قراءات نقدية

صالح الرزوق: العمة الميكيافيلية: عن نساء نجم والي

تأتي رواية "عمتي الرومانتيكية"* لنجم والي على شكل خطوة موازية لـ"سعاد والعسكر" و"إثم سارة"، والتوازي يعني حكما التجاور. فهي تدور حول موضوع المرأة في المجتمع العربي، ولا تنتقل به من طور لآخر. وإذا بدأت سارة من التمرد وانتهت بالاستسلام، فإن سعاد تبدأ من الثورة - وتتحول لأيقونة تحررية على مستويين - اجتماعي وسياسي، وتأخذ دور وردة حمراء في مزهرية نظام يوليو بقيادته العسكرية والمخابراتية، ولكن أيضا تكتب لنفسها مصيرا مأساويا ومؤلما وهو الانتحار. ولا يوجد أي فرق بين قتل النفس بطريقة وجودية وقتلها بطريق بيولوجي.

وتكرر هذا السياق العمة - أو عمة صبري - وللأسف لا نعرف اسمها ولا اسم ابن أخيها، فصبري مجرد لقب مستعار تنتقيه العمة من ذاكرتها الرومنتيكية لملاكها الصغير أو بئر أسرارها كما تقول لاحقا. ولا أفهم ما هو الجانب الرومنسي في الصبر. فهو يدل على المشقة والمكابدة أو التألم، وغالبا ما يرتبط بواحد من اتجاهين: الواقعي النضالي أو الرسولي والنبوئي، بمعنى أنه يجمع الضدين، المقاربة المادية والدينية للنساء في سياق واحد. ولا تخرج العمة عن تقليد والي في تصور نسائه ويقدمها منذ البداية بسياق شخصية متمردة تنظر للتقاليد من أعلى، حتى أنها تبدو جزءا منطقيا ومكملا لمجتمع التحديث في الشرق الأوسط، وهو مجتمع الثكنة وقانون الطوارئ. فأبطال الكاكي - البذة العسكرية لا يغيبون عن ناظر أحد ويجوبون الشوارع منذ أول صفحة. ويؤكد الراوي هذه الحقيقة حين يقول إنهم لم يعرفوا في حياتهم غير الحروب، وكان القصف يبدأ منذ بواكير اليوم ولا أحد يعرف متى ينتهي ص11. ولكن ثورة العمة لا تستمر مثل تحرير سارة لنفسها (تهرب من الدمام إلى لندن)، ولا مثل انقلابية سعاد حسني (تهرب أيضا من القاهرة إلى لندن)، وإنما تنتهي بغضون أسابيع هي طول فترة علاقتها مع فارس أحلامها الأول إبراهيم، الشاب المحبوب الذي تضحي بعذريتها في سبيله. وهكذا تفقد كنزها الغالي وأمام عينيه، وفي مستودع أو غرفة مهجورة خالية من الأثاث، وتذكرنا بمطاعم وغرف بيوتات همنغواي المظلمة والباردة والفقيرة. وهذا يعني أنها دليل على مجتمع حرب واقتصاد طوارئ ص43.

ولا بد هنا من ملاحظتين.

الأولى هو أن الاغتصاب جرى بدم بارد وعن عمد. ولم يرفع إبراهيم يده للدفاع عن شرف حبيبته - والمفروض أنه رجلها ص 43. وزيادة في القهر يظهر بعد ثلاث سنوات برتبة "ملازم ثاني" يركب سيارة ص 39. وهي ولا أدنى شك سيارة السياسة البطريركية وأيضا سيارة مجتمع الهزيمة. وكأنه يركب محبوبته بصفته الرجل البديل، أو صورة للرجل الحقيقي الذي أكل كل شيء.

الثانية أن الضحية لم تدافع عن نفسها، وقررت أن تنتقل إلى الخطة باء وأن تخرج من الباب الخلفي بهوية مزورة. فهي في إحدى المراحل تفكر بخياطة شرفها المفقود ص44. ولا ضرورة للتعليق على هذه العبارة، مع أنها قصيرة مثل تاريخ العمة مع التمرد.  ناهيك أنها تفيد عكس الأطروحة، ولا سيما أن العمة مسحت نقاط شرفها الضائع بصمت وحنكة، وغادرت هذه النقطة العمياء من سيرة حياتها برأس مرفوع.  وأقرأ ما سبق على أنه دليل دامغ على لا أخلاق مجتمع الهزيمة وفساده، وتأجيل لعقلية المقاومة، وإبرام صلح نفعي وبراغماتي بين الواقع والوعي. وهو إجراء اعتدنا عليه في الثلاثية. فالرواية رقم 2 تسرد وقائع استدراج وتخدير سعاد قبل أن يغتصبها رجل المخابرات، ثم يحولها إلى ورقة ليلعب بها. ولا يمكن أن تتوقع أكثر من ذلك من نساء الطبقة المتوسطة في مجتمع يتخبط بين عدة احتمالات، ماضي الفتوحات العسكرية باعتبار أنه نقطة معيار للأنا الأعلى. وحاضر الفتوحات العسكرية باعتبار أنها تحاكي نهضة الأمة في القرن السابع، مع فارق أساسي، أنه كان لهذه الأمة نبي سياسي وديني، بينما توزع الحاضر على عدة أنبياء لا- دينيين، وبقيت الهوية الروحية تحت الأرض معلقة ودون تجسيد، أو أنها أصبحت رهن مقولات أسطورية مثل الغيبة الكبرى والغيبة الصغرى وزمن الضعف والانتظار (يقول عنه سليمان فياض: زمن الصمت والضباب، وهو نموذج آخر على إيديولوجيا الردة عند القوميين).  وربما لم يتفق كتاب الحداثة على شيء - ضمنا الحداثة بعد الطبيعية مثل اتفاقهم على تعتيم ألوان الطبيعة والحياة واللجوء لمكياجات وديكور قوطي أو قروسطي، ومن أشهر أمثلته أجواء كافكا الكابوسية.  ويبدو هذا الخلل بنيويا وهو جزء عضوي من السردية الحديثة. فكل النساء مهزومات سلفا، حتى فيما يسمى أعمال المقاومة لا تهرب المرأة من مضمونها الأوديبي وتتحول إلى اثنين في واحد أو ما يعادل نصف امرأة ذات دورة بيولوجية كاملة - معدلة إلى حد ما عن جهاد النكاح. وهي لا تصل ولا حتى لمعنى المرأة المقاتلة في القرون الوسطى والتي رسمها الخيال الشعبي في سيرة الأميرة ذات الهمة (انظر دراسة وين جين أويان لهذه الظاهرة). وبالتأكيد وراء ذلك حساسية تاريخية تتحكم بالسرد العربي الحديث مقابل تصور خيالي مريض ومبالغ به يسجله السرد الشعبي.

وإذا لم تكن العمة بطلة خارقة مثل ذات الهمة فقد احتفظت بجانبين من جوانب الأدب الشعبي.

الأول هو الصدفة. وتلعب دورها بإحكام وتحرك دفة القارب، وبهذا السياق يصفها الراوي في مستهل الفصل الثاني: بأنها الاسم الآخر للمشيئة ص 47. وهي مفردة محببة لكاتب من نوع نجيب محفوظ الذي ينظر لكل شيء بمنظار استسلامي وبكثير من اللامبالاة، مع الحرص على كتمان طموحاته الضخمة وتحويلها إلى مشقة وكدح متواصل.

الثاني  المفاجآت. وتبدو كأنها ترجمة لخطط غير مبيتة وتنفيذ ارادة إلهية مؤجلة مثل زيارة العمة لبيت إبراهيم واغتصاب الخال لها (ويسأل الإنسان نفسه: أين كان البقية أثناء هذا المشهد الملحمي الذي لا يختلف عن طقوس المقابر). ودائما تنتهي المفاجآت بتبديل الأقنعة، وهي فكرة محورية تساعد الشخصيات على التنكر للواقع (فسمعان مثلا تناديه العمة إسماعيل). وأرى أنها حيلة لا تختلف عن خياطة شرفها. ويمكن إضافة الحالتين لرصيد التخلف السياسي. وهذه إحدى حسنات الرواية، أنها تدخل إلى غرفة السياسة من باب المجتمع بعكس "سعاد والعسكر" التي كانت تروج لنفس هذه المعايير ولكن بلغة سياسية مكشوفة. ومع ذلك تحتل العمة مكانة درامية أعلى في سلم شخصيات والي. فهي تستسلم لحقل الألغام الذي ترعاه التقاليد والسلطة الحاكمة، وتغامر بالزحف فوق حقول الموت هذه. وتتدخل الصدفة لجانبها عدة مرات، وتورد بأصدقائها الذكور موارد التهلكة. ولا يبقى معها غير صبري، الولد الصغير. وأعتقد أنه ليس شاهدا فقط على حياة العمة، ولكنه بديل آخر لها، مثل الحرب التي يشرحها والي بين قوسين بسؤال متكرر (أي حرب؟). وهذا قاسم مشترك يجمع بين الثلاثة.. الولد والعمة والحرب. فالثلاثة أرض ليس لها اسم على الخريطة ولكن لهم وجود في الواقع. وطبيعة العلاقات في هذه الرواية رغم بساطتها تعتمد على التقابلات، بين شيء محدد وآخر لامتناه. مثل الرابط الذي جمع بين إسماعيل - أو سمعان وصديقته القديمة هناء. وهو الدخول في دورة عذاب وألم مشترك.  ولا شك أنها تجربة مازوخية - ذات منشأ أرواحي كما ورد بالحرف الواحد ص62. ومثلما تكون السعادة مزيفة إذا لم تكتمل بمجتمع آمن ودائم، يكون الشقاء تجربة روحية تشد الإنسان إلى قدره المحدد سلفا. والتعبير أيضا لوالي - وورد على لسان ابن الأخ راوي الأحداث ص62. ولكن المشكلة هي في طريقة إدراك هذا الوعي. هل هو معرفي كما في حالة الفنان إسماعيل، أم أنه تجريبي ووجودي كما هو شأن حالة المرأة الرقيقة هناء.  ولذلك يجدر بنا ملاحظة أن الولد الصغير لم يكن راويا عليما، ولا شاهدا منفردا على الأحداث، ولكنه جهاز لاقط للصوت مثل أي أداة تنصت. بتعبير آخر هو شخص واحد بعدة أصوات، وكان كل صوت يروي لنا مرحلة من مراحل تطور المجتمع العربي. وقد سبقه إلى ذلك بهاء طاهر في "نقطة نور"، ولكن ظاهريا توحد الأحداث ذاكرة الصبي عند والي والبناية القديمة عند طاهر، مع قاسم مشترك يجمع الاثنين، وهو  حالات الاغتصاب وارتكاب الخطايا بشكل متكرر، حتى أنك تعتقد أن كل البنات في البناية بلا شرف، وكل رجال والي بلا ضمير. وهو اتهام غير مباشر لمجتمع الهزيمة. فالشعب يختار أهون الشرين وهو التضحية بكرامته وسترها بقناع جليدي من الشعارات والمبررات المكيافيلية. والسلطة لا تجد طريقة مناسبة للامتناع عن تدمير نفسها ذاتيا وكأن المصائب هي التي تكفل للجميع الحياة. وهذا هو مدخل والي للفصل الثالث. ويناقش فيه موضوع الحرية والاختيار. ويتوقف طويلا عند الفرق بين معنى السعادة واللذة، ويكشف من خلال التأملات المسهبة وعيا شقيا بمعنى الطفولة. فهو لا يكتفي بتعريض ابن العشر أعوام وربما أقل لكل احتمالات الجانب المحرم في علاقة المرأة بالرجل، ولا ينتبه لموقف عمته الأخلاقي، ويركز على الطبيعة القسرية للرغبات والمتعة. ولا أقصد الاستجابة للغرائز والضعف أمامها - وهي فكرة موجودة وترمز لتخاذل السلطة أمام استغلال فرصة وجودها في الحكم، ولكن إلى المنحى الوجودي لمسألة الشرف. ولا تنأى رواية لوالي بنفسها عن هذه المشكلة، ابتداء من "بيت اللحم" - وهي عن حي البغاء في بغداد، وحتى "إثم سارة" - وهي عن رفض الجيل الجديد لسلطة الأب التاريخي أو لشبح الماضي القريب. وأكاد أجزم أن المغامرات الجنسية في أدبيات والي مجرد انعكاس لمافيا السياسة لا أكثر ولا أقل، وأن المرأة تسقط دائما إما ضحية لمعنى الأسرة الشرقية أو نتيجة لترتيبات أعدها لها القدر وكأنها يجب أن تدفع ثمن ضغائن وأحقاد آدم بعد حادثة التوريط بالتفاحة وعقوبة الهبوط. ويعبر صبري عن هذا المعنى بقوله: لتكون سعيدا وحرا عليك أن تشاء ذلك ص68 بمعنى أن سعادتك ملك يديك وليست منحة إلهية.  ولكن علاقاتنا محكومة بنظام لا معرفي ونفعي،  وهي ليست مطلقة ص67.

ولا ينفرد والي وحده بهذه الرؤية. وكل روايات مجتمع الهزيمة تصور بقدر متفاوت علاقة الجيش بالنساء، وجلسات السكر والعربدة جزء لا يتجزأ من هذا الجو. وفي وقت لاحق وبعد معاهدات السلام حل التاجر محل العسكري، وبقيت الصيغة كما هي.. سهرات حمراء تكون المراهنة فيها على شراء وبيع الأصول كالأراضي والمتاجر والبيوت بعد أن كانت مخصصة لبيع الشعارات والمناصب (قارن "قارب الزمن الثقيل" لعبد النبي حجازي مع "المدينة الأخرى" لخيري الذهبي). إذا أخذنا أول نموذج على أنه بكاء على أطلال مشروع حركات التحرير العربية، فالثاني بكائية على مشروع إعادة الإعمار، وتدهور الحالة العقلية للمثقف، ودخوله في السبات، طبعا، وهو تحت تأثير الثلاثي المعروف: الكحول والرشوة والنساء الجميلات. ويتفرع من ذلك أيضا موقف يلغي نفسه بنفسه، وهو تعبير آخر عن سياسة النفي والإثبات التي تتبعها الرواية، كلما ألغت رجلا من ذهنها وتهيأت لاستقبال غيره. وتتضح المشكلة جوهريا بعد دخول آدم مسرح الأحداث. وهو شاب صدفة كذلك، تلتقي به العمة في الحافلة، وتتفق معه على الهجرة، وخلال التخطيط لهذا الخلاص يتضح النفاق الذي تتبعه الدولة. فهي تنادي بإيديولوجيا شرقية وتعيش برأس غربي. ولا تخلو علامات سياسة السوق من أي صفحة من الصفحات، وتعبر عنه العمة بمانيفيستو الهجرة إلى باريس. وتكشف هذه الفكرة عن خلل عضوي آخر. فمع أن الدافع للهجرة هو الحرية المفقودة تحتل صورة الجنرال ديغول ذهن الأم. وبهذه الطريقة يغلق نجم والي الدائرة حول شخصيات يكتب عليها مصيرا واحدا لا ثاني له، وهو الخروج من ثكنة بغداد للدخول في ثكنة باريس. وما يتغير هو شرط عبودية هذه الشخصيات أو ورطتها الوجودية، من سياسة القدر الظالم إلى سياسة الحظ السيء (والعبارة معدلة لكن وردت على لسان صبري ص98). وأترجم معناها كما يلي: من غدر السماء لغدر الأرض.  وفي الحالتين أنت في سجن. الأول لعنة والثاني طبيعي ولا بد منه ص101.

القسم الثاني من الرواية يحمل عنوان "في خبر صديقاتها"، ولكنه لا يبدو فصلا آخر بقدر ما هو استطراد أو تفصيل. ويدفعني لهذه النتيجة عدة أمور.

أولا: فكرة والي أن الصداقة لا تقوم على التغاير ولكن على التشابه والتأكيد. وكما يقول في مطلع الفصل الخامس: الإنسانة تعرف من صديقاتها ص109. بلغة أخرى: الصديقات تجسيد لأجزاء نوعية من الذات.

ثانيا: العشوائية في الصداقة. فهي لا تحصل استجابة لدافع أو اتجاه معين، ولكن بالصدفة المحضة، أو ما يمكن أن نسميه الصدف الممكنة كاللقاء في غرفة الصف خلال أيام الدراسة الطويلة أو التجاور بالمسكن. وفي الحالتين يوجد إكراه على التقارب تفرضه الجغرافيا، بمعنى أنه انتماء إلزامي وليس التزاما طوعيا. ويوجد مثال ممتاز على هذا الأسلوب في رواية "حادثة النصف متر" لصبري موسى، حين تنشأ علاقة بين اثنين بسبب التواجد على متن حافلة مزدحمة بالركاب. ومثلها روايات السفر بالقطار لمسافات بعيدة مثل "قطار اسطنبول" لغراهام غرين، أو العلاج في مصحة  مثل "طيران فوق عش الوقواق" لشون أوكيسي. وفي هذه النماذج يلعب المكان الضيق دورا جوهريا لخلق فرص تعارف يتبعها نشوب اختلاف درامي. وهذا يفسر أسباب الخلافات الراديكالية بين العمة وفاتن وهي أولى صديقاتها. وبطلة الفصل الثاني. وهنا يخرج والي عن قاعدته السابقة، وهي تقديم شخصياته من خلال أفعالهم، ويتوقف مطولا عند صفات فاتن الفيزيائية قبل أن ينتقل للجانب العاطفي وأخير الأخلاق، أو أسلوب توريط الجنس الآخر.  وأعتقد أن هذا هو أول اختلاف جذري بين الصديقتين. فالعمة لا تفتعل صداقاتها، أما فاتن فتحسن التدبير والتخطيط لكل شيء، ولا سيما توفير الخلوة ص112. واستغل والي هذه النقطة لينبش في تاريخ وذاكرة بغداد. ولكن سمحت العمة لهذه الفرصة أن تفلت من يدها، ولم تقدم لنا معلومات عن جغرافيا المدينة، واهتمت بالطباع والأحوال، وهو أكبر وآخر اختلاف مع صديقاتها. ويمكن أن تقول إنه لم يتوفر عنصر واحد يجمع نساء الرواية باستثناء المكان الضيق، وكأن بغداد تحولت إلى حرملك تقطنه نساء رجل واحد.

وكما أرى تنفرد هذه الرواية بعودة الكاتب لمدينته المفضلة بغداد، بعد سياحة طويلة في الخليج العربي وأوروبا في "إثم سارة"، وسياحة أطول بين مصر وشمال أوروبا في "سعاد والعسكر".

ولكن هذه العودة لم ترتبط بأمكنتها فعليا. وعلى الرغم من النكهة المحلية لبغداد، والتي أعاد والي بناءها على مهل وبعاطفة رومانتيكية لم تتوفر للعمة ذاتها، كان ولاؤه الأساسي لخطابه العسكري. وكما ألاحظ كان مختلفا لحد بعيد عن خطابه الحضاري في "ملائكة الجنوب"، ثم خطابه الاجتماع سياسي في "تل اللحم". واختار تعويم لغة وتصورات "عمتي الرومانتيكية" فوق الظواهر الأسلوبية للتفسير الواقعي. وإذا تمسك بلغة الوقائع - أحداث منفصلة يتناوب عليها علاقات إضافة وحذف. وأقصد بالاضافة ما يساعد على تطوير الحبكة، والحذف ما يساعد على توسيع رقعة الإبهام والإلغاز - وهذا لا يعطيه الحق ليدخل في زمرة الكتاب الواقعيين إلا إذا نظرنا لبناء العقل الطبيعي والتكويني على أنه واقعي.  ولكن والي يركب أحداثه دون أي تبرير،  ويقفز للنتائج دون أي سبب. بتعبير آخر الحبكة جاهزة والشخصيات مفصلة. فهي حاملة للأحداث فقط ولا تخترع شيئا من عندها، وكأنه يريد إحياء التراجيديا الإغريقية وليس تراجيديا شكسبير. بلغة أوضح القدر العسكري للمنطقة هو الذي يحدد المصائر، ويلعب رجال الأمن دور إله يمشي على الأرض، ويبدلون اتجاه وقدر الإنسان لأنه غير مخير وليس له الحق باتخاذ أي قرار.  وعلى هذا الأساس يقف والي محتارا أمام شعار المقاومة، ولا يعرف لمن يدق الحاكم طبول الحرب. لعدوه الوهمي والمفتعل أم لذاكرته وبقاياها. ويترك الجواب معلقا في الفراغ، غير أنه يقدم تصورات غير مباشرة عن الوعي الدرامي الباطن للسلطة.

ولا بد من توضيح آخر صفتين.

الوعي الدرامي هو السيناريو المفترض لإدارة الصراعات، بمعنى أن المتهم هو القاضي نفسه، ولذلك لا يوجد أحكام غير مزاجية أو غير منحازة.

أما الوعي الباطن فهو الحقبة المنفصلة عن واقع الشخصيات، وهي بالضرورة جزء من نظام الأخطاء ونقاط الضعف التكوينية والتي يرغب الحاكم بإتلافها. ولذلك يحرص والي على بناء مدينة للرئيس داخل أسوار مدينته التاريخية، وهو ما يساعد على إغناء شهادته عن السلطة وتجاوزاتها. وأوضح مثال عن ذلك الفصل الخاص بشارع حيفا أو مدينة السيد الرئيس. وبتعبير نجم والي مدينة الحاكم. ومع أن الهدف المنشود تقديم خدمات لشعبه تبدو وكأنها تجديد لأخطائه أو تجميل لماضيه.  ويلعب والي بشخصية منار، أجمل بنات شارع حيفا، وعوضا عن أن تكون رمزا للأخطاء والانحراف تتحول إلى تمثيل لانزلاق السلطة من تحرير المدينة إلى تحديث الأخطاء والانحرافات. فالماضي يكرر نفسه وبوتيرة أعلى، لكن تحت أسماء مختلفة. وتكشف منار هذه الخدعة بحرق نفسها. وبذلك تسمح للعمة برؤية المجرم الحقيقي وراء هذا السيناريو وهو المقدم فاروق. وسبق له أن ظهر في مقدمة الرواية باسم خال إبراهيم.  وإذا تسبب بحرق وتشويه منار في الوقت الحاضر، فقد اغتصب العمة في الماضي.

ويذكرني شارع حيفا بحي الطرب - وهو شارع للبغاء الرسمي، ويعبر عن رذائل الرئاسة وتداعيات حروبها العبثية. وهذا اصطلاح آخر أصبح أشهر من نار على علم. ولا يوجد أديب عراقي لا يدين هذه السلسلة اللامتناهية من حروب أفقرت الدولة وخربت مشروعها التحرري. وواقع شارع حيفا قد يكون انعكاسا لاشعوريا للحياة في حيفا بعد الاحتلال كما لو أن سلطة الثورة (التعبير لوالي) لا تختلف بذرة واحدة عن قوات الاحتلال في إسرائيل، كلاهما يحتل الإنسان أولا ويضعه بموقف أضعف من الأرض، وهو تجريد سريالي وتشييء للعاقل، وتسخير له ضمن دورة النظام وليس دورة الحياة ولا الإنتاج. أو بتعبير والي في مستهل القسم الثالث من روايته: تحويل الطقس إلى فوضى ص163.

عموما يمكن تلخيص الرواية بثلاث محاور.

الأول ذهني. وارتكب فيه الراوي عدة أخطاء استراتيجية وهو يصور تهور وطيش الشباب في تلك المرحلة، وشيطنة النظام لمعنى الحرية، وفرض إيديولوجيا الدولة على أنها هي الحق الوحيد المتاح لهم. وربما لهذا السبب كانت كل نهاياتهم تراجيدية وتنتهي بالاختفاء غير المبرر كأن الارض تنشق وتبتلعهم.

الثاني اجتماعي. ومارس فيه الراوي هوايته المفضلة وهي التلصص على أسرار النساء. وأعتقد أنه كان يؤدي طقسا فرويديا نموذجيا وهو العادة السرية أو ارتكاب الزنا بالريموت كونترول. وربما لا يخلو هذا المنطق من زنا محارم. ليس بالمعنى الحرفي ولكن بالإمكان أو بتوفر احتمال رديف. فنساء العمة هن مكونات حياة العمة. ولنأخذ منار على سبيل المثال. ألم تحل العمة مكانها في دكان بيع الزهور. وكذلك  بالنسبة لفاتن، تقاطعت مع العمة في التنقل بين عدة رجال، وكانت كلتاهما تتبعان قانونا واحدا.. الانتشار والإزاحة. وفي كل حالة تقدمان نموذجا من نماذج العطب المتعددة التي أودت بالمجتمع العربي إلى التهلكة. أو ساعدت على إسقاطه في هاوية تبعتها غيبوبة حضارية لا نزال نقطف ثمارها، بمعنى مصادر الشقاء والعذاب المترتبة عليها. هذا التماهي في الميول والاتجاه وضع صبري في موضع الكبائر، وجعله يخطئ مع بدائل ناعمة وكأنه يخطئ مع عمته ولكن على مراحل. وفي كل مرحلة ينتبه لخطأ استراتيجي في مقاربته. ومن ثم في مقاربة السلطة بشكل عام لتبعياتها. ومن المؤكد أن الراوي خان عفاف عمته مع أن المفروض أنه حجاب تختبئ وراءه. وبالمثل فشلت أجندا السلطة، ودخلت في الغسالة الوجودية، وهكذا اكتشفت الضعف الذي تعاني منه. هذا غير سلطة الوهم التي تقتات عليها.

الثالث اقتصادي. وهو يخلو من الإضافات الهامة للأحداث لكنه يحفر في شبكة العلاقات السابقة حتى يفضح الأساليب اللصوصية للدولة (بلادنا التعبانة كما يقول والي ص207). ويكشف هذا المحور عن مظاهر التعب (غزو الكويت ثم الانسحاب منها، وما ترتب عليه من فساد وانحطاط على جميع المستويات، وبالأخص جفاف المصادر،  أو ما يعتقد والي أنه مواقف استفزازية للنساء، وسلوك عشوائي ومتهور للرجال. وبالنتيجة لا يجد أي شخص نفسه في مكانه، وإنما في مكان غيره.. جمال يقترن بفاتن مع أنه يريد عديلة، وفاتن تسرق زوجها وتهرب بالسر مع أخيه، وثمار تعيش بمفردها دون طلاق تحت سقف واحد مع أخ زوجها الغائب. ولا يمكن قراءة كل هذه المصادفات على أنها إرادة إلهية، ولكن هي نتيجة للقراءة الواقع بالمقلوب. وهنا يمكن القول إنه واقع لا هيجلي لكنه يتبع استراتيجية هيغل. فهو لا يعرف على أي ارض يضع رأسه (إشارة لكلام ماركس عن هيغل وأنه مثالي يمشي على رأسه كالبهلوان). 

وينهي هذه المحاور بمشاهد مطولة تعيد للذهن قيامة أليعازر أو موت وانبعاث تموز. ويختار لتوقيت القيامة شهر مارس (آذار بلغة المشرق العربي أو فصل الربيع وموعد الاحتفال بعيد الأم). ومن المؤكد أنه يضع يده على الجرح بهذا الخصوص، وينبهنا إلى ربيع القيامة وينسى أن يذكر أعياد الأم. لكنه يرعى منار في مرضها بعطف أمومي قل مثيله.  ومتى؟ في وقت سوق الأب إلى الجبهة للاشتراك بالقتال وانقطاع أخباره.

ويبقى البيت مرتعا للنساء والأولاد أو ميدانا لأم إلهية وملائكية تؤدي طقوسها بصمت بالغ. ولا ينسى أن يشبه أمه بورود الربيع أو بحديقة مزهرة. حتى أنها تبدل ثوبها الأسود بآخر مطرز بورود الموسم كلها، وتجلس على كرسيها بانتظار الغائب - مخلصها من محارة الأحزان، والعقل المدبر للبيت الذي تحول على يد النظام إلى مقبرة. ويختلف والي بهذه الأطروحة مع تصور هوميروس للبطولة الملحمية، وينفي بكل إمكانياته فلسفة عودة المحارب، ويضع بمكانها ما أود أن أسميه عودة الحياة. وتوجد أكثر من إشارة تربطه بالإنطلاقة المبكرة لزكريا تامر وقصصه الطليعية التي نشرها بعنوان "ربيع في الرماد".  ولكنه ينبهنا منذ البداية أن العائد سيشبه نفسه، ولن يتطابق معها. بمعنى أن دورة الموت لن تقود لدورة انبعاث، وستحمل الحلقة جزءا مفقودا. وحتى إذا حافظت الصور على نفسها لن تجد في داخلها مضمونها السابق. وكما يقول الراوي: ذاكرتنا ستقضي نحبها وتموت، وسترمم نفسها بنصف ربيع آخر أو ربيع شبيه ص223. ولذلك نهاية الحرب لا تعني نهاية الموت (والكلام للراوي أيضا) ولكن التهيؤ لمفاجآت من نوع آخر ص223.

بقيت مشكلة الجزء المفقود من الذاكرة الوطنية.

لقد توقف معها بعدة صفحات ليكتب نعوتها بدموع مآقيه. ولذلك أجد أن الراوي هو الرومانتيكي وليس عمته. وسرعان ما يكشف لنا أن النوستالجيا المتورمة لديه هي لما يسمى في أدبيات اليسار العربي الزمن الجميل أو مرحلة صعود حركة التحرير العربي بنسختها القومية ومساواتها بين الجنسين، حينما رفعنا شعار البارودة بيد والمعول بيد، وأحيانا يحل القلم محل المعول. ومن وراء هذه الواجهة ترفرف أعلام حمراء في زاويتها مطرقة ومنجل أبيضان أو قمر روسي وقمر صيني.  ولكن ما افتقدته في هذه الإشارات النوستالجية والباكية مصير هذا التحالف، والذي نجمت عنه عدة خيبات وطنية، وانشقاقات خربت الجسور بين العمق والواجهة أو بين اللاعبين على الأرض، وهم أطراف اليسار المزعوم.

وأعتقد أن مصير الزمن العربي الجميل كان مأساويا لأن رموز تلك الفترة لم تحسم خياراتها، واختارت أن تعيش وراء أقنعة غامضة، وهي بدورها تعبير مضطرب على تداخل المحاور، وعدم وجود روابط عضوية بين ما هو قومي وما هو أممي. ناهيك عن الاختلاف المرعب في تحديد دور الدين أو المشاعر الروحية التي تطورت في المجتمع تاريخيا حتى أصبحت جزءا مؤسسا منه. وكانت هذه النقطة هي أكبر غائب عن مشهد الرواية، من بين خمس ذكور وأكثر من سبع نساء لم تعبر أي منهن عن صعود المشاعر الدينية، مع أنها كانت محددا في أزمة حروب العراق، الموضوع الحقيقي للرواية. وكلنا نعلم كيف انتهى ذلك بإضافة عبارة الله أكبر على العلم العراقي. ولا أجد في نفسي ضرورة لمزيد من الإيضاح. لقد اختصر النظام طريقه، وقرر الصعود بالسلم إلى العرش، أو باصطلاح آخر إلى منابعه الروحية. ولا أفهم لماذا لم يخصص نجم والي شخصية تمثيلية لهذا الاتجاه. واكتفى بالنظر للمسألة بعين واحدة والاستماع للأزمة بأذن واحدة.

ومهما كانت الدواعي، تفكيك شعارات الزمن الجميل تقودنا بالضرورة لاكتشاف الخدعة التي تورط بها اليسار العربي. ولا شك أن إفلاسه على الساحة الداخلية أفسح الميدان للخط الديني، وأدى لهذا النزوح بالأفكار والمؤهلات حتى دخل في عباءة ديمقراطية السوق وليبرالية نصف العالم الغربي. ومن بقي متمسكا بإيديولوجيا المقاومة نهش إرادته الفساد من طرف والرجعية اليسارية من طرف آخر، وهي بذرة ميتة لن يكتب لها الحياة والبحث عن مصادر الضوء ومصيرها محتوم مثل سابقها المعروف باليسار الطفولي، مع فارق واحد أن وجه اليسار الرجعي والمتزمت متحجر ومغطى بطبقة تتراكم عليها ميوله البيروقراطية وغير التاريخية، بينما غلب على اليسار الطفولي روح تمردية وجدت صوتها وصورتها في أقلام نساء مجددات وانتحاريات أمثال ليلى بعلبكي وغادة السمان وكوليت خوري. والثلاثة من بلاد الشام. وأعتقد أنهن مقدمة لستينات جيل غاليري 67 في مصر، ولرواية الأصوات في العراق. 

ويمكن إجمال خصائص سردية الزمن الجميل بثلاث نقاط.

الأولى أنها بصيغة الماضي، ولا أفهم لماذا لم ننتبه في الوقت المناسب لجماليات عصرنا. وكل الأعمال التي تندرج في هذا التيار تشير من قريب أو بعيد لمجموعة من التجاوزات الأخلاقية التي تبلغ درجة استفزاز المشاعر أحيانا. أو أنها تتعامل بحقد وشماتة مع جيل الأب والجد. وبصراحة لا تخلو معظم تلك الأعمال من صعاليك ولصوص يمثلون روح التمرد بوجهه السلبي. حتى أخلاق اللص الشريف غير متوفرة ولو بأدنى درجاتها، وترتكب كل الموبقات دون أي مبرر منطقي باستثناء كسر المحرمات.

الثانية يغلب على هذه الموجة منطق البحث عن الزمن المفقود. ويجب ملاحظة التخبط الذي نستعيد به تلك الأمكنة. وهذه نقطة عجيبة فعلا، أن نقرأ المرحلة ليس بصفة أنها طور من أطوار الحياة والتطور، ولكن باعتبار أنها مكان قديم وغائب وتغلبنا النوستالجيا له. بتعبير أوضح نتناول تلك المرحلة من خارجها، والعازل لا يتوقف على المسافة الزمنية، وإنما على البعد المكاني. ولذلك يكون السرد إما من وراء الحدود (في المهجر) أو من خارج التراب الوطني - بسبب النزوح والتشرد.

الثالثة والأخيرة أننا لا ننتبه للفارق الوجداني والحضاري، ولا لدرجة العذاب الذي نخلفها وراءنا، ويبقى في أذهان جمرة أيام الشباب المنصرم. ولذلك أرى أن هذا الحنين مرضي ويعبر عن الرهبة من الموت والخشية من تقدمنا بالعمر واقترابنا من لحظة الرحيل. وهو مجرد إعراب عن تشبثنا بشرط البقاء لا أكثر ولا أقل. وإلا لوجب علينا ملاحظة تشابه اليوم مع الأمس، وتوسيع حفرة السقوط الحضاري وتراكم عذابات وآلام مجتمع امتنا إن لم نقل  دولة الأمة. وإذا عانينا من نكبة عام 1948 فقد دخلنا بعدة نكبات متلاحقة  لم تكن أولها حصار بيروت عام 1982 المسؤولة عن أول نحر وتضحية بحركة التحرر العربية، ولن يكون آخرها إفناء غزة عام 2023، وتحول رمز المقاومة في فلسطين إلى ورقة يساوم عليها الشرق عدوه الغربي.

ولا يبتعد نجم والي كثيرا عن هذه النبوءة. فالعمة الرومانتيكية تبدو في آخر شوط من الأحداث بوجه مسن تراكمت عليه دلائل موت الماضي الجميل. زد على ذلك - والكلام على ذمة الرائي وهو راوي سيرة العمة: أن وجهها افتقد الالتماع الذي كان يراه في عينيها. وكذلك نظرتها الحالمة. ماتت. وحل بمكانها شيء حيادي.. نظرات خاوية تتصل بشيء مجهول. وعلى الأرجح هو مآل اليسار العربي وحركة الشباب الطليعي ص304-305.

***

صالح الرزوق – أديب وناقد ومترجم

.......................

*صدرت عن دار روايات في الشارقة عام 2024 وبـ 325ص.

في المثقف اليوم