزاً بمعطياته الفنية وتقنياته الشكلية والأسلوبية (صورة وتخييل ورؤية مكثفة)، وأبرز تجليات هذا النمط الشعري تقسيم النص الى أجزاء نصية تخضع لرؤية الشاعر، فهو حريص أن يجعل أجزاء النص تتعالق مع بعضها.

في نص (لو أنني) جاءت أجزاؤه مترابطة مع بعضها وبمعانٍ متعددة، ذات طاقة جمالية عبارة عن لوحات تعبيرية مدهشة، فهي تمثل جزئيات متكاملة لنص كلي، تتناغم مع المعنى والسياق العام للنص. هذه التعددية في الأجزاء تؤدي الى تعدد المعاني والدلالات وتلتقي بالتمني. لقد (اعتبر النحاة الاتساق بين أجزاء النص وتناغم المعاني والألفاظ ركيزةً أساسيةً في قبول النص لدى المتلقي).

نحن أمام بناء نص يتغذى على مفردات واقعية ووقائع يومية معاشة، حولها الشاعر الى رؤى. كانت الحالة النفسية هي نقطة انطلاق الشاعر، فنرى النص جاء متكاملاً، دقة في المعنى، وجزالة في اللفظ ، يتفاعل داخلياً ويؤثر نفسياً وانفعالياً، ويعبر عن حالة من الإغترابِ النفسي تتملك الشاعر، في عمق ذاته تمنٍ يشكل عمق رؤاه، ووفق هذا التمني يعيد تشكيل ذاكرته، فهو يحاور ذاته ويتمنى أن يفهمها الأخر بوضوح. فهو يتحدث ببساطة وعفوية ولغة تقترب من لغة التخاطب اليومي. كذلك يحمل النص إيقاعاً يختزل فيه جملاً متدفقة المعاني دالة على التمني في إطار (ومضة الشعرية).

الشكل مفهوم يخلق رؤية تحرك النص وتنتج دلالة وتصورات ذهنية، وهو (تشكيل بنائي للغة داخل النص الأدبي وإنتاج للمعنى والدلالة)، ويمكن الكشف عنه في نص الشاعر "يحيى السماوي" النابع من سيميائية كل جزء، من خلال التحولات الأسلوبية والإيقاعية والتشكيلية التي تقدمها هذه الأجزاء، التي بنيت على تنوع الإيقاع الشعري والتكثيف والإختزال وتعدد الصور الشعرية.

يتألف النص من ثمانية أجزاء، متفاوتة الطول والقصر وفق تدفق شعوري، في كل جزء رؤية مختلفة عن الأخرى، كتبها الشاعر "يحيى السماوي" عن وعي ورؤيا فنية، وأسلوب سردي، ينتج فضاءات شعرية مترابطة، تعكس صورة الإنفعال النفسي وتأثيراته.

أستعمل الشاعر سمة فنية في عرض النص، حين وزع النص على محورين شكّلا البؤرة المركزية فيه وهما؛ المحور الاول، نص شعري يظهر في طريقة بنائه، والمحور الثاني، نصٌّ  سرديٌّ ، يسوق الحادثة ويعنى بتفصيلها، ويعيد تشكيل النص في قالب فني، يجعله يرتقي في قدرته على تصوير الحالة والتعبير عنها.

في النص هناك تدرج في تشكيل الصورة الشعرية لكل جزء، فكل صورة لها مفرداتها وأفكارها ومضامينها، في هذا التدرج انتقل الشاعر من أزمته الفردية التي هي أزمة انكسار الذات تجاه قضاياه الى أزمة الإنسان بصورة عامة.

الشاعر "يحيى السماوي" في النص هو المرتكز بمعاناته وقضاياه النفسية والاجتماعية والسياسية، وتجربة لها الأثر والقيمة الدلالية، يمكن أن نصل من خلالها إلى إدراك هذه التجربة.

ومن أجل أن نصل الى خاتمة النص والمعنى الكامل له، نقول إن النص هو اجترار ما يراه الشاعر في حياته، والتغيير الذي يريده هو جدلية الحوار الداخلي بين ذاته والظروف المحيطة به التي لا يمكن تغييرها وفق ما يريد. إضافة الى أن للنص امتدادات فكرية هي خارج إطار النص الشعري.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

في المثقف اليوم