قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في رواية (الشهر الثالث عشر) لأحمد سعداوي

الفضاء المتصل وكينونة العوامل الروائية

توطئة: تستدعي آليات الفواعل السردية القائمة بين زمني (الحكاية ــ الخطاب) تلك الجملة التمثيلية من العلاقات المتتابعة عبر مواقع الأوضاع الأحوالية الناتجة من أوجه تبادلات أوجه عناصر (الحكي ــ الصوت السردي ــ حدود الموقع الزمني) ومن هذا المنطلق تتوالى مستويات وتمظهرات العملية التراتيبية في محاور رواية (الشهر الثالث عشر) لأحمد سعداوي، إيذانا ببروز السارد (المتماثل حكائيا) عبر حدود مواقع الذات التي تحكي، انطلاقا من مواقف سياقية موغلة باعتبارات الإقامة في مرجعية نمو الوقائع والأحداث القائمة بموجب فضاءات زمنية معدولة في مؤشراتها التحيينية في التعيين ودلالة المحدد الزماني والمكاني المستعار والمقرر كوصفة ملامسة في التوزيع الأفعالي وليس في المؤطر المفترض من مستثمرات النص في مرحلة السير ذاتية الزمانية والمكانية والصفاتية.

ــ الصوت السردي وفضاء التمثيل في مواقع الحكي.

إن ما يبدو لنا في واقع الوهلة الأولى من زمن نواة رواية (الشهر الثالث عشر) ليس ذلك التعدد في الأصوات السردية، بمقدار ما كان ذلك التعدد في (الصوت السردي: السارد ــ الشخصية) وذلك بالإضفاء على إعادة تمثيل فاعلية المسرود عبر أوضاع مخصوصة في تقديم (التعدد الصوتي = فاعلية السارد) فيمكننا معاينة ذات السارد عبر وجهات متضامنة تقوم فيها الشخصيات وهي متبلورة داخل مساحة حضورها الفردي، غير إنها من جهة أخرى تبدو سرديا منظمة في زاوية تركيز (صوت السارد ــ منظور مساحة الآخر) أي إن العلاقة القائمة متضامنة في الظاهر، إلا إنها مختلفة في وجهات الفعل وسياق الإقامة في الأدوار والوظيفة.

1ــ الصياغة المعادلة بأدوات المبثوث العلاماتي:

إن طبيعة وظائف الأشياء في الواقع المعاش قد لا توحي لنا إلا بخطوط إجمالية موغلة في مسارها الدلالي الكمي في حاصلية المادة والوجود المادي، إلا إنها أي تلك الدلالات المكونة من عناصر الطبيعة عندما تتحول إلى داخل مساحة طاقة متخيلة، سرعان ما تكتسب حالات إضافية في ذاتها المادية، لتتحول إلى جملة لغات بلاغية قوامها (الاستعارة ــ المجاز ــ الرمز ــ المرمز ــ العلامة) وهذه الأنواع كفيلة في ضم مقصودية هذه المرسلات من حيث حساسية المتخيل، ما يحيلها إلى سلطة في المكان والزمان والفعل داخل حسابات حالة نوعية من الفعل السردي.في الواقع تباشرنا في انطباعات القيمة الاستهلالية في رواية (الشهر الثالث عشر) ثمة أفعال خاصة لها وظيفة الطابع الواقعي المباشر في مرجحات السرد الدال، وتتخذ لذاتها معايير خاصة من (الرمز ــ الإحالة ــ المتشكل بالوسائط) وبوسعنا تأشير وحدات هذه الجمل قاب قوسين مثالا: (حين مر طائر هدهد غريب، لا عهد لأحد هنا برؤيته سابقا، يتهادى بطيرانه ما بين جذوع النخيل وأغصان أشجار الحمضيات./ص5 الرواية) بوسعنا ها هنا فهم بأن قراءة هذه الوحدات، ما لم تكن من ضمن مفهوم النمط السردي الخارج عن علامات ومكانة (الاشارة العابرة) بل يمكننا عدها معا متتالية من الفعل المفرط في العلامة والإحالة في المنظور وإمكانية بلوغ الثيمة كصورة فرضية لها مداليلها السياقية والدلالية في حكاية وخطاب الزمن السردي. وعندما نتابع من جهة أخرى في تشكيلات الواقع النصي، نعاين أن تحول حضور الطائر في المكان الخاص من حيز قرية ــ الأمجعبزة ــ لا يغير من سمات عودة الشخصية عايد عبر مساحة صورته السردية المتماثلة إلى النمط الماقبلي في الملامح والسحنة والهوية والهيئة، خصوصا وهو ذو النسب والمقام، فهو الأبن البكر لأحد أثرياء ووجهاء قرية ـ الأمجعبزة ــ فالشيخ ظهد صاحب أكبر الأفدان الزراعية في هذه القرية النائية ذات الأسم الغير مألوف على حافظة ذاكرتنا.

2ــ التخييل الروائي ونسيج الواقع المتخيل:

إن القراءة التحليلية إلى وحدات فصول رواية (الشهر الثالث عشر) تكشف لنا مسلمات واقعية على نحو جلي من صبغة الأحداث والوقائع الأكثر محلية في صيغتها الأسلوبية والشكلية والدلالية، فهي لا تتعدى كونها قابلية خاصة من بلاغة الوصف وتوزيع الأدوار الشخوصية على محاور وعناصر يسودها الحس القروي والحجاج التي تمتاز فيها دراما البادية وبعض مستوى من الدراما العراقية الخاصة بوصف الأوضاع الشخوصية وأسرارها الفطرية في طبيعة حياة الأرياف في جنوب البلاد وبعض من المناطق الغربية.غير أننا نتعرف على أن عايد كان طالبا في جامعة تقع في عاصمة البلاد، كما كان مشتركا مع أقرانه في مسيرات تظاهرية ضد الحكومة السياسية في ظل عوامل زمنية غير محددة ومعرفة في أولى الفصول للرواية.ولكن نفهم من خلال مسار الأحداث بأن السلطة هناك، قامت بمجموعة اعتقالات لأهم أصدقاء الشخصية عايد، فما كان له من خيار سوى الفرار إلى قريته النائية حاملا حقيبته: (تشمم عايد روائح جديدة، غير التي كانت تأتيه من الأعشاب ورطوبة الأنهار وتخمرات الطحالب ـــ ظل ينود بحقيبته شبه الفارغة على الطرقات الترابية بخطوات مرهقة ومتكاسلة، متسائلا مع نفسه إن كان ـــ الشهر الثالث عشر من السنة ــــ قد أنتهى عنده بسرعة./ص6 الرواية) في الحقيقة أن مستوى مؤشرات رواية سعداوي موضع بحثنا، من الروايات التي تختص بما يسمى (رواية الأطروحة) فهي إلى جانب كونها رواية أجادت في معايشة دواخل شخوصها وتأثيث مساحاتها بذلك الاطراد السردي الثري الجوانب.إلا إنها في الآن نفسه بدت في مكونات موضوعتها محمولة ومحملة بذلك التأشير الزمني إلى ثيمة مدلولية حاسمة، حيث شغل فضاؤها السردي ذلك التلفظ الذي يناسب الدليل المرمز هدفا مرجحا: (الهدهد ـــ الروح ــــ الشهر الثالث عشر) ولا ينبغي لنا أن نمنح القارىء منذ أول مباحثنا للرواية موضع بحثنا، الصورة المدلولية للنص وقيمته الاحتوائية، خصوصا وأننا نود متابعة نمو الأحداث بصورة تدريجية، وإلا ما كان لنا في مقاربتنا هذه سوى عبق القراءة الصحفية الواهنة.أقول ينبغي أن نشتغل بادىء ذي بدء بمستوى الوسائط المتنوعة التي أغنت النص الروائي بمداليل تقانية مكثفة بأعتبارها المعايير الدلائلية والتداولية في صيانة تماسك الحضور النصي عبر المتن والمبنى، لذا فإن عودة الشخصية عايد من العاصمة إلى قريته تكشف لنا حافات المكون السردي في الاستعمال والوظيفة والمتغيرات في نزعة إطلاقيات السرد.

3ــ أحراش الاستعادة وجزالة حقوقية السلطة:

من الأكيد أن لكل روائي حسابات خاصة في مجال وظائف موضوعة سرده وروايته معا، فهناك اتجاهات كمية ونوعية في بواعث النصوص، تفصلها غائية من يتمكن على الإجادة في سرد حكاية روايته، بوسائل ذوقية وفنية. وذكية ففي جل الروايات المقروءة العراقية والعربية ما تصادفنا فيها موضوعية يومية مجتزأة من صورة حياة الكاتب، ولكن يبقى الفارق الوحيد في مهارة الكاتب على جعل هذه التفاصيل محض حدوتة منحدرة من موروث (جدتي!؟) أو أنها رواية ذا شأن في تشكيل فواعلها بطرائق أخاذة وفاعلة ومذهلة، أو أنها تظل مجرد أصدار فوق رفوف منجز ذلك الكاتب المعتد بذاته في المرآة والهوية والذي غدا لا يختلف كثيرا عن نجوم الغناء والرقص في مدينته الشعبية .طبعا نحن لا نود القول بأن سعداوي دفعتنا تجاربه الروائية في مجملها إلى تناولها تباعا، لا فقط نحن أحببنا التعرف على تجربته والتعريف بها كونها مستوى إصداري يميل إلى عدم تكرار موضوعته وأدواته في كل رواية جديدة من تجاربه.ولقد ارتكزت روايته موضع بحثنا حول مستوى معين من استعادات الشخصية عايد، خاصة بعد عودته إلى قريته إلى استعادة ملامح خاصة من طفولته التي تعكس ذلك الإيحاء المرسل، بأن الشخصية له كمالات كونه سليل ذلك الأب الوافر الثراء: (حين كان مجرد صبي صغير يتلفت من أيدي الخادمات ليهرب مع أبنائهن الصغار إلى المراعي، وينتف صوف الأغنام أثناء ما تأكل أو تشرب، كنوع من العبث ـــ أو يقطعون القصب ويصنعون منها خيلا افتراضية، أو سيوفا يتعاركون بها.كانت معارك آمنة ومواجهات بريئة./ص6 الرواية) من هنا نلاحظ ورود تقنية الاستباق وقد تعني في ما تعنيه الوحدات من أوجه تماثل عكسية بين (الماقبل ـــ المابعد = الإيحاء بالاحداث اللاحقة) وقد يكون الاقتران بموصوف ذلك (إنه طائر هدهد ـــ روح الانسان اللائبة) ومن شأن هكذا اقتران استباقي، أخذ يلوح إلى حدوث محقق قد لا تأتي به محاور دراستنا الآن، خاصة وإن إرهاصات الفعل الإجرائي العلائقي في بنية مباحثنا ما زالت في طور الممارسة الأولى والإضاءة الأولية إلى خيوط التكوين النواتي في بداية (حكاية = خطاب) إلا أننا لا نعفي أنفسنا من مواصلة الحديث حول زمن حكاية السرد وفي حدود إطارها الوقائعي المحفوف بالحديث عن حياة عايد ومحاولات اتصالاته الهاتفية بزميلته نسرين المشاركة في صفوف التظاهرات: (أراد عايد الاتصال برقم نسرين حال وصوله إلى بيت الميزر، ولكنه كان خجولا من فراراه الذي يسميه ـــ فرارا عميقا ـــ فهو لم يتراجع إلى الشوارع الخلفية للتظاهرات، ليحاول بعدها الاجتماع ببقية أفراد مجموعته ـــ وإنما غادر بغداد بأسرع ما لديه من طاقة وعاد إلى ناحية ريفية بعيدة./ص27 الرواية) يهتم سعداوي كثيرا بذكر أدق التفاصيل، وهذا الأمر ما يحسب دائما لصالحه كروائي يتحرى المهمول من تفاصيل حياة شخوصه الروائية، كما ونجد هناك حالات أخرى من الوصف في الرواية، كذلك الوصف المتأمل تعليقا حول دواخل شخصياته: (ماذا سيقول لها لو ظهرت له على الهاتف؟سيعتذر منها بالتأكيد.سينشر على مسامعها كل عبارات الاعتذار.. ولن يحاول تبرير ما فعل..لن يخبرها بالحقيقة، أنه يحب الحياة، ولا يريد أن يكون شهيدا./ص27 الرواية) أن طبيعة الوظائف المتمحورة للسارد بالشخصية وصفا أو تعليقا أو تساؤلا، هي بمجموعها من المقابلات التي يطلع من خلالها السارد أسلوبا متلفظا، يجس به ويقدم السارد أشد تداخلات الحالة الشعورية التي يحيا من خلالها الشخصية في عين اللحظة الأشد إلتباسا ومأزومية في كوامنه النفسية الواقعة.

ـ تعليق القراءة:

مع أن بنية موضوعة النص جاءتنا ضمن نوازع أداة السارد المهيمن، لذا وجدنا أغلب الوحدات محكومة ضمن دائرة منظور السارد ذاته، فيما ظلت أفعال وأحوال في علاقة يغلب على طابعها التحريك من قبل السارد سعداوي: ( في الليلة اللاحقة انتظر عايد سماع ضربات رقاص الساعة ــ ظل ينتظر حتى جاء صوتها جليلا ذا صدى متماوج./ص28 الرواية) وتكمن جماليات خطاب الفصول الأولى من الرواية إلى خاصية مميزة في البناء والاسلوب الروائي.إذ أن النص يتوفر على مناطق حوارية تتخللها مشاهد مستعادة وممسرحة من الذوات الشخوصية، وعلى هذا النحو تبرز مشخصات علاقات تصاعدية بالافعال والأحداث والأحوال، كثيرا ما تذكرنا بشريط الملصق الصوري، حيث تتداخل الأفعال والذوات في قلب الاتصال الاسترجاعي: (كان يحتاج لاسترجاع الحوارية كلها مرة بعد أخرى حتى يفهم ما جرى فيها بشكل جيد.. استذكر مسكة يده ليد نسرين في قلب التظاهرة، كان يشعر حينها وكأنها استغرقت دهرا طويلا./ص33 الرواية) لعل القارىء للفصول الأولى من زمن الرواية، يعاين طبيعة الفضاء الحاصل بموجب محاور الحكي، ورغم بروز وظائف الاسترجاع الزمنية ودوافعها النفسية والموقفية في دواخل الشخصية، إلا إنها بدت متصلة ضمن حركة فضائية موحدة في الكينونة ومسلمات مواقع الوظائف في الرواية الأكثر توغلا في حسية الإيحاء وفاعلية السرد الواصل وصراع الصور الذهنية في الخارج والداخل الروائي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

في المثقف اليوم